اخترنا لكم

علي المرهج "الآخر" الغربي.. بين القبول والرفض في فكر النهضة العربية

تعني "النهضة" لغوياً "الإنبعاث الجديد" وهي العملية التي بدأت كما هو معروف مع القرن الخامس عشر الميلادي في صورة احياء الآداب الرومانية والاغريقية وما أعقب ذلك من قيام "النزعة الإنسانية" الثورة على كنيسة العصور الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني المناقضة للرهبانية الداعية إلى العودة للمسيحية في صفائها الأول.
لذا فمفوم النهضة في الفكر الأوربي بمعنى "الميلاد الجديد" يختلف عنه في الفكر العربي لأنه مرتبط لغويًا بـ "النهوض" أي القيام والإرتفاع، بمعنى آخر أن "النهضة"، كما يرى محمد عابد الجابري، في اللغات الأوربية مرتبطة بالزمان، أما في اللغة العربية فهو مرتبط بالمكان. وحتى سؤال النهضة الشهير الذي وضعه الأمير شكيب أرسلان في كتاب يحمل العنوان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" هو سؤال يرسم صورة زمانية: كان العرب متقدمين فيها فتأخروا، وكان غيرهم، وبالتحديد أوربا متأخرا فصار متقدما، تماما مثلما تتقدم الجيوش وتتأخر على ساحة القتال.
وهذا يعني أن "النهضة" عندنا مرتبطة بالعودة للماضي "سيرة أسلافنا"، لأننا إنحرفنا عن نهجهم القويم. هناك من التيارات السلفية من يرى أن شرط تحقق النهضة في الفكر العربي مرتبط بسقوط "الآخر" أو تراجعه، لأنه يمثل بالنسبة لكثير من مفكرينا العقبة الأساس في استمرار تخلفنا إن لم يكن هو السبب الرئيس. ما يشهد على ذلك أن العرب والمسلمين حققوا نهضتهم من قبل بضعف حضارتي الفرس والروم، وبتخلص العرب من "الآخر" المنافس المضايق المعرقل، انطلقوا أحراراً طليقين داخل مجال حيوي فسيح جعلوه عالمهم الخاص. يؤكد "علي المحافظة" في كتابه "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة" أن عوامل الضعف والانحلال بدأت تدب في كيان العرب منذ نهاية القرن الرابع الهجري، وتوالت عليهم المحن والنكبات وتعرضوا لكثير من الحروب، وأهما: الحروب الصليبية من الغرب والموجات التركية المتوالية، وفي القرن السابع للهجرة تعرضهم لموجات المغول فاحتلت بغداد، وبعد قرنيين تعرضت دمشق لغزو تيمورلنك، وفي مطلع القرن السادس عشر الميلادي تم فتح البلاد العربية على يد الاتراك العثمانيون. كل هذه الاحداث التي مر بها العرب ادت بهم الى العزلة التامة عن العالم الخارجي طوال القرون الثلاثة الاولى من حكم الاتراك عليهم، بينما اوروبا شهدت نهضة علمية وادبية رافقتها عدة اكتشافات من الناحية الجغرافية والعسكرية اضافة الى الثورة الصناعية التي اجتاحتها في القرن الثامن عشر. لم يكن ما حدث في النهضة الأوربية ببعيد عن تأثرهم بما قدمه العلماء والمفكرون العرب والمسلمون، ولكن كثيراً من مقولات المستشرقين تتجه الى انكار هذا التأثير، والتأكيد على أن حضارتهم امتداد للحضارة اليونانية ولم يكن العرب والمسلمون سوى حلقة وصل، على قاعدة "علومنا رُدّت إلينا"!. الذي يعطيهم هذا الحق في إنكار الدور النهضوي للعرب هو التراجع الخطير الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية.
