اخترنا لكم

السيد ولد أباه: العدمية والمنعرج ما بعد الليبرالي

مؤخراً رجع المفكر الأميركي الشهير فرنسيس فوكوياما عبر مداخلة منشورة في صحيفة «persuation» الإلكترونية إلى محاضرة الفيلسوف الألماني ليو شتراوس التي ألقاها في الولايات المتحدة سنة 1941 حول «العدمية الجرمانية». شتراوس، في محاضرته التي كتبت في أوج العصر النازي، يرجع الحالة العدمية التي كانت تمر بها وقتها بلادُه إلى أزمة عميقة تطال الحداثة الغربية نفسَها التي تعاني حسب رأيه من مرضَي التاريخانية والوضعية وما يترتب عليهما من إلغاء القيم الأخلاقية والفلسفية المطلقة. ما يميز الحركية العدمية هو التمرد ضد قيم التقدم والرفاهية والحرية الفردية من منظور الدفاع عن الروح الحضارية الأصيلة للغرب.

والحل الذي يقدمه شتراوس هو العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية وإلى القانون الطبيعي، أي إلى أفكار العدالة والنظام السياسي لتجاوز الآثار السلبية لفصل المعايير عن الوقائع أو الأخلاق عن السياسة. في تعليقه على محاضرة شتراوس، يرى فوكوياما أن الديمقراطيات الغربية الراهنة تعيش الآن موجةً قريبةً من هذه الحالة العدمية التي اجتاحت أوروبا أوانها. فالحركات الشعبوية القومية الصاعدة تحمل بشدة على الليبرالية وترى فيها تكريساً للنزوع الاستهلاكي الاستمتاعي وتنكراً للقيم الأخلاقية والوطنية وتعبيراً عن الانحطاط الفكري والاجتماعي.

إلا أن هذه التوجهات الشعبوية العدمية لا تقدم بالنسبة له أي بديل موضوعي ولا تستند لرؤية إيجابية مغايرة، بل يمكن أن تفضي إلى أخطر أنواع الاستبداد والانغلاق، وفق السيناريو الذي ساد ما بين الحربين.

وفي حين كان شتراوس يرى أن على الليبرالية أن تستوعب بعض المصادر من خارجها، مثل الرجوع إلى أفكار الطبيعة الإنسانية والشرع الإلهي، يرى فوكوياما أن الليبرالية الإنسانية الحديثة قادرة على توفير القيم المرجعية للبشرية المعاصرة، من مقومات ناظمة مثل الكونية والتسامح والحرية.. إلخ. وهنا نلمس جانباً من التعارض الجذري بين الليبرالية المحافظة التي يتبناها شتراوس والليبرالية التقدمية التي يدافع عنها فوكوياما.

النزعة الأولى، وإن حافظت على جوهر الرؤية الليبرالية في مقوماتها السياسية والقانونية، إلا أنها ترى أنها تعاني من خلل أساسي يكمن في ضمورها القيمي من حيث سماتها التقنية النفعية مقطوعةَ الصلة مع التقاليد الروحية والثقافية العميقة.

ومن هنا مطالبة شتراوس بالرجوع إلى أفكار الفضيلة الأرسطية والعدالة الوجودية والسياسة المدنية، مع الحفاظ على تركة التنوير والحداثة.

وفوكوياما، ككل الليبراليين التقدميين، يرى في غياب أسس معيارية ثابتة ومطلقة للنظام الليبرالي الحديث دعامةً قوية لقيامه وتشكله، باعتبار أنه مكتفي بالإجراءات القانونية والصورية المنظمة للحقوق والحريات في تصوره الموضوعي للعدالة في مجتمعات متنوعة ومتعددة من حيث التصورات الجوهرية للخير الجماعي. ومن ثم فإن أي محاولة لفرض سقف أخلاقي أو روحي للقيم المدنية المشتركة، ينتهك مبدأ التعددية والحرية، ويفضي إلى تكريس الاستبداد باسم الدين أو الأخلاق. في أيامنا هذه التي لا يتردد الكثير من القادة السياسيين في الغرب عن التبشير بنموذج الديمقراطية غير الليبرالية، أي فصل اعتبارات الشرعية السياسية المؤسسة على الانتخاب والمشاركة عن قيم النظام الاجتماعي القائمة على الحرية والتعددية، يتوجب إعادة طرح الموضوع الفلسفي لليبرالية من منظور نقدي جديد.

ولا تكفي هنا العودة إلى أفكار ليو شتراوس التي تعبر عن مأزق تأويلي بخصوص ما سماه موجات الحداثة الثلاث، ولا معنى للاحتفاء بالمطرقة النتشوية التي بلورت في نهاية القرن التاسع عشر أعنف نقد لليبرالية الحديثة في أسسها العقلانية الديمقراطية نفسها، بل المطلوب هو إعادة تصور العلاقة التلازمية بين الليبرالية والديمقراطية التي تعرضت في السنوات الأخيرة لتصدعات خطيرة.

صحيح أن الديمقراطية من حيث هي تعبير عن فكرة السيادة الشعبية وأولوية المجال العمومي على حقل الحريات المدنية، لا يمكن استيعابها نظرياً وعملياً في الفكرة الليبرالية التي تحيل إلى قيم الذاتية والفردية، ومن هنا ظهرت تاريخياً أشكال من الديمقراطية غير الليبرالية والليبرالية التسلطية.

إلا أنما يميز الديمقراطيات الحديثة هو هذا التوجه الليبرالي، الذي سمح لها بأن تجمع بين معايير المشاركة ومنظومة الحريات والحقوق الفردية، بما يعني التلازم بين سيادة الدولة كتعبير عن الإرادة المشتركة والمواطنة الحرة المتساوية. خلاصة الأمر، أن النقد المحافظ لليبرالية كما طرحه ليو شتراوس خلال الحرب العالمية الثانية، وإن كان لا يزال مدار اهتمام فلسفي واسع في أيامنا، إلا أنه لا يتعلق في شيء بأزمة الديمقراطيات الراهنة، باعتبار أن مشكلها ليس نضوب الأفق القيمي والأخلاقي، ولكن الانزياح داخلها بين منطقها السياسي وأفقها الليبرالي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 أغسطس 2025 22:57

في المثقف اليوم