اخترنا لكم

خالد منتصر: سيكولوجية الانتحارى واستعذاب الألم

الانتحارى الذى يفجر نفسه فى عملية إرهابية أمام كمين أو فى دار عبادة أو فى محطة مترو .. إلخ يطرح علينا دائما سؤالا مؤرقا يثير دهشتنا واستغرابنا، كيف يصل غسيل الدماغ إلى مثل تلك الدرجة من التغييب والتنويم المغناطيسى ومسح الوعى ودهس الشخصية؟، فنحن نعرف بديهية أن أهم غريزة لدى الانسان هى غريزة البقاء، فكيف بتلك البساطة يفجر هذا الانتحارى نفسه بحزام ناسف مضحيا بحياته ومفضلا الموت، كل هذا فى سبيل أن يقتل مخالفا له فى الرأي!، معتقدا أنه ينفذ تعاليم الدين وأوامر الرب، هذا السؤال أجاب عنه من زاوية متفردة وفلسفية د حسن حماد عميد كلية الآداب السابق فى كتابه الجديد «القمع المقدس» الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، الزاوية سيكولوجية، والفصل بعنوان الألم المقدس، وهو الألم الذى يجد تبريرا له داخل الروايات المقدسة بوصفه خلاصا، وهنا الجسد هو الذى يدفع فاتورة القمع، إن الجماهير التى تعانى الاضطهاد والقهر مسكونة كما يقول المؤلف بفكرة القربان، إنها تفتش عن كبش فداء تلتف حوله مشاعر الجموع وتجد فيه مشاعرها المكبوتة نوعا من التنفيس والتفريغ، وتعرف الجماعات أهمية هذه الفكرة، لذلك يجعلون فكرة كبش الفداء جزءا أساسيا من استراتيجيتهم، وعلى الرغم من أن فكرة كبش الفداء أو القربان البشرى قد تلاشت من تاريخ الإنسانية نتيجة لتطور الحضارة وانتقال الانسان من عصور الهمجية والبربرية إلى عصر الحداثة والمدنية، إلا أن قطاعا كبيرا من مجتمعاتنا الإسلامية لم يستطع اللحاق بالركب، ولايزال يحيا فى سياق الفكر السحرى والأسطورى، السياق الذى يتبنى خطابا قبليا يقوم على مسلمة أن انتزاع الشر من العالم يتطلب دائما دما مراقا، وبنظرة بسيطة على بعض الاحتفالات الدينية لبعض الطوائف مثلا نجد أنها تتسم بقدر كبير من المازوخية واستعذاب الألم.

يذكر المؤلف من هذه الممارسات اللطم وايذاء الجسد من خلال التطبير وضرب الرأس بآلات حادة واستخدام السلاسل لضرب الكتفين والسياط لجلد الظهر، والمشى على النار أو الزجاج، وغيرها من الممارسات التى من الممكن أن تفضى إلى الموت!، ويفسر د. حسن حماد هذه الممارسات بأنها نوع من جلد الذات، والإحساس المضنى بالذنب، بسبب خذلان الإمام ... إلى آخر القصة الكربلائية المعروفة، إلى جانب الشعور بالذنب هناك الشعور بالمظلومية التى هى الذاكرة التاريخية لآلام ومعاناة جماعة من البشر فى فترة من التاريخ، تلك المازوخية تقتات من مشاعر الخطيئة والإحساس المضنى بالذنب، والتقمص الدائم لدور الضحية، هذه المشاعر هى ما تدفع الإنسان إلى استعذاب الألم وتجعله يستمرئ العذاب، ولأن الإرهابى يدعى احتكار الحقيقة المطلقة، وهذا الادعاء هو ما يعطيه الحق فى نفى الآخر ورفضه وتكفيره تمهيدا لسحقه وتصفيته وقتله، لأن الحقيقة الدينية المطلقة واحدة لا تقبل بوجود التعدد، وإلى جانبها تصبح كل الحقائق نسبية وخاطئة وباطلة وكافرة، هذا النوع من التكفير هو ما يميز التفكير القمعى الذى يصفه المؤلف بأنه ينفى حق الاختلاف، ينفى الحق فى الخطأ، والحق فى النقد والتطور والاكتشاف، هذا التفكير التكفيرى لديه رهاب وخوف عظيم من كل ما يتجاوز حدوده المعرفية، مما يجعله يسلك سلوكا وسواسيا يسعى لإنكار الآخر عقليا ورفضه وجوديا كإنسان، هذا الفكر يجعله مسكونا بغريزة الموت، يضمر عداء وكرها لكل ما هو مختلف، الأجانب، الديانات الأخرى، المثقفون، الكتاب والمبدعون، النساء ... إلخ.

إلى جانب غريزة الموت، تلك الجماعات المغيبة مسكونة بهاجس الطهرانية لأنها تشعر فى أعماقها بأنها ملوثة ومذنبة وآثمة ومحتاجة دائما إلى كبش فداء، كلكم تذكرون ما فعله تنظيم داعش فى 2015 حين ذبح واحدا وعشرين قبطيا فى ليبيا، كان يتعامل وكأنهم أضحيات أو قرابين للأسف فى هذا المشهد المأساوى، يرددون اسم الله فى أثناء الذبح، مؤمنون وهم يريقون الدم بأن هؤلاء المذبوحين كفرة ويجب التطهر منهم!، الإرهابى الانتحارى يكافح من أجل أن يصنع من ذاته التافهة المحدودة حدثا فريدا تهتز له الدنيا ويضطرب له العالم، إنه يحاول أن يخلق شيئا من لا شىء، وهو ينتزع قيمته من خلال الفوضى والعماء، ويجاهد من أجل تسليط الفوضى على هذا الوجود، ويؤكد فاعليته عبر فعل الهدم والتدمير وإعدام الحياة، ويؤكد هذا المعنى تيرى ايجلتون حين يقول «يمكن أن يغدو موت المفجر الانتحارى حدثا أكثر أهمية من أى شيء فى حياة المنبوذين والمهمشين، وقد يصبح الحدث التاريخى الوحيد الذى يقومون به، فبعد أن مزق الانتحاريون الأطفال إلى أشلاء وأهلكوا الأبرياء، تراودهم فكرة أنهم يستطيعون أن يشعروا الآن بأنهم أحياء بنحو أكثر كثافة، إذ لا شيء فى حياتهم يمتلك أهمية قبل تركها، ويكف الموت عن كونه خسارة مجانية». يلخص د. حسن حماد مؤلف كتاب «القمع المقدس» الوضع قائلا إنه ليس أمام الإرهابى الانتحارى سوى خيارين: إما أن يفرض حقيقته المطلقة على العالم أو يبث الفوضى والعدم والموت فى هذا العالم، ولأن الحقيقة المطلقة مستحيلة، ولا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، لذلك يستسلم الإرهابى لعدوانيته المفرطة وينشر الموت والخراب والدمار فيما حوله، إن هذا الإرهابى مختل سيكولوجيا، سيكوباتى غير قابل للشفاء من فرط غسيل المخ وسحق الروح، يمتلك مركبا عجيبا، سادية مرعبة، ومازوخية منسحقة تستعذب الألم، عاشقة للدمار والخراب.

***

د. خالد منتصر

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأثنين 11 من شعبان 1446 هــ 10 فبراير 2025 السنة 149 العدد 50470

في المثقف اليوم