اخترنا لكم
السيد ولد أباه: المنعرج المحافظ في الديمقراطيات الغربية
في تعليقه على الأحداث السياسية الأخيرة في فرنسا، يذهب المؤرخ الإيطالي جيوفاني أورسينا، في مقالة بصحيفة «لاستامبا» (5 ديسمبر 2024)، إلى أن الوضع الفرنسي ليس نشازاً، بل هو انعكاس لأزمة بنيوية تعاني منها الديمقراطيات النيابية الغربية. والأمر هنا يتعلق بموجة احتجاجية عارمة في الرأي العام ضد تحكم طبقة أوليغارشية مسيطرة متمحورة حول نفسها، في سياق عالمي مضطرب وغير مستقر. ومن ثم فالسؤال المطروح حالياً على الديمقراطيات الغربية هو: كيف يمكنها أن تواجه هذه الحركية الاحتجاجية الداخلية المتزايدة؟
حسب أورسينا، فإنه عادةً ما تكون ردة فعل الأنظمة الديمقراطية الغربية وفق ثلاث مراحل: تبدأ برفض وشيطنة القوى السياسية المتمردة ونعتها بالتطرف وعدم الشرعية، قبل الشعور في اللحظة الثانية بأن هذه القوى غدت مكوناً أساسياً لا يمكن تجاهله في المشهد السياسي. وفي مرحلة ثالثة تصل هذه القوى إلى السلطة منفردةً أو في إطار تحالفات مركبة. وكما يبدو، ما تزال ألمانيا في المحطة الأولى، بينما فرنسا في المرحلة الثانية، وإيطاليا دخلت عملياً في الحقبة الثالثة.
وبالنسبة لأورسينا، فإن إيطاليا في عهد رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني هي مختبر التجارب السياسية الأوروبية، وما تعرفه حالياً من تحولات نوعية في تركيبة الحكم يصلح لاختبار وتقويم الحالة السياسية في عموم الديمقراطيات الأوروبية التي تشهد موجة تمرد واسع ضد النظام الليبرالي الراديكالي.
ما يعنيه أورسينا بالنظام الليبرالي الراديكالي، حسب ما بيَّن في كتابه «ديمقراطية النرجسية» (صدر سنة 2018)، هو هذه العقيدة الفردية المنتشرة على نطاق واسع في الغرب، من حيث كونها تقوم على مركزية السوق الحرة ومدونة القانون المجرد والأخلاقية الكونية، بما يفضي إلى تقويض الفعل السياسي نفسه من حيث هو ممارسة سيادية مستقلة. ما نشهده راهناً، في ضوء ملاحظة أورسينا، هو بروز حركية محافظة جذرية في قلب الديمقراطيات الغربية لا يمكن أن نختزلها في صفة الشعبوية، وهي في عمومها مناوئة للتقليد الليبرالي من منظورين متمايزين:
- النزعة القومية المحافظة التي هي القوة الصاعدة في جل الدول الأوروبية، وقد تركزت حالياً في المجر والنمسا وألمانيا ولدى العديد من الأحزاب التي تصنَّف عادةً على أنها من اليمين المتطرف. ما يجمع هذه التشكيلات هو الرجوع إلى الأمة بصفتها أرضيةَ الهوية والمواطَنة في مواجهة نزعة ليبرالية كونية معولمة، تمنح الأولوية لحقوق الإنسان والقانون الدولي على اعتبارات السيادة الوطنية التي هي الخلفية المعيارية الحقيقية للديمقراطية. لقد أطلق رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان على هذا النمط السياسي تسميةَ «الديمقراطية غير الليبرالية»، وهي مقولة بلورها من قَبلُ المفكر السياسي الأميركي فريد زكريا للتعبير عن الانفصام المتزايد في الساحات الغربية بين الديمقراطية من حيث هي منظومة انتخابية والليبرالية بصفتها نسقاً فكرياً معيارياً.
- النزعة المحافظة ما بعد الليبرالية، والتي ظهرت بصفة خاصة في الولايات المتحدة وتركزت في الأوساط الدينية المحافظة، ويمثلها اليوم نائب الرئيس المنتخب «جي دي فايس» ووزير الخارجية المعين ماركو ربيو. ومع أن هذه النزعة برزت أصلاً في بريطانيا لدى التيار العمالي اليساري، إلا أنها انتقلت إلى اليمين الأميركي الجديد. بيد أن ما يجمع بين الاتجاهين هو الانطلاق من مرجعية الكرامة الإنسانية ومنح الأولوية للخير المشترك.
ومن المعروف أن المقولتين لهما خلفيات لاهوتية قديمة، أُعيدَ لها الاعتبارُ راهناً في إطار نقد أطروحة الحياد الليبرالي إزاء القيم العقدية الجوهرية. وأهم مصدر فكري حالي للتيار ما بعد الليبرالي الأميركي هو كتابات رجل الدين الكاثوليكي ريتشارد جون نيوهوس (المتوفى 2009)، حيث نقرأ نقداً جذرياً لمسار التحديث الليبرالي في الولايات المتحدة. وبالنسبة لنيوهوس، فقد بُني النموذج الأميركي على اختلالات خطيرة في تصور الحرية على أساس المفهوم الفردي المجرد الذي بلوره الفيلسوف جون لوك.
إن هذا التصور هو الذي كرس حيادية الدولة في المجال العمومي، وهي نظرية خاطئة لسببين رئيسيين: منع الدولة من توجيه المجتمع نحو القيم المقدسة العليا التي هي الطريق إلى الخلاص والسعادة، وتعويض الديانات التقليدية بالديانة المدنية التي لها مؤسساتها المقدسة وآلهتها المعبودة وأخلاقياتها المنشورة.
ومن هنا نقد نيوهوس لنظرية «المجال العمومي العاري» the naked public square (عنوان أحد كتبه الأساسية)، ويعني بها رفض الفصل بين الخيارات السياسية والقانونية من جهة والاعتبارات العقدية والأخلاقية التي تصدر عن مرجعية دينية مجتمعية عامة من جهة أخرى. وخلاصة الأمر، أن الديمقراطيات الغربية تشهد في الوقت الراهن صداماً فكرياً وأيديولوجياً متصاعداً بين الليبرالية والنزعة المحافظة، له خلفياته وأبعاده العميقة.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 ديسمبر 2024 23:45