اخترنا لكم
فهد سليمان الشقيران: حول العلمانية ومشكلة الترجمة
لم يكن مفهوم العلمانية-كما تحدثت في مقالة ماضية- مفعّلاً للتبيئة بسبب الترجمة السطحية للمعنى، نشبت سجالات طويلة لا تحصى، وبلغت ذروتها مع اشتداد التأزيم الأصولي، وأخص بالذكر ما طرحه محمد قطب المنظر الفكري للإخوان ولتياراتها المتفرعة في كتابه «واقعنا المعاصر» الذي صار الفصل المخصص حول العلمانية في الكتاب مرجعاً للمجاميع المتشددة، ولأن نقده كان مقروناً بمقولات معاجم وكتاب وفلاسفة غربيين ظنّ المناوئون أن ماقاله محمد قطب هو الحق المطلق، وتلاه عدد كبير من المنظرين الآخرين الذين لخصوا ماقاله وبسطوه ليكون بين أيدي الشباب المتحمس المتمرد.
لكن ماهو المعنى حين نقول «العلمانية»؟!
هذا السؤال يعيدني إلى فيلسوف كبير هو محمد أركون الذي طالما شكا من ضبابية مفهوم العلمانية بالترجمة إلى العربية، موضحاً أننا إذا قلنا laïcité بالفرنسية، فإن المعنى للمفهوم أكثر إشعاعاً وسطوعاً ودلالةً من ترجمته إلى العربية بـ«العلمانية»، وآية ذلك أن المفهوم علاوةً على الضلال الأيديولوجي في تفسيره وحمولة الشحن بوجه العلمانية باعتبارها تسحق الدين وحضوره بالمجال العام، فإن مناحي أخرى من الدلالات لا تتضح كفايةً بالشرح العربي. فالمفهوم لا يضع الدين مقابل الدنيوية، بل وظيفة المفهوم متعددة، ومجالات فعله أكبر من تفاسير الفصل بين الدين والدنