اخترنا لكم
أحمد المسلماني: التنوير المتطرف والتنوير المعتدل
شهدت أوروبا الحديثة نوعيْن من التنوير، أحدهما يحاول التوفيق بين الدين والحداثة، والآخر كان يعمل على إنهاء الدين لأجل الحداثة.
المؤرخ الثقافي البريطاني «جوناثان إسرائيل» أستاذ التاريخ في جامعة برنستون ألف كتاباً مهماً، يتحدث فيه عن وجود نوعيْن من التنوير في أوروبا: التنوير المعتدل والتنوير المتطرف.
في عرضِه المميّز للكتاب، يوضح الكاتب هاشم صالح الفارق أنّ التنوير المعتدل يبرز في أعمال فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، في القرن الثامن عشر. حيث كان التنوير المعتدل يسعى إلى تفاهمات وبناء جسور مع الدين ومع الطبقة الأرستقراطية الأوروبية. فقد تحاشى كل من مونتسكيو وديفيد هيوم النقد المباشر للدين، وقدموا تفاهمات مع الموروثات بدلاً من القطيعة معها.
وأما التنوير المتطرف فيمثلّه بالأساس الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا أحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر، والذي أسس للقطيعة بين العقل والدين، ورفض أعمال الفلاسفة الآخرين في التوفيق بينهما، ودعا إلى الشك في كل طرح، وتحطيم كل شيء.
بغضّ النظر عن الاتهام بالإلحاد لبعض هؤلاء، ونفي الإلحاد من قبل آخرين، فإن الطريقيْن كانا مختلفيْن تماماً، طريقٌ يبحث عن توافق بين الروح والجسد، بين العقل والنقل.. وطريقٌ آخر يرى الإيمان بالعقل وحده، والعلم وحده، وإزاحة أو إلغاء كل ما عداهما.
لقد شهد العالم العربي الصراع بين الطريقيْن هو الآخر، وقد كان فلاسفة الإسلام وعلى رأسهم ابن رشد ممّن قاموا بمحاولات التوفيق بين الإسلام والعقل.
ولمّا عاد العالم العربي إلى الحداثة من جديد قبل نحو مائتي عام، وهي الحداثة التي قادها حاكم مصر القوي محمد على باشا، وشهدتْ أجيالها المختلفة نجوماً كباراً في كل المجالات، شكلّوا حداثة عاقلة وتنويراً معتدلاً، وكان ذلك التنوير مؤهلاً لانطلاقة كبرى تنافس الغرب، الذي سبق أن أخذ من الحداثة عند المسلمين في زمن الصعود، وسعى المسلمون لاستعادتها في زمن الانحدار.
ولقد كانت إسلاميات طه حسين وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، وكذلك إسهامات زكي نجيب محمود وحسن حنفي.. نماذج لذلك التوافق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الليبرالية والدين.
شهدت الحداثة العربية تراجعاً بطيئاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تراجعاً كبيراً في عقد السبعينيات وما بعده، حيث طغى وجود جماعات الإسلام السياسي، وقام متطرفو هذه الجماعات بتقديم رموزهم ومؤسسي تنظيماتهم باعتبارهم روّاد التجديد الديني، والمنظرين المناسبين لهذه المرحلة!
كان صعود جماعات «الإسلام السياسي» الخطر الأول على الحداثة، لكن صعود التنوير المتطرف بالمقابل جاء ليمثل الخطر الثاني عليها.
أراد التنويريون المتطرفون عمل قطيعة تامة مع الدين والتراث، والنظر باستعلاء وازدراء لتاريخ ضخم يمتدّ أربعة عشر قرناً، ويضم في مراحله المتعاقبة فلاسفة وعلماء ومفكرين.. كانوا لعدة قرون قادة الفكر الإنساني في العالم.
إنّ التنوير المتطرف خطرٌ لا يقل عن الجماعات المتطرفة، فالمتطرفون جميعاً يقبعون في قاع سلّةٍ واحدةٍ.
لا مستقبل للعالم الإسلامي من دون العقل والإيمان، الدين والعلم.. المسجد والحداثة، ولا مستقبل من دون هزيمة المتطرفين من الجانبيْن.. هزيمة المتطرفين الإسلاميين وهزيمة المتطرفين التنويريين.
***
أحمد المسلماني
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 فبراير 2024