قراءات نقدية
علي ماجد شبو: مسرحية الكراسي وجلجامش.. العبث بين الجلالة والسخرية
فيما يلي رؤيا مقارنة بين ملحمة جلجامش ومسرحية الكراسي للكاتب الطليعي يوجين أونيسكو. لعل ذلك يثير التساؤل، إندهاشاً أو إستنكاراً، كيف يمكن أن تنشأ رؤيا مشتركة لعملين من " صنفين أدبيين مختلفين" وفي زمنين متباعدين، بمسافة تقارب " خمسة آلاف عام من الزمان "، أي بين نقطة أساسية في بدء تاريخ الحضارة الإنسانية، وبين فاصل يرسم زمن إنحطاط هذه الحضارة. بل والتساؤل الأهم، هو لماذا هذه الرؤيا المشتركة؟ وفي قناعتي هناك عدة إجابات، منها البسيطة، ومنها الأكثر تعقيداً، لكني سأستل من هذه الإجابات، جواباً متشعبآً واحداً فقط: إن هذه الرؤيا المشتركة تتفحص الشريط الفكري والإنساني بين هذين الزمنيين، كما تتفحص القوة والبطش مقابل الخنوع والذل، تتفحص الأمل وعلاقة الصداقة المخلصة مقابل اللا أمل وخواء العلاقات الاجتماعية والإنسانية، تتفحص الوجود والبحث عن المعنى الكامن فيه، مقابل الضياع والتيه المقنّع بأوهام إجتماعية، تتفحص حقيقة الموت والذعر الذي ينتج الطموح الي الخلود، مقابل إستبدال البحث عن المعنى سواء في الحياة أو في الموت، والإصرار على الإنجاز المضلل. وأخيراً لأن الفكر الإنساني بجبروته وعظمته في الملحمة، ينتقل الى فكر سائل يُفضي الى جميع القنوات، فكر رخو للتعادل وللتعامل مع الحياة العصرية.
ملحمة جلجامش إستحدثت سلالة من التساؤلات الوجودية، ومن التعمق في مفاهيم الموت والخلود كما في اللا معنى والعبث عند البحث عن جدوى الحياة، هذه السلالة مشحونة بجماليات مربكة، ومحفزة على التردد، إنما هي تنخر في عمق الوجدان الإنساني. إنها إعلان عن خيبة عميقة تمتد العمر كله، وفشل للتصالح مع الحياة كتوجه وكمعنى، وإنكار لحالة الضياع والتيه الحقيقي المنغمس به كحياة.
تروي ملحمة جلجامش قصة الملك العظيم جلجامش الذي يشرع في البحث عن الخلود بعد وفاة صديقه الأقرب والأخلص "إنكيدو". طوال سرديات الملحمة، يصارع جلجامش مع موته، أي مع حتمية الموت. يبحث عن إجابات لأسئلته حول المعنى والغرض من الحياة، وبشكل موسع البحث عن معنى الوجود. تستكشف ملحمة جلجامش موضوعات مختلفة، بما في ذلك الطبيعة الإنسانية، والرغبة في الخلود، وحتمية الموت، والبحث عن المعنى والجوهر للحياة، وأهمية الصداقة الحقيقية. كما يقدم نظرة ثاقبة لمعتقدات وقيم وثقافة بلاد ما بين النهرين القديمة. أي الثقافة السائدة في العالم آنذاك. وعلى نحو مماثل، تدور سرديات مسرحية "الكراسي التي كتبها يوجين يونسكو، حول زوجين مسنين يدعوان مجموعة من النخب ومن الضيوف إلى منزلهما للاستماع إلى رسالة كتبها الزوج ومن المفترض أن تنقذ البشرية، وتجلب معنى لحياتهم الخالية. ولكن مع تقدم أحداث المسرحية، يصبح من الواضح أن الرسالة لا معنى لها، وتقرأ من قبل رجل أخرس بحيث لا تعكس أي معنى ولا تترك أي أثر، على الإطلاق، ولكنها تترك الشخصيات تتصارع مع عبثية وجودها.
كتبت ملحمة جلجامش على ألواح طينية بالخط المسماري واكتشفت في أنقاض مدن بلاد ما بين النهرين القديمة (أي العراق حاليا). وهي تسبق أعمالًا أدبية مشهورة أخرى، مثل ملاحم هوميروس، بعدة قرون. أثرت ملحمة جلجامش على الأعمال الفكرية والأدبية والأساطير اللاحقة، بما في ذلك قصة نوح والطوفان في الكتاب المقدس.
كان جلجامش خامس ملوك أوروك، ويُعتقد أنه حكم حوالي عام 2700 قبل الميلاد. وبحسب سرديات الملحمة، كان جلجامش ملكًا قويًا ومتغطرسًا يضطهد شعبه. انزعجت الآلهة من سلوكه، فخلقت إنكيدو، وهو رجل متوحش ويعيش في البراري، ليتحدى جلجامش ثم يصادقه. عندما تم إحضار إنكيدو إلى أوروك، تقاتل هو وجلجامش في البداية، ولكن سرعان ما أصبحا صديقين مقربين، فشرع الاثنان معًا في مغامرات مختلفة، بما في ذلك هزيمة هومبابا المتوحش، حارس غابة الأرز، ومصارعة وهزيمة الثور السماوي الذي أرسلته الإلهة عشتار. بعد وفاة إنكيدو، أصبح جلجامش مهووسًا بالخوف من فنائه. عازمًا على العثور على الحياة الأبدية، لذلك فقد شرع في رحلة للقاء أوتنابيشتيم، وهو الإنسان الوحيد الذي وصل إلى الخلود. فقد نجا أوتنابيشتيم من الطوفان العظيم، ومنحته الآلهة الحياة الأبدية. واجه جلجامش في رحلته العديد من التجارب وتعلم دروسًا مهمة عن الحياة والموت، وحالة الوجود الإنساني. فقد واجه العديد من المخلوقات الأسطورية، وعَبَر الجبال الغادرة، ونجا من مواجهات مع رجال أشداء، كما إنتصر على وحوش الغابة.
