اخترنا لكم

بن محمد قسطاني: في تفكيك أطروحة طه عبد الرحمان من الأفكار إلى الكلمات

(الفلسفة كفاح ضد سحر اللغة لذكائنا)

لودفيك فيدجنشتين

***

مقدمة

مجموعة أسئلة تطرح نفسها عند محاولة فهم أطروحة طه عبد الرحمن، ولعل أهمها هل فلسفته فعلا أصيلة ومبتكرة كما يحاول أن يقنعنا بذلك، هو وكل المتحمسين له ومعه؟ وهو سؤال تتفرع عنه أسئلة من قبيل أين تتجلى أصالته إن اتفقنا على وجودها؟ هل في قطيعته مع التراث؟ أم مع الفلسفة الغربية؟ وهل تجاوز المدرسية التي ينعت بها الآخرين؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون طموحا أو حتى ادعاء يغطي بما فكر فيه من قبل بكلمات تبدو مبتكرة لتدل على أفكار غير ذلك؟ وما هو السرّ المعلن والمضمر خلف ذلك الادعاء والمنحى؟

هذا ما سنحاول توضيحه في هذه العجالة التفكيكية التي لن تهتم إلا بالمحاضرة على أساس البحث في المزالق المنهجية والمتناقض المنطقي والفكري.

وحتى لا نسقط في الارتجال والنقد العفوي، نطرح أوليات غير مغلقة نعتبرها تقود تفكيرنا بالمنهج الحذر وليس بوصفها معيارا نهائيا يرجع إليه خوفا من الضلال.

الأولية الأولى: الفلسفة فلسفة وكفى، وهي ليست بحاجة أن يكون لها دين، أو حتى ثقافة دينية أو وطنا دينيا؛

الأولية الثانية: يمكن التفكير في الدين وبالدين ودون الحاجة إلى فلسفة.

الأولية الثالثة: يجب الفصل المنهجي بين الفلسفة والدين، دون إلغاء مطلق للتماس، مع إمكانية أن يفكر الدين في الفلسفة كدين، وأن تفكر الفلسفة في الدين كفلسفة.

الأولية الرابعة: الفلسفة دوما بصيغة الجمع، والقول عنها وفيها يستوجب التعيين ويستحسن أن يكون معلنا؛

الأولية الخامسة: الفلسفة أصيلة بماهيتها ولا تحتاج إلى تأصيل خارجها؛

الأولية السادسة: اللغة رغم أهميتها فهي ليست الفكر؛

الأولية السابعة: التفكير أوسع من المنطق...

عنوان المحاضرة: كيف ننشئ فلسفة إسلامية أصيلة؟ البحث في الكيف يدل على تمهيد الطريق ووضع معالم لها لمن يريد المسير، بلغة علوم المعرفة هو بحث في المنهج، وهو هنا يروم الإنشاء وربما البناء من الصفر للفيلسوف، لكن باتباع خطوات ربانية حددها قبل ذلك النبي، وهي فكرة تذكرنا بالفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة التي يجب أن يحكمها نبي أو فيلسوف، دون أن يذكر صاحب المحاضرة أيًّا من الفلاسفة التراثيين الكبار سواء الفارابي، على الأقل بالنسبة إلى هذه الفكرة المحورية؛ أو ابن سينا؛ أو الغزالي في الانتقال من العقل إلى الحدس، والنور الذي يقذفه الله في القلوب، أو ابن رشد الذي يكاد يكون خطاطة عامة وصورية للمحاضرة كلها، رغم موقف طه عبد لرحمن السلبي من فيلسوف قرطبة.

عندما نفحص لفظ فيلسوف نجده بصيغة المفرد كأنه ليس هناك سوى فلسفة واحدة، وربما يقصد بها فلسفة واحدة تقادمت وهي الوضعية، في حين أن للفلسفة، وخاصة المعاصرة أكثر من تعريف وتعيين.

ماذا يعني طه بالإسلامي؟ هل نسبة إلى الثقافة الإسلامية وهو الأجدر؟ أم بالنسبة إلى الدين، وهو ما مال إليه بتسمية المسلم في المتن.

منذ العنوان نجد أن الأمر جد مرتبك، سواء في تحديد الموضوع في الكيف والمنهج أم بنعت الفيلسوف بصيغة المفرد، والإسلامي بدلالة الدين، ثم يضيف إلى كل ذلك لفظ الأصيل للدلالة على إمكانية أن يكون هناك فيلسوف مسلم غير أصيل، وهو يقصد هنا من تشبع بالفلسفة اليونانية والغربية حتى ولو كان مسلما، وهو يلمز إلى ابن رشد من القدماء، والذي يعتبره يونانيا بلغة عربية، والجابري وغيره من زملائه من المعاصرين.

أخيرا لو أزال الفيلسوف لفظ فلسفة من المحاضرة ليستقيم الخطاب على البحث في نهج النبوة الذي هو في الحقيقة التعريفية والعقدية لا حاجة له إلى الفلسفة، اللهم إذا كانت الفلسفة تعني نوعا من ترتيب الكلام بأبواب ومقدمات تنتج عنها نتائج طوطولوجية تقترب من التمارين اللغوية والمنطقية الصورية، وليس من التفكير والبحث عن الحقيقة.

الغايات من المحاضرة:

الغاية الأولى:

-  يفصح الفيلسوف طه عبد الرحمن ومنذ بداية كلامه على أن الغاية من مبادرته هي الدلالة على "بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن يهتدي بها الفيلسوف المسلم" وليس الإسلامي عكس ما في العنوان، لكنه يستطرد قائلا بكونه يتوخى وضعها؛ أي الفلسفة هذه، ضمن التداول الإسلامي، وهو التعيين الذي يشبه الثقافة الإسلامية وليس الدين الإسلامي. هذا التردد بين الثقافة والدين له مدلوله المنهجي والنفسي الذي يتجلى في عدم القدرة على التضحية بالمكونات الشخصية للمسار الفلسفي المنطقي من جهة وتصوره الخاص للعقيدة من جهة ثانية، وهي ازدواجية جد ملازمة لفكره.

الغاية الثانية:

-  أنس المتلقي المسلم، وهو يقصد هنا حتى غير الفيلسوف، وبلغته، حتى لا "يستوحش الفلسفة"، والتي تأتي من هناك الغربي مضمرا. يتعلق الأمر إذن بغاية بيداغوجية أو حتى دعوية في إطار الدفاع وليس محاولة الفهم والتحليل. هي دعوة إلى فلسفة تريد البقاء في الألفة ومنطقة الأمان بعيدًا عن الدهشة والتساؤل والنقد، وهي الوظائف والخاصيات المحايثة للتفلسف، وقد انتبه هو نفسه عندما اعتبر مقالته فقه الفلسفة وليس فلسفة.

الغاية الثالثة:

-  وضع أصول في "فقه الفلسفة"، وهي غاية تبدو دقيقة لكنها تتعارض مع العنوان، والذي كان ينبغي أن يتحول بذلك إلى "كيف ننشئ فقه فلسفة إسلامية أصيلة". أو منهج تفلسف المسلم، وليس الإسلامي.

بعد طرحه للغايات يصل إلى وضع الأصول، فيضطر إلى تحديد تصوره للتصور الفلسفي السائد في العالم، ويحصره في تصورين، العلمي والمعرفي، وهو الحصر الذي سيقود إلى انزلاقات عديدة؛ لأنه يقصي تصورا ثالثا هو التصور الفلسفي نفسه، تصورها لنفسها، وبذلك يقصي مباحث جوهرية وفعالة في الفلسفة عامة والمعاصرة خاصة تضع العلم والمعرفة نفسهما موضع تحليل فلسفي.

عندما يصف الفلسفة بالحكمة لا يجانب الصواب، لكنه سرعان ما يلتفت لحركة واحدة فحسب للفلسفة كحكمة تبحث عن الحقيقة وهي التطورية، غافلا عن الانتشار؛ والركود؛ أو حتى العودة إلى الينابيع الأولى للتفلسف وفق كون الفلسفة لا تاريخ لها كما ينعتها ميشال فوكو.

اعتماده التطورية أوصلته في تصوره إلى محطة نهائية واحدة للفلسفة، وهي البحث عن الحقيقة المستمدة من الواقع وتبعيتها للعلم، وبذلك يغفل عن غنى الفلسفة وكيف أنها تشتغل في الواقعي وغير الواقعي والذي تنتقده أحيانا، وتتخيل بدائل له وأوضاع أخرى أفضل للإنسان كما في الفلسفات السياسية والحقوقية والبيئية، وحتى العلمية.