فبقدر تراجع العرب إلى الوراء تتقدم أوربا خطوات إلى الأمام. وهذا ما دشنته أوربا في نهضتها الثانية في القرنين السادس و السابع عشر، متحررة من كل منافس ومضايق، فأخذت تشق طريقها في مجال حيوي فسيح جعلته عالمها الخاص. قد يكون تصحيح الوعي بمفهوم وفكر النهضة بوصفه لا يقوم على نقد "الآخر" فقط، بل نقد الأنا، وهذا لا يتحقق إلا بالتشكيك بمعارفنا السابقة، ذلك المنهج الذي إختطه ديكارت ليس لمجرد رفض المعارف السابقة وإنما لفحص مدى قدرتها على البقاء، والتحقق من صلاحيتها في ضوء تحولات العصر.هذا العمل لا يقوم به إلا الفيلسوف الذي ينفتح على جميع الأفكار متجاوزًا عقدة الأيديولوجيا والدين والعقيدة، إذ أن مهمة الفلاسفة كما يقول علي حرب " انتاج افكار خلاقة ومهمة، تمتاز ببعدها عن الخصوصية الثقافية، وهذا ما فعله الفلاسفة في العصر الكلاسيكي العربي، ذلك أن المفكر العربي في تلك الفترة لم يفكر تحت تأثير وعيه لهويته الجمعية، كما تشهد على ذلك بعض الأعمال الفكرية البارزة، والتي لا تشير غالبا الى هوية عرقية أو دينية أو جغرافية، كالمدينة الفاضلة للفارابي، او الاشارات والتنبيهات لابن سينا، وهذا هو شأن الأعمال الفكرية الحديثة كما هو الحال في "مقال في المنهج" لديكارت الذي لم يعد شأنا فرنسيًا، بل أصبح ملكًا لكل من يعنيه أمر المنهج، وكذلك الحال مع "نقد العقل المحض" لكانط، أو "الوجود والزمان" لهيدكر، او حفريات المعرفة لفوكو، وكلها عناوين بعيدة عن الخصوصية القومية او الثقافية، لأنها تشير الى انخراط المفكر في المشكلات الفكرية العامة المتصلة بالعقل، أو الذات، أو الوجود أو السلط وهذا ما آلت اليه أغلب المشاريع الفكرية التي تُعرف بهويتها من خلال نسبها العربي أو الإسلامي، والتي حملت سمة التجديد والإصلاح، وذلك لأنهم لم يحسنوا سوى التقليد، تقليد الماضين من العرب والمسلمين، أو تقليد المحدثين والمعاصرين. لأن من يبتكر ويجدد، هو من يشتغل على هويته وانتماءاته، على تراثه وأصوله... تفكيكاً وتحويلًا، من أجل إزالة الركام الأيديولوجي الذي يطمس الرؤية ويختم على العقل. إن الخشية من شيوع الفكر الفلسفي نابع من كون هذا الفكر يقوم على مصارعة عقلية الاستبداد التي ترفض كل أشكال الحرية التي تريدها وتدعو لها الفلسفة لتحقيق مجتمع أفضل، ونحن وإن كنا ننتقد الفيلسوف الذي يعتقد بأفضلية الرئيس الفيلسوف على غيره في إدارة الدولة، إلا أننا نعتقد جازمين بأن المجتمعات المدنية والمتقدمة هي التي تعطي الأولوية للعلم والفلسفة في حياتها الثقافية وفي برامجها التعليمية، والطهطاوي كان من الذين يحذرون الفلسفة مؤكدا على أن قراءة الفلسفة تسبب فتورا بالإيمان سوى الذين تمكنوا من الكتاب والسنة ومشكلة اللغة الفرنسية أنها محتوية على شيء من الفلسفة، وإن كان الطهطاوي يختلف عن فلاسفتنا وعن ابن رشد في دفاعه عن الفلسفة، إلا أن كلا منهما كان لحظة فاصلة في حياة العرب، فقد غادرتنا لحظة ابن رشد العقلانية الى الغرب فكانت أحد اسباب نهضته وبداية تخلفنا، ومع لحظة الطهطاوي بدأنا نغادر لحظة التخلف ونحاول أن نستعيد نهضتنا المفقودة.
* الإتجاه الإصلاحي ومنطلقات النهضة
جاءت هذه المدرسة باعتقادنا مكملة او امتداد للفلسفة الإسلامية لا سيما ما طرحه الكندي والفارابي وصولا لأبن رشد في التأكيد على ضرورة التوفيق بين الحكمة والشريعة والقول بان طلب العلم فريضة حتى وان كان هذا العلم عند أمم مخالفة لنا في الدين والملة والمعتقد. يمكن ان يعد المعتزلة والفلاسفة المسلمون جذرًا لتوجهات هؤلاء الفكرية لاسيما "الكندي" و"ابن رشد" في الجمع بين الحكمة والشريعة أو بين العقل والنقل اذ يقول ابن رشد: "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" بمعنى ان الدين حق والفلسفة حق وان النتيجة التي يوصل اليها طريق البرهان لاتختلف عن النتيجة التي يوصل اليها طريق الايمان.