ا
ثم وصل جلجامش أخيرًا إلى أوتنابيشتيم، وعلم منه بأن الخلود لا يمكن تحقيقه. فقد أخبره أوتنابيشتيم بقصة الطوفان العظيم وأوضح له أن الآلهة منحته الحياة الأبدية كمكافأة له على النجاة من الكارثة. كما أوضح له أيضًا بأن الخلود لم يكن مخصصًا للبشر كما هو حال جلجامش. عاد جلجامش بعد ذلك إلى أوروك بخيبة أمل كبيرة، ولكن بحكمة أكبر. وعلى طول طريق العودة، أدرك أهمية أن يترك إرثاً دائماً من خلال أعماله وإنجازاته. لذلك فقد عقد العزم على بناء أسوار عظيمة حول مدينته أوروك لحمايتها، وليؤسس لسمعة له قادرة على تجاوز الزمن، أي أن تدوم من بعده. وهي صورة أخرى من صور الخلود المنشود. يقول جلجامش: "سأقيم اسمي حيث تُكتب أسماء المشاهير، وحيث لا يُكتب اسم أي إنسان، سأقيم نصبًا تذكاريًا للآلهة".
أما في مسرحية الكراسي فنلاحظ تزاحم شديد جراء تساقط مفاهيم البحث في جدوى معنى الحياة، كما تتساقط من خلال المنجز الفردي، الوهمي، الذي يؤمّن ديمومة للفرد في ذاكرة المجتمع، أي أن يكتب في صفحة، هامشية ما، من تاريخ البشرية، ضمن جهود السعي الى الخلود. هذا التساقط يغزو كل جوانب المسرح بمظلات من اللا جدوى والعبث، ثم يسير بسكة دائرية مغلقة من لغة تعادي اللغة المنطقية، وبسخرية شديدة الحزن، ممزوجة بهزال حاد وكوميديا غير مترابطة، لتجلس على كراسي المسرح الفارغة وتملأ الفضاء ضجيجا، وتوسلا واحتجاجاً واستسلامآً.
مسرحية الكراسي ليوجين أونيسكو كُتبت عام 1952. وهي تصور زوجين مسنين، يعيشان في عالم فارغ، وموحش وبلا معنى. تدور أحداث المسرحية في غرفة فارغة وواسعة، ثم تُملأ بالكراسي الفارغة، كتعبير رمزي على فراغ حياة الشخصيات. تُوصف سردية المسرحية محاولة الزوجين فهم وجودهما، المفرّغ من الجوهر، عبر ترتيب لقاء وهمي مع ضيوف وهميين. يجلسون على كراسي فارغة تملأ المكان تماماً، ويتخيلون أن ضيوفهم، غير المرئيين، حاضرون ويشغلون جميع الكراسي. ثم يبدأوا بالحديث والتفاعل مع هؤلاء الضيوف، غير المرئيين، مما يخلق عندهم وهمًا مؤقتاً بلحياة، وذلك بإعطائها المعنى المفقود. ومع ذلك، يتم تدمير هذا الوهم بسرعة عندما يبدأ الضيوف الوهميون في الجدال المتناقض وغير المسموع. وحين يصل الخطيب المفوّه، فعلياً، والذي أُُستأجر ليقرأ رسالة الرجل العجوز التي يمكن أن تنقذهما وتنقذ الإنسانية جمعاء، ولكن هنا يتضح بأن الخطيب أخرس. هذا الحدث يجعل الزوجان مدركان تماما بأن محاولتهما لإعطاء معنى لحياتهما هي محاولة عقيمة وعبثية، حيث إن الحياة فارغة من كل جوهر، ولا معنى لها، وأن أفعالهم لا أهمية لها.
"الكراسي" مسرحية تتحدى المعاني التقليدية للغة المألوفة والواقع، مسرحية مستفزة، وعميقة تستكشف موضوعات فردية، واجتماعية، وإنسانية كالوحدة، والشيخوخة، والموت، والروتين اليومي والاجتماعي، والمعنى المفقود للحياة. يستخدم أونيسكو أسلوب لغوي يُمزّق ما هو منطقي في اللغة، لذلك فإن الحوار غير المترابط، وغير المنطقي، والمتكرر يعكس انهيار التواصل وعدم قدرة اللغة على نقل المعنى الحقيقي. ثم يضيف مواقف ساخرة، وحزينة وكوميدية لكشف المستور عن عبثية الحياة البشرية، وعن عقم البحث عن معنى لحياة بلا جوهر. المسرحية أيضًا تقدم نقداً للمجتمع الحديث وللحالة الإنسانية الراهنة، فالناس تعيش حياة مدجنة بالروتين وبالرتابة التي تفرزها ضرورات الحياة اليومية، مما يجعل رغبتهم أكثر إلحاحاً في البحث عن معنى لوجودهم.