وكما أوقف قطار الفلسفة عند محطة واحدة هي محطة الانكباب على فهم الواقع وربط الأمر بالعلم "وتحصيل القوانين الموضوعية"، وهو مزلق كان سيتفاداه لو استنجد بعلوم المعرفة والمنهج والابستمولوجيا ليصل إلى تعاريف عديدة للعلم وليس إلى تعريف واحد. واعتماده "العلم الموضوعي" نقص في تعريف الموضوعية نظرا لكون مياه كثيرة جرت تحت قنطرة العلوم سواء النظرية أو الطبيعية أو الإنسانية.

بعد ذلك يحكم على هذا التصور الذي أسماه علميا للفلسفة برياضة لغوية عزيزة عليه بمبادئ تصنيفية تبتسر الواقع والفكر والحقيقة.

ثم يعود ليخضع "الحكمة" للتصور الذي يضيق، حتى يرسو عند القيمة "المستمدة من الذات"، وهذا في رأيه التصور المعرفي للفلسفة بعدما ناقش ما أسماه بالتصور العلمي للفلسفة، وهو اختلاف بين التصورين لا يفسره.

ويخلص الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى أن الفيلسوف المسلم يحتاج إلى أن يستشكل بناء على منظور أمته، هكذا، من أجل بيان الطريق الذي يخرج الإنسان المعاصر من "تسفله" مع كون الخلاص لكافة الناس يجب أن يأتي من الأمة المسلمة.

في الأصل الثاني يفرض على الفيلسوف المسلم أن يقرر إرجاع "تسفل الإنسان" إلى "تسييب العلم" و"تجريد المعرفة" وإرجاع التسييب إلى استقلال العلم عن الفلسفة، ليصبح خاضعا "للحسابية" و"الإنتاجية" و"المردودية" و"الفعالية"، وهو تصور مختزل للعلم؛ لأنه ليس كل علم حسابي، كما أنه ليس كله إنتاجيا، هو كأستاذ باحث يعرف أن هناك البحث الأساسي الذي لا يهتم في أن يطبق أو لا، ولا في أن ينتج أولا.

يجب على العلم أن يخضع للحكمة بعدا عن التسييب والاستمتاع، وهو في مظهره نقد رصين لكن في مضمونه، وحتى في لغته يقترب كثيرا من حجاج الحس المشترك وأقاويل المشتغلين في الدفاع عن العقيدة الإسلامية من أمثال أصحاب الاعجاز وغيرهم.

في الفصل الثالث يفرض أيضا "ينبغي" على الفيلسوف المسلم أن يشتغل في كيفية دفع آفتي التسييب والتجريد لتطال عموم الانسان خارج مجاله التداولي مبررا ذلك بدفع التسييب التقني والتجرد القيمي أولا، وثانيا من أجل التوجه نحو الكونية كهوية للفلسفة. أما الثالث، فهو ديني يتجلى في كون الدعوة الإسلامية كونية. ثم يستنتج لزوما كون الأصالة لا تعني الانغلاق على الذات تراثيا بل هناك ضرورة الانفتاح الواعي، ليخلص إلى الكونية في آخر المطاف حسب تعبيره، إنما هي الارتقاء بالخصوصية التداولية حتى تنفتح عن خصوصيات أخرى للعالم، وهو كلام يبدو سليما وربما فهم فيه نوع من التسامح وقبول الاختلاف، وهي المفاهيم الغائبة كلية في المتن، وما أن تفحص عن قرب تصبح متهافتة؛ لأن الخصوصيات المعتمدة لديه دينية، بينما الخصوصيات الكونية تشمل الديني وغيره، لنعود مرة أخرى إلى نقطة الانطلاق كدعوة إلى نشر القيم الخصوصية للأمة على الكون.

مزالق تجاوز المنهجية العلمية:

-  عدم التعريف الدقيق والشمولي لمفاهيم كبرى وحاسمة في بناء الأطروحة مثل الفلسفة؛ والإسلام؛ والمعرفة؛ والعلم؛ والحقيقة، وهو الأمر الذي لو تم لمنع الأطروحة من كثير من التهافت.

- لم يحدد ماذا يقصده بالفلسفة؟ أو بصيغة أدق أي فلسفة؟ حيث تكلم عنها بصيغة المفرد الذي يشبه تعريف الحس المشترك لها أو التعريف الديني المتورط. كما أنه لم يتحدث عن أي إسلام يتحدث، هل هو إسلام الفقهاء والشريعة؟ أم إسلام علماء الكلام؟ أم الفلاسفة؟ أم عموم المسلمين؟ رغم انتصاره كما يقرأ داخل السطور للإسلام الصوفي، والذي هو في عمقه اسلام الفردانية والحدس واقتياد الجماهير بالوجدان والعاطفة.