إن الدعوة الإسلامية هي دعوة للتعقل والتحرر من كل مظاهر الجهل والتخلف السابق. يمثل كل من "الطهطاوي" و"الأفغاني" نقطة بداية المشروع النهضوي الإصلاحي، ومن ثم جاءت جهود خير الدين التونسي ومحمد عبده والكواكبي لتتوج آراء هؤلاء في الدفاع عن الاسلام والنظر إليه على أنه جاء ليدافع عن العلم والتطور واحترام القانون والعدل فكان سبب تقدم المسلمين في نهضتهم الأولى، واليوم بعد أن ترك المسلمون الإسلام أو جهلوه وما عرفوه حق المعرفة فنجدهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تخلف وتأخر وجهل. ركز أصحاب هذا الإتجاه على الجمع بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة أو الدين والفلسفة. الدين عندهم هو دافع إلى الكمال كونه يرفع أو يسمو بالإنسان إلى عالم اللاهوت والإبتعاد عن مغريات الدنيا المادية وشهواتها، وهو دين الخلاص. إن الطهطاوي والأفعاني يشكلان بداية تبلور المشروع النهضوي العربي عموما، وهناك بعض أصحاب الاتجاه العلماني ممن تأثروا بمقولات الطهطاوي والأفغاني، ومن أهم من تأثروا بهم. وبعد هؤلاء جاء محمد عبده الذي تأثر به علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومن تبعهم.
أهم منطلق يبتدأ فيه أصحاب اهذا الإتجاه هو معرفة أن سبب رئيس في تراجع الأمة وتخلفها الاستبداد لأن سلطة الاستبداد، بوجودها يغيب الحق وتختفي العدالة والمساواة والإنصاف.. الخ. يدعو أصحاب هذا الإتجاه الى تبني كل ما لا يتعارض مع الدين لاسيما في الموقف من حرية المرأة وحرية الرأي، رغم أن موقف الطهطاوي من حرية المرأة كان موقفا مرتبكا ومتردًاد بين الأخذ بالتوجهات الغربية وبين الالتزام بما تريده الشريعة وهذا واضح حينما نقارن بين ما جاء في كتابه "تخليص الابريز" من موقف ناقد للمرأة وبين ما جاء في كتابه "المرشد الامين للبنات والبنين" من موقف مدافع عنها. المنطلق الأهم هو الدعوة إلى الاجتهاد وإعادة فتح باب الاجتهاد، وهناك قول للأفغاني: "متى سُدّ باب الاجتهاد.. فمالك إنسان، وأبو حنيفة إنسان، والشافعي إنسان، وأنا إنسان...". يترتب على ذلك القول بالتأويل النص القرآني، فالنص عندهم قابل للتأويل حتى يلائم كل عصر، أي أنه يؤمن بالتأويل ومتى ما تعارض النقل مع العقل، فيجب تأويل النقل بما يتطابق مع العقل. هذه من أهم القضايا الأساسية عند الأفغاني وأنه يعتقد بأن سبب تأخر المسلمين أنهم تركوا الدين. لذلك يرفض الأفغاني فصل الدين عن السياسة، مؤمناً أن افضل الطرق للتعبئة السياسية للأمة الإسلامية هو توظيف الدين لصالحها. التراث مصدر اشعاع بالنسبة لهم لأنه يمثل اللحظة الحقيقية للنهضة العربية والإسلامية تمثل في بزوغ الرسالة المحمدية التي مثلت صلاح هذه الأمة وإصلاحها، لذلك نجد مفكري هذا التيار يعتقدون بأن أمر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به آخرها بحسب مقولة الامام مالك. نقول على الرغم من التزامها بمقولات التراث ومعطياته الايجابية، وقناعة مفكريها بـ "أن سبب تأخر المسلمين هو تركهم لأمور دينهم"، إلا أنهم دعوا في الوقت نفسه الى الانفتاح على الحضارة الأوربية والنهل منها بحساب أن منجزات هذه الحضارة لم تأت من فراغ وإنما جاءت عبر تواصل حضاري، والعرب والمسلمون كانوا حلقة وصل ومصدر إضافة وإبداع على الحضارات السابقة وما كانت أوربا لتصل الى ما وصلت اليه لو لم يصل العلم العربي عبر الاندلس الى اوربا. بحكم سفره الى باريس نجد الطهطاوي يسجل اول انطباعاته عن الفرنسيين بشكل خاص بقوله: شعب قد تفرد بين الشعوب الاوربية بإحراز النصيب الأوفر في رفع منار العلم