لنرى إذن ماهي الروابط الفكرية والفلسفية بين الملحمة والمسرحية؟ في جلجامش نجد ينابيع التفكير الفلسفي، التي أخصبت معظم التيارات الفلسفية، فيما أعقبها وعلى مدى التاريخ. فمحاولات جلجامش الإنغماس بالملذات الشخصية وخاصة التعامل مع رعيته بتعسف شديد، وبإستكبار، وبإستبداد، ولكنه كان أيضاً يقف بتحدي بطولي لقوى ذلك الزمان، وكان يأمل، عبر محاولاته الى فهم روابط الصداقة (مع أنكيدو) الإنسانية، ومحاولة إيجاد فهم معمق للحياة، وكذلك معنى لتفسير ظاهرة الموت، والتوق للانتصار عليه بالتمسك بالحياة أي بالخلود. كل هذه العناصر الفكرية صبت في الكراسي، بعد أن ترشحت، على مدى القرون، عبر تيارات فكرية وفلسفية، لتصوغ " الكراسي" أفكارها وفلسفتها مبنية على الإرث السابق، وعلى طبيعة الحياة البشرية المعاصرة، أي الممارسة الفعلية لفلسفة اللاجدوى في البحث عن " معنى " للحياة، وعن العبث في الاستمرار بحياة ليس لها من " جوهر "، ومعنى، ومن وجود دائم التشكك بكنهه، باحثا عن " ماهيته ".
دور الزمن في الملحمة والمسرحية
إن حركة مسار "الزمن" كمفهوم في ملحمة جلجامش وفي مسرحية "الكراسي" يأخذ مسارات متعددة ومختلفة. فكلاهما يستكشف مفهوم الزمن، بشكل عام، ولكنهما يسلكان طرق مختلفة لتلمس معاني الزمن. تؤكد الملحمة على حتمية انقضاء الزمن وفناء البشر، بينما تطرح المسرحية الزمن بإعتباره مفهوم دوري، وروتيني، لا معنى له في الوجود الإنساني، بل يُضيف تأكيداً على اللا جدوى التي تحكم الحياة والوجود بصورة عامة.
أولاً. لا شك أن الزمن كان عنصرًا دائماً وحاسمًا في كلا النصيين، مما يؤكد على الطبيعة الانتقالية والمؤقتة للوجود الإنساني. ففي "جلجامش"، تمتد رحلة البطل لفترة طويلة من الزمن وهو يسعى إلى الخلود، لكنه يدرك في الأخير أنه مهما استطالت الحياة فهي بالنهاية حياة محدودة، فالزمن هو تذكير دائم بالفناء وبحتمية الموت.
ثانياً. أما في "الكراسي"، فيكون للزمن دورًا مختلفًا، حيث تنتظر الشخصيات بفارغ الصبر وصول ضيوفهم غير المرئيين. ومع مرور الوقت، يزداد ترقبهم ويأسهم، مما يسلط الضوء على عبثية انتظار رسالة، يُفترض بأنها ذات معنى، ولكنها لا تأتي أبدًا. إن المسرحية كما الملحمة، تبرز الزمن كتأكيد على الطبيعة العابرة والمؤقتة للوجود الإنساني، وعبثية إضاعة الزمن في مساعي لا جدوى منها، بل هي مشروع لفقد الأمل.
ثالثاً. يتسرب الزمن في ملحمة جلجامش كقوة جبارة لا يمكن السيطرة عليها أو الهروب منها. فبعد الرحلة الشاقة والطويلة، يعود جلجامش خائباً، حيث إن "الخلود" المنشود لا يمكن تحقيقه للبشر، وأن الموت أمر حتمي لا مفر منه. تطرح الملحمة حقيقة أن الزمن هو جانب ثابت، وغير قابل للتغيير، من الوجود الإنساني. لأنه بغض النظر عن مدى سلطة وقوة الشخص أو تصميمه، فإنه لا يمكنه الإفلات من تسرب الزمن ولا من الخاتمة النهائية لحياته.
رابعاً. في مسرحية "الكراسي"، يُطرح الزمن كمفهوم دوري مغلق، وروتيني ولا معنى له. فانتظار الزوجين لضيوف وهميين والتحدث اليهم بانتظار الخطيب الذي سيتلو رسالتهم التي ستنقذهم كما تنقذ البشرية، هو الشكل المثالي لعالم من الوهم. مما يرمز إلى عدم جدوى وجودهما. إن تكرار نفس الأحداث وعدم وجود أي نتيجة ذات معنى يوحي بأن الزمن عبارة عن دورة لا تنتهي ولا هدف لها ولا أهمية. إضافة الى إن تصرفات وهزالة الشخصيات، والسردية الدرامية والكوميدية الساخرة التي تتبناها المسرحية تؤكد على حقيقة أن الزمن لا معنى له في النهاية، وأن الحياة عبارة عن سلسلة من التجارب الزمنية الروتينية، والمتكررة والعقيمة.
التشابه بين جلجامش والكراسي
أولاً. على الرغم من الاختلافات في الشكل والأسلوب والسياق الثقافي، فإن "جلجامش" و"الكراسي" يتشاركان في أوجه تشابه موضوعية عميقة في استكشافهما للحالة الوجودية الإنسانية. يتعمق كلا العملين في البحث عن المعنى، وعزلة الوجود، ومسيرة الزمن التي لا هوادة فيها، والطبيعة العابرة والمؤقتة للوجود الإنساني. يقدم "جلجامش" انعكاسًا خالدًا لهذه المواضيع من خلال منظور إستثنائي يبرز في طيات هذه الملحمة القديمة. بينما تقدم مسرحية "الكراسي" منظورًا أكثر حداثة، وعبثية حول نفس الاهتمامات التي تشغل الوجود الإنساني، وترصد الأسئلة الكبرى، ولكنها تهمل الأجوبة. إنهما معًا بمثابة شهادة على الطبيعة الدائمة للأسئلة الإنسانية الدائمة حول الحياة والموت، والبحث عن المعنى في عالم غير مؤكد. أسئلة ظلت تبحث عن أجوبة في الفلسفة وفي ثنايا التاريخ على مدى الزمان وبلا نتائج.