-  المعيارية...

-  التطورية؛ قوله بالأطوار، كل طور يكون أكثر تضييقا لمدلول الحقية والفلسفة والمعرفة ليس دوما صحيحا، فقد تتوسع المعارف والعلوم وتتوسع الفلسفة بتوسعهما وكذلك مدلول الحقيقة.

-  الحقيقة في الفلسفة المعاصرة لا تستمد من الواقع فحسب، بل ومن النظر وحتى الخيال وما ينبغي أن يكون سياسيا وأخلاقيا.

شغف المحاضر بالتصنيف والتنضيد ووضع الأفكار في الخانات يجبره على الاختزال، حيث يحصر الإدراك في "الاقتناص" الذي غايته "الامتلاك العقلي"، في حين أن الإدراك أعقد لو اطلع على على الفينومينولوجيا كفاية؛ أو على علوم المعرفة لأدرك أن العمليات الذهنية الصرفة لا وجود لها، فهي مرتبطة، بالتحفيز والملهم والماضي من التجارب، ثم يربط الإدراك أيضا بالاستعمال وبذلك يقضي على التحديد الأول للفلسفة، والذي هو البحث في الحقيقة بما هي حقيقة، وليس بما هي استعمال، ثم يقترح "الإتمان" كنقيض للامتلاك، وهي عودة إلى المعتقد الذي لا يؤمن به كل الناس وكل الفلاسفة.

من مزالق هذا المتن أيضا حكمه في الأصل الخامس على كون "الصورة العلمية للفلسفة" تخرج الفلسفة من أصلها، وهو تهافت يرجع لعدم التعريف الدقيق للعلم كما سبق ووضحنا وربطه تضييقا بالآلة وبالوقائع، وهي ليست سوى أجزاء لتطبيقات العلم فحسب.

في الفصل السادس ينزلق الفكر المنفعل نحو نوع من فورة الحس المشترك في الحديث عن المراتب والسعات للأنشطة المعرفية حين يضع الحكمة تسع العلم وتعلو عليه، ولا يستطيع أن يتصور عكس علوم المعرفة اشتغالهما سوية وتظافرا، وأن الاجتماعي هو من يمكن أن يفصل بينها.

في الأصل الثامن يرفض التشبه الإلهي الذي يرى بأنه أسلوب فلسفي ويفضل عليه الاقتداء بالنبي، سواء في المنهج العقلي أو المسلك الخلقي منوّهًا بالصدق الذي عرف به كأسمى القيم العقلية نحو توحيد الربوبية والاتصال بالأفق الإلهي. الصدق يوصل إلى التوحيد والأمانة إلى العدل.

أخيرا يختم طه عبد الرحمن محاضرته بالدعوة الصريحة للحكمة والتخلي الصريح عن العلم، ودفع "التسفل" الذي يسببه "التسييب التقني" و"التسييب القيمي"، ويقترح علاج تهذيب العلم وتسديد المعرفة نحو رتبة "الصديقية" عودة إلى الفطرة التي جاء الدين على وفقها.

وعند الاقتراب من هذه النفحة الدينية نجده رغم ادعائه الاقتداء بالنبي يخرج عن المنطق الديني كما خرج عن المنطقي الفلسفي والعلمي. النبوة وحي ينزل من السماء وليس يصعد من صفات النبي.

خلاصة

هل جاء طه عبد الرحمن بمنهج أصيل يفيد الاستقلال الفلسفي؟

إن تجنب طه عبد الرحمن للمنهج العلمي موقف لا معرفي ولا تاريخي ولا أخلاقي، فهو نوع من المغامرة الفردانية التي تحاول أن تسبح في الفراغ، حيث المزالق والتهافت. إنه تجنب غير علمي وغير معرفي وغير فلسفي، إنما هو تجنب انفعالي، وبذلك يمكن للعمل برمته أن يعود إلى الحس المشترك ليس كفطرة وإنما كفورة.

ومع مثل هذه المشاريع الدعوية، لا نبرح المكان منذ السؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؛ لأنه ببساطة لم نتجاوز منطق الدعوة والانفعال نحو الفعل المثمر المتواضع الذي يعرف. إنه ممكن أن يخطئ في أي حين وأن يصحح، حتى يمتلك ناصية الأفكار والوقائع بفهم منطقها ومحاولة تدبيره بالملاءمة.

***

بن محمد قسطاني - أستاذ التعليم العالي -المغرب

 عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 19 أغسطس 2024

في المثقف اليوم