والصناعة بعد الرومانين وصار بذلك مشرقا للتمدن في سائر الممالك الغربية وبما احرز الفرنساوين من تلك الأصول كانت لهم الكلمة النافذة في دول الغرب الى القرن الثامن عشر من الميلاد المسيحي حتى ظهر فيهم "فولتير" و"روسو" يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول. جاهد أصحاب هذا الإتجاه في سبيل الدفاع عن الإسلام العقلاني الذي يُحارب الإستبداد، وينشد الحرية، وهذا واضح في كتابات الكواكبي لا سيما كتابه "طبائع الاستبداد" عبر دفاعه عن "المشروطة" "الدستور" ونقده للـ "المستبدة"، بما يضمن للشعوب الحريات، والعمل على فصل السُلطات "التنفيذية" و "التشريعية" و"القضائية"، بل ودعوته للـ "الآخر" الغرب أن يعين أخيه "الشرق" بتعبير الكواكبي، كما كان الشرق من قبل عونًا له على التقدم، فقد عمل مفكرو النهضة العربية بلا كلل ولا ملل، على نشر الوعي الديني العقلاني، في محاولة منهم لإعادة مجد المدرسة العقلانية الفلسفية الإسلامية التي بدأت ملامح وجودها مع الكندي، وتجلت مع إبن رشد، وكلا الفيلسوفين، كانا يرومان الحفاظ على مُعطيات الدين الإنسانية والتوفيق بينها وبين نتاج العقل، على أساس القاعدة القرآنية "إدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل- 125"، وفق متبنيات الدفاع عن الدين الإسلامي بوصفه دين التعقل والحرية والعدل. يبحث تيار الإصلاح عما يخدم الإنسان بما هو مواطن، كائن مدني بالطبع، ولا خلاف له مع نتاج الغرب العلمي والتقني، ولكن خلافه مع الغرب الاستعماري "الكولنيالي" الذي استنزف مُقدارت الشعوب الإسلامية، وحاربها في مُتبنياتها العقائدية والدينية، بل وصل الأمر بالشيح محمد عبده أن يدعو للاستفادة من المستعمر في إدارة أمور البلاد والاطلاع على تجربتيه في بناء حياة مدنية، فهو لا يرى ولا يعتقد أن في الدين ما هو مُعارض للعلم، وهذا ما أوضحه في حواره مع فرح أنطون في كتاب نشر بعنوان "الإسلام والمدنية"، أما الأفغاني فقد أخذ على عاتقه الرد على "الماديين" في رسالته "الرد على الدهريين"، تلك الرسالة التي كتبها للرد على طائفة من الهنود المسلمين كان هم مفكريها تقليد الغرب تقليدًا مُتطرفًا، حتى في نزعاته الإلحادية، ولم يكن همه من كتابتها سوى الدفاع عن الدين الذي وجد في خلاصًا للضعفاء من هيمنة الأغنياء، وتحرير للبشر من ربقة المستبدين، فلا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق، وكل المستبدين إنما هم عصوا الخالق، حينما جعلوا من أنفسهم أربابًا من دون الله، فلا طاعة لهم، فكان جُل همه إفهام المسلمين الدين الصحيح القائم على التسامح ونبذ الطائفية التي هي برأيه من صُنع الغرب المستعمر "الكولنيالي".
حرص الطهطاوي خير الدين التونسي وكذلك الكواكبي ومحمد عبده على الدفاع عن الحريات العامة، مثل حرية التملك، وحرية الصحافة، وحرية المُعتقد، وحرية التعبير، وهي من أصول "المدنية الإسلامية" وفعل "التثاقف الحضاري" الذي مهد له الفكر الإسلامي بتفاعله مع المنتج الحضاري والثقافي للفلسفة اليونانية وباقي النتاج الحضاري عند أبناء الديانات والطوائف الأخرى غير الإسلامية، فكان للسريان دورهم الفاعل في نقل العلم والفلسفة اليونانية أيام زهو الحضارة الإسلامية وإنشاء "بيت الحكمة"، وكذلك كان حال الكثير من اليهود الذي نعموا في ظل الحضارة الإسلامية لا سيما في الأندلس ولنا في تأثر "ابن رشد" مثال يُحتذى لمدى التسامح والتثاقف الحضاري في الفكر الإسلامي.
***
ا. د. علي المرهج – أستاذ الفلسفة / الجامعة المستنصرية
عن موقع مراصد في يوم: 26‏/2‏/2025، 1:52:10 م

في المثقف اليوم