ثانياً. أحد أوجه التشابه الرئيسية بين جلجامش والكراسي هو استكشافهما لنوازع، أو لرغبة الإنسان في الخلود أو الانتصار على الموت. في ملحمة جلجامش، يسعى الملك جلجامش إلى الخلود كوسيلة للهروب من حتمية الموت. وهو يعتقد أنه من خلال تحقيق الخلود، يمكنه إيجاد المعنى، بل التمكن من جوهر الحياة. وبالمقابل، نجد في مسرحية الكراسي، بأن الزوجين المسنيّن يأملان بأن تجلب لهما الرسالة التي أعدّاها شيئاً من البقاء الدائم والشعور بالإنجاز. لا شك بأن كلا النصين يسلط الضوء على توق الإنسان إلى ما يتجاوز الطبيعة الدنيوية والعابرة للوجود الأرضي والإنساني.
ثالثاً. تشابه آخر بين العملين هو تعمقهما بفقدان "المعنى" والتوافق مع عبث المساعي البشرية. ففي الملحمة، يفشل سعي جلجامش إلى الخلود في نهاية الأمر، ويُجبر على مواجهة حقيقة موته. فمن الأفكار الفلسفية التي تثيرها الملحمة هو ما ذهبت اليه، إلى أنه بغض النظر عن مدى قوة الشخص أو إنجازه، فإن الموت جزء لا مفر منه من التجربة الإنسانية. وكذا الحال، في مسرحية الكراسي، فإن محاولات الزوج والزوجة المسنين، للعثور على المعنى والجوهر في الحياة من خلال الرسالة التي أعدوها، هي محاولات بلا جدوى، وعبثية، وعقيمة في نهاية الأمر.
رابعاً. تُسلط كلّ من "الكراسي" وملحمة جلجامش الضوء على العبث المتأصل في الوجود الإنساني. ففي مسرحية أونيسكو، يقضي الزوجان المسنان، (المعروفان باسم الرجل العجوز وزوجته سمير أميس)، حياتهما في عزلة، محاطين بكراسي فارغة ترمز إلى غياب التواصل الاجتماعي، وفقدان المعنى والجوهر. وبالمثل، يشرع جلجامش، بطل الملحمة، في رحلة بحث مجهولة، وغامضة، وغير مجدية عن الخلود بعد أن شهد وفاة صديقه الأقرب إنكيدو. يؤكد كلا النصين على الطبيعة العابرة، والمؤقتة، وخواء الحياة البشرية إنعكاساً لحتمية الموت.
خامساً. البحث عن الخلود، في سرديات الملحمة، كما في المسرحية، نجد الأبطال مدفوعين بالرغبة العارمة في نيل البقاء المؤكد والدائم أي الخلود. في "الكراسي"، يدعو الرجل العجوز وزوجته، جمهورًا وهميًا كبيرا، من نخبة المجتمع، ليشهدوا لحظاتهم الأخيرة، على أمل ترك إرث أبدي. وبالمثل، يسعى جلجامش إلى الخلود بعد تجربة فقدان صديقه، على أمل الهروب من حتمية الموت. ومع ذلك، فإن كلا العملين ينقلان في النهاية استحالة تحقيق الخلود، ويسلطان الضوء على عجز وحدود الوجود البشري.
سادساً. يكشف كلا النصين عن الموضوعات التي يمكن وصفها بالوجودية، وفق النظريات الفلسفية في القرن العشرين، بشكل واضح، من خلال عناصر مثل العبثية، واللاجدوى، والعدمية، وجوهر الوجود التي تسود أجواء الملحمة كما تسود المسرحية. تستخدم مسرحية أونيسكو الفكاهة، والسخرية، والهزال، والحوار غير المترابط، وغير المنطقي لنقل عبثية الوجود الإنساني. فالمحاولات الفاشلة التي تقوم بها الشخصيات للتواصل وإيجاد المعنى في عالم فوضوي تعكس عبثية الحياة نفسها. وبالمثل، تعكس ملحمة جلجامش عالمًا خاليًا من المعنى، حيث لا تستطيع حتى الآلهة تعطيل الموت ومنح الخلود. يسلط، هذا المنظور العدمي، الضوء على الأزمة الوجودية التي يواجها أبطال الملحمة والمسرحية على السواء.
سابعاً. في الوقت الذي كانت فيه "الكراسي" نتاج المسرح الطليعي والفلسفة العبثية في القرن العشرين، وعلى الرغم من الاختلافات الثقافية، والفكرية، والزمنية بين المسرحية والملحمة، نجد بأن كلا العملين يستخدم، في سياقاتهما وسرديتاهما، الوسائل الرمزية لنقل موضوعاتهما الوجودية. ففي "الكراسي"، ترمز الكراسي الفارغة إلى غياب المعنى والبحث العقيم عن الأهمية والجدوى، بالمقابل فإن البحث عن الخلود، في ملحمة جلجامش، يرمز إلى توق البشرية العميق إلى السمو والترفع عن الخوف من الفناء والموت.
ثامناً. ملامح الوجوه في ملحمة جلجامش تكاد لا تتغيّر فهي واضحة عند كل منعطف من الجبروت الى الحزن العميق ومنه الى التحدي والبحث عن الخلود، ثم ملامح الإقتناع والقبول بالأمر الواقع، والعودة الى مدينة أوروك. في حين يجد المرء كثير من الإرباك في قراءة ملامح الوجوه في شخصيتي الكراسي، فهي مزيج، يكاد لا يمكن فصله، من الطمأنينة والاستقرار الى التوتر والقلق، ومن البساطة والطيبة، ومن الغرور، ومن الغضب والخنوع ومن النرجسية والتفاخر الي التوسل. ولكن هذه الملامح بمجموعها سواء عند جلجامش أو عند شخصيات الكراسي تنتهي بملمح واحد صارخ في وضوحه، إنه الإستسلام التام.
تاسعاً. الاختيارات التي اتخذها الملك جلجامش، فيها من التشابه أكثر من التناقض، فمثلاً، عند دخوله فضاء الملحمة بالقوة والجبروت والطغيان والانفراد المطلق بالقرار الذي يخص رعيته المُهملة في أوروك يتشابه كثيراً مع بداية بناء هوية لشخصيتي الزوج والزوجة في مسرحية الكراسي حيث القلق، البادي على ملامح وتصرفات الزوج والمغلفة بلا مبالاة شفافة في حين إن هوية الزوجة كانت ترتسم بالطيبة، وبالإلحاح والثرثرة، ومحاولة طمأنة الزوج حيناً ومعاتبته في أحيان أخرى. هذه الخيارات، سواء في الملحمة أم في المسرحية، تدخل في دينامية من التحولات تعاكس غالباً ما ابتدأت منه، لكنها تنتهي بخيار واحد وهو قبول الموت.
عاشراً. التشابه في حالة العزلة الإنسانية، ففي الملحمة يعزل الملك جلجامش نفسه عن رعيته والآخرين عبر الغطرسة والانغماس في الذات، مما ينفر رعاياه ويخلق فجوة كبيرة في التواصل. لكنه يُدرك، بعد وفاة صديقه الأقرب أنكيدو، أهمية وقيمة التواصل الإنساني. إن موضوع الوحدة والعزلة الإنسانية، وكذلك قيمة، وفهم، وإدراك عمق الحاجة الى الصداقة والرفقة يشكل أحد أهم أعمدة السرد في الملحمة. أما في الكراسي فيتخذ موضوع الوحدة والعزلة ضخامة خاصة من خلال محاولات الشخصيات الفاشلة للتواصل مع ضيوفهم، الوهميين، وغير المرئيين. المسرحية تكشف بإن عزلة الشخصيات لم تكن جسدية ومادية فقط، بل كانت عزلة وجودية كذلك، حيث تتصارع الشخصيات مع عبثية الوجود المتمثل في عدم قدرتهم على إيصال رسالة تحمل معنى ينقذهم وينقذ العالم. تسلط المسرحية، عبر الكوميديا، والسخرية والهزال، الضوء على الانعزال البشري، وإنعدام المعنى المتأصل في الوجود الإنساني.
الاختلافات بين جلجامش والكراسي
أولا. على الرغم من أوجه التشابه المذكورة، هناك أيضًا اختلافات ملحوظة بين جلجامش والكراسي. أحد الاختلافات المهمة هي سياقاتهما الثقافية والتاريخية. فجلجامش نص ملحمي قديم من بلاد ما بين النهرين، يعود تاريخها الى الالفية الثالثة قبل الميلاد. في المقابل فأن الكراسي من الأدب المسرحي في القرن العشرين. تشكل السياقات الثقافية والتاريخية لهذين النصيّن جوهر ديمومتهما عبر الوسائل التي تستكشف بها الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري. ففي حين تعكس ملحمة جلجامش وجهة النظر الفكرية السائدة في العالم آنذاك، ومعتقدات مجتمع بلاد ما بين النهرين القديم، نجد بأن مسرحية الكراسي، بمضامينها النهائية، تعكس معتقدات وسلوك المجتمع الحديث، وروح الفلسفة الوجودية السائدة في القرن العشرين.
ثانياً. البنية السردية في ملحمة جلجامش عبارة عن قصيدة شعرية سردية طويلة تتبع مغامرات البطل جلجامش، أما "الكراسي" فهي مسرحية حوارية من فصل واحد تركز على عبثية الوجود الإنساني كتبت بلغة معادية للغة اليومية أو اللغة المنطقية. يتسلسل منهج الملحمة على أساس بنية سردية أفقية ومترابطة، بينما تستخدم المسرحية نهجًا درامياً متجزئاً ومنفصلا، مراوغاً بين سرديات أفقية ودائرية مغلقة.
ثالثاً. المواضيع: يستكشف كلا العملين موضوعات ترتبط بشكل وثيق بالوجود البشري، ولكن بطرق مختلفة. تتعمق ملحمة جلجامش في العزلة الانسانية، وفي البحث عن الخلود وحتمية الموت ومعنى الحياة. إنما نجد بمقابل ذلك بأن "الكراسي" تبحث في الإحساس المرير بالاغتراب والوحدة، وبعبثية إنقطاع التواصل الإنساني، وفراغ الوجود البشري، وعبثية المساعي والاهداف الإنسانية.
رابعاً. الأسلوب والتقنيات، حيث تمت كتابة ملحمة جلجامش في أسلوب شعري، بإستخدام صورًا حية وعناصر أسطورية، وبمنطق تحكمه ضرورات الملحمة. في المقابل، تتميز مسرحية "الكراسي"، باستخدام شخصيات شبه كاريكاتورية وبأسلوب السخرية والهزال واللغة غير المترابطة، وغير التقليدية متحديةً الأساليب المسرحية القائمة على مختلف أسس ومعايير الاستدلال. فالمنطق ينساب بشكل متعرج وغير مفهوم، وصادم أحياناً ولكنه يمتثل لضرورات العبث.
خامساً. الأهمية الفكرية والثقافية، حيث تعتبر ملحمة جلجامش واحدة من أقدم الأعمال الأدبية الباقية، وتوفر نظرة ثاقبة لثقافة ومعتقدات بلاد ما بين النهرين القديمة، أي نظرة لفكر وفلسفة ما كان عليه العالم القديم. وقد أثّرت هذه الملحمة على التقاليد الفكرية والأدبية اللاحقة، بل وأصبحت مرجعاً تاريخياً وفكرياً وأدبياً. بالمقابل يُعد مسرح أونيسكو الطليعي، بما في ذلك مسرحية "الكراسي"، جزءًا من الحركة المسرحية، أو الفنية والأدبية، الأوسع التي تحدّت المعايير المسرحية التقليدية الشائعة، ومهدت الطريق لأساليب تجريبية ومبتكرة للمسرح.
سادساً. في حين أن ملحمة جلجامش ومسرح أونيسكو الطليعي في "الكراسي" يستكشفان موضوعات وجودية، إلا أنهما يختلفان من حيث السياق التاريخي، والبنية السردية، والموضوعات، والأسلوب، والأهمية الثقافية. ومع ذلك، فإن كلاهما يساهم في النسيج الغني للتعبير الفني الإنساني ويقدم وجهات نظر فريدة حول الحالة الإنسانية.
مفهوم الموت
وهنا نحتاج الى وقفة قصيرة لاستكشاف مفهوم ومعنى "الموت" في الفلسفة عبر مراحل زمنية مختلفة منذ نشأة الفلسفات القديمة. فالموت ظاهرة كونية، أرضية، أثارت اهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ. لإن الموت يحفّز على طرح أسئلة عميقة حول طبيعة الوجود، ومعنى الحياة، والمصير النهائي للبشر. أستعرض هنا، ولكن بإختصار قاسي، بعض أهم هذه الرؤى بهدف التعمق، ولو قليلاً، في مفهوم ومعنى الموت في الفلسفة، وبعض النماذج من الأفكار والنظريات الفلسفية المختلفة التي طرحها المفكرون المؤثرون بين زمن ملحمة جلجامش وكتابة مسرحية الكراسي.
أولاً: الفلسفة الأبيقورية تعرّف الموت على أنه "انقطاعا تاماً عن الحياة"، أي أن الموت، وفق الفهم الشائع، هو توقف عناصر وحيوية وطاقة الحياة. فالموت مادياً يعني اللحظة التي تتوقف فيها، نهائياً، الوظائف الحيوية للفرد مثل التنفس ونشاط الدماغ. أي أن هذه الفلسفة (وفق أبيقور، في رسالة الى مينوسيوس) تعتبر أن الموت هو نهاية الوعي وانحلال الذات.
ثانياً: باعتبار الموت ليس شكلاً نهائياً للانقطاع التام عن الحياة، بل "كمرحلة انتقالية". لذا يرى بعض الفلاسفة أن الموت هو مجرد حالة انتقال مادي من وجود الى آخر. ويتجلّى ذلك بوضوح عند أفلاطون في حواره "فيدون" الذي يعكس نظريته في خلود النفس او الروح، فهو يرجح أن الموت هو حالة انفصال الروح عن الجسد. أي أن هذه النظرة لا ترى في الموت ذاته نهاية قطعية، بل بوابة نحو حياة أخرى في عالم آخر، أي ببساطة ان الموت هو انتقال الى شكل مختلف من الوجود.
ثالثاً: الموت بإعتباره "جوهر الحياة" وفق الفلسفة الوجودية، لا سيما عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (في الوجود والعدم)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (في الوجود والزمن). فإن "مفهوم الموت" عند هذين الفيلسوفين هو جانب أساسي من الوجود الإنساني، وهو الذي يشكّل الطريقة التي يعيش بها الأفراد حياتهم. أي أن الوعي الخالص بفنائنا يمنح الحياة معناها وتحدّياتها، لإنه سيضعنا في مواجهة قاسية أمام وجودنا، ويُلزمنا على اتخاذ خيارات تتناسق مع ذواتنا الحقيقية.
رابعاً: أما في فلسفة العبث فإن الفيلسوف الفرنسي البير كامو (في أسطورة سيزيف) يرى الموت على أنه لغزاً بعيد المنال عن الفهم البشري. حيث إن الموت حالة عبثية لا يستطيع البشر فهمها أو حتى تبريرها بشكل تام. والسبب الجوهري بالنسبة لكامو، هو أن الرغبة الإنسانية للبحث عن معنىً واضح وصريح للحياة تتعارض جوهرياً، بل وتتناقض مع اللا معنى أو غياب المعنى المتأصل في جوهر مفهوم الموت. وبسبب هذا التناقض بين طموح البشر لعقلنة الموت وبين الافتقاد الصريح للمعنى تنشأ حالة من التوتر الوجودي تُفضي الى الإحساس بالعبث.
خامساً: الموت ليس بإعتباره مفهوماً مقتصراً على البحث الفلسفي، بل بإعتباره يتقاطع مع اعتبارات أخرى وعلى رأسها الاعتبار الأخلاقي. فمثلاً يناقش فلاسفة عدّة، من بينهم الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل، حالة ما إذا كان الموت، بذاته، سيئاً أم جيداً بطبيعته. فالموت، بالنسبة لتوماس ناجل، هو الحرمان من الخيرات المحتملة التي تمنحها الحياة، مما يجعل الموت ضرراً جوهرياً وخطيراً بالنسبة للبشر. وهذا المفهوم، برمته، يتناقض مع بعض الفلاسفة الأوائل، مثل أبيقور، حيث إنه يرى بانه لا ينبغي الخوف من الموت، لأنه حالة من غياب الألم والمعاناة، أي الاستكانة الأبدية.
مفهوم الخلود
مفهوم الخلود، سواء في الملحمة أم في المسرحية، منبثق عن رغبة بشرية، لا تقاوم، لاختطاف الحياة وتملّكها مدى الدهر. يثير مفهوم الخلود أسئلة عميقة حول طبيعة الوجود، ومعنى الحياة، وحدود الفهم البشري. إنه يتحدى تصورنا للزمان وللوقت باعتباره تقدمًا ميتافيزيقياً، ويدعونا إلى التفكير في إمكانية وجود واقع يتجاوز تجربتنا الزمنية. إنما يبقى مفهوم الخلود عصيّاً، ويصعب فهمه بشكل كامل حيث أنه لا يزال يأسر الخيال البشري. سواء من خلال المعتقدات الدينية، أو التأملات الفلسفية، أو الاستكشافات العلمية، فإن فكرة الخلود تدعونا إلى التأمل في أسرار الوجود ومكانتنا في النسيج الكوني الواسع.
أولاً. بعد عرض الموضوع المركزي الذي انشغلت به الملحمة والمسرحية على السواء وأعني بذلك "الموت"، تأتي موضوعة الخلود لتكمل الوجه الآخر من المشروع الفكري الإنساني. فالخلود هو المفهوم الذي سحر البشر عبر جميع القرون. إنه يشير إلى حالة من الوجود اللانهائي، بما يتجاوز موانع الزمان والمكان. حيث إن فكرة الخلود ظلّت في صلب مختلف الأفكار والتقاليد الدينية والفلسفية، باعتبار أن كلّ من هذه الأفكار قدّم تفسيره وفهمه الخاص لهذا المفهوم العميق والشائك.
ثانياً. إن مفهوم "الخلود" أُستبدل في السياقات الدينية بمفهوم " الأبدية ". والخلاف بين المفهومين يُشير الى وجود حياة أخرى ووجود إله واحد له سلطات القرار المطلقة، حيث إن الأبدية مشروطة عند الديانة المسيحية للمؤمنين في السماء، وكذا الحال فيما يخص الدين الإسلامي حيث الجنة، وهي الحياة الأبدية، تُخصص للمؤمنين الصالحين. فالأبدية هي حالة من انقطاع الزمان وتأرجح المكان الذي ينتج وجودا سعيدا في حضرة الخالق، الله. هذا الوجود يكون محررا تماما من اشتراطات ومعاناة الحياة الأرضية، أي من قيود الزمان والمكان.
ثالثاً. هناك أيضاً بعض وجهات النظر الفلسفية التي ترى أن الخلود أو "الأبدية" حقيقة سرمدية وثابتة. من بين هذه الفلسفات ما كان يؤمن به الفيلسوف أفلاطون بوجود أشكال أو أفكار خالدة وأبدية كاملة لا تتغير. وتذهب هذه الفلسفة الى ما هو أبعد من ذلك، فتصور عناصر حياة الخلود على أنها هي الواقع الحقيقي، في حين أن العالم المحسوس المادي والذي نعيشه وندركه هو في الواقع انعكاس مشوّه ومحرّف عن هذه المُثُل الخالدة والأبدية.
رابعاً. من الملاحظ أن للفيلسوف فريدريش نيتشه مفهوم مخالف لما سبق من تفاسير، حيث يقول بإن الخلود هو اختراع بشري، الهدف منه التخلص والهروب من حقائق الوجود القاسية. لذلك اعتقد نيتشه إن مفهوم الخلود، أو الأبدية، أو الحياة الأخرى الأبدية، أو السعي نحو عالم فوقي متعالي، هي ليست أكثر من تبريرات بشرية للعثور على المعنى المفقود في الحياة، وبلورة هدف سام وجوهر لوجود بلا معني في عالم فوضوي لا يخضع لمقاييس العقل.
خامساً. لا بد من الإشارة الى أن النظرية النسبية لألبرت أينشتاين أعطت مفهوما آخر للخلود ضمن سياقات الزمن. فالزمان بالنسبة لأينشتاين ليس كتلة أو كيان مطلق وثابت. بل هو في الفضاء الواسع عبارة عن بُعد ديناميكي قابل للتأثر بالحركة وبالجاذبية، ولهذا، ووفق هذه النظرية، يمكن تمديد الزمن كما يمكن تحريكه، أي أن للزمن خصائص مطاطة قابلة على الالتواء، والتدوير مما يمنح الزمن إمكانية التشكل بأوجه مختلفة في مناطق مختلفة من هذا الكون الواسع.
لا شك بأنه سيكون من الصعب، وبهذا الاختصار وهذه العجالة، تحديد أهم الفلسفات، والمدارس الفكرية، التي انبثقت عبر التاريخ منذ زمن جلجامش حتى الآن، إذ تعددت هذه الفلسفات والحركات الفكرية المؤثرة التي شكلت تأملات وتفكير الإنسان وأثرت في طبيعة وتفكير المجتمعات عبر التاريخ. ومع ذلك، سأذكر، بإيجاز شديد، أبرزها والذي كان له انعكاسات مهمة ومؤثرة في الفكر والوجود الإنساني في مختلف المجتمعات، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه الأمثلة تقفز على التسلسل التاريخي للفكر الفلسفي، وهي مذكورة هنا كنماذج مختارة لعمق تأثيراتها الفكرية:
الفلسفة اليونانية القديمة، حيث كان لهذه الفلسفة، بما في ذلك أعمال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، تأثير عميق على مجمل مدارس الفلسفة. وتبقى أفكار هذه الفلسفة حية فيما يختص بالأخلاق، والميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، وهي مصدر ثري للدراسة والبحث والمناقشة حتى اليوم. ثم يعقب ذلك فلسفة التنوير التي أنتجت، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مفكرين مؤثرين مثل رينيه ديكارت، وجون لوك، وإيمانويل كانط. وقد أنشأت أفكارهم، حول ماهية العقل والدفاع عن الفردية المطلقة او ضمن المجتمع، والبحث الجاد عن المعرفة، الأسس الصلبة للفكر الفلسفي الحديث. ثم تأتي الفلسفة الماركسية لتحاجي ما سبق. هذه الفلسفة التي تطورت بأفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في القرن التاسع عشر، لتنجز نظرية اجتماعية وسياسية تركز على الصراع الطبقي في المجتمعات، ونقد النظام الرأسمالي. ومن المعلوم أنه كان لهذه الفلسفة تأثير هام وكبير على الفكر السياسي والاقتصادي، وعلى تشكيل الحركات التحررية والثورية، وتشكيل الحكومات في بلدان متعددة، وكذلك على الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم.
يلي ذلك الفلسفة الوجودية التي تطورت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي تبحث وتستكشف طبيعة وجوهر الوجود الإنساني ومفاهيم الحرية ومعاني الفردية. وبذلك فقد تحدّى فلاسفة مثل سورين كيركجارد، وفريدريك نيتشه، وجان بول سارتر المعتقدات التقليدية السائدة، وشددوا على الأصالة في البحث والفكر، وعلى المسؤولية الشخصية في الاختيار وسلوك دروب الحياة. عقب ذلك ظهور فلسفة ما بعد الحداثة في منتصف القرن العشرين، وهي فلسفة وفكر اجتماعي يتحدى المفاهيم التقليدية للحقيقة المجردة، والسرديات الكبرى، ومفهوم الموضوعية بشكلها النسبي. وكان من أعمدة هذه الفلسفة مفكرين مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجان فرانسوا ليوتار، حيث كان تأثيرهم بارز جدا في مجالات مختلفة، بما في ذلك الأدب، والفن والدراسات المجتمعية والثقافية.
هذه مجرد أمثلة قليلة وموجزة جداً، وهناك، بطبيعة الحال، العديد من الفلسفات والمدارس الفكرية المهمة الأخرى، التي شكلت التفكير البشري عبر التاريخ. قد تختلف أهمية كل فلسفة حسب وجهة نظر الفرد والسياق الذي يتم النظر فيه. ولكن هناك ايضاً أفكار وفلسفات ضاعت بين تلافيف التاريخ لأسباب عديدة ومختلفة وغالباً مجهولة. وهنا يجب التذكير بأن التاريخ البشري هو من إبتكر حالة فقدان الذاكرة (Amnesia) بين الحقب المختلفة. فالفجوات الضائعة في تسلسل تاريخ الفكر البشري كانت، دائماً، المُحفز على البحث عن تلك الحلقات المفقودة. لأن التاريخ كان دائماً تحت رحمة المتسلطين من الطغاة والجبابرة المتعسفين، ومن سطوة رجال الدين بكل ألوانهم، ومن سلطات المال، في خلق ظلال تخبئ الحقائق والوقائع، وتستولد أخرى على مقاس مصالحها.
وختاماً، لا شك أن ملحمة جلجامش بقيت علامة مفصلية في تاريخ البشرية. فقد كانت نبعاً ومصدراً لما تلاها من أفكار وفلسفات أثرت في تيارات ومدارس الفكر، كما في الشعر وفي الأدب والفن. فقد إستلهم جلجامش الحكمة الكبرى من رحلته الشاقة الطويلة، التي لم تتمخض سوى بخيبته في الحصول على الخلود، لذلك فقد حولّت الحكمة آماله من البحث عن الحياة الأبدية والخلود الى السعي نحو انجازات إنسانية عظيمة وملموسة، إنجازات قادرة أن تبقى في ذاكرة الناس فهي الطريق الى تخليده. حيث إن حكمة جلجامش الأساسية هي في إدراكه بأن ذاكرة الناس هي قلم التاريخ الراسخ الذي يكتب به صفحات البقاء. ولهذا فإن الملحمة، بلا شك، كانت مصدر الهام، وهي اليوم مرجع أساسي لفهم التاريخ، ولفهم المجتمعات والثقافات القديمة. واهم من ذلك كانت الملحمة، ربما اول عمل ادبي في التاريخ يتعرض الى النفس البشرية، ونوازعها ومآسيها في فهم الوجود والحياة. تشكل هذه الملحمة مصدراً فذّاً، ولا غنى عنه لفهم الانسان كما عبرت عنه الأفكار والفلسفات عبر التاريخ.
بمقابل ذلك تقف مسرحية الكراسي لترسم أطراً فكرية، تبدو مشتتة وغير مترابطة وغير منطقية، للحياة العصرية من خلال القبض على اللحظات الأخيرة لعجوزين تدور حياتهما بحلقة لا نهائية من ملل يومي وروتين مستدام. يحاول العجوزان كسر هذه الحلقة الجهنمية عبر منجز يخرج عن المألوف، أي عن الروتين والحياة اليومية المملة. لكن ذلك لم يحصل، بل أنتج خيبة امل أخرى، تضاف إلى ما تراكم من خيبات لدى العجوزين. الكراسي وضعت التساؤلات الكبرى جانباً، وأستغنت عن الأجوبة، بأن دجّنت الإحساس بالعبث ليبدو عادياً، ومنطقياً، بل وضرورياً في الحياة اليومية. كذلك فإن أهمية المسرحية، ضمن التيار الطليعي في المسرح، والذي كان أونيسكو أحد أبز قادته، ساهمت في تأسيس صيغ جديدة لشكل ومحتوى المسرح ومنطق وسرديات المسرحية يبتعد ويتناقض في معظم الأحيان مع ما هو قائم من قواعد واشكال وصيغ تحكم قواعد الدراما المسرحية منذ قرون. الكراسي صورة حديثة لما عليه المجتمعات الحالية من انعزالية وفردية وغياب التواصل. انه نص كُتب بلغة مربكة، وبأسلوب يتظاهر بالبساطة والسذاجة، ولكنه نص يعبر بعمق عن الانكسارات الإنسانية بكل أشكالها، وإن كان مستتر تحت الهزل والكوميديا والحزن العميق.
***
علي ماجد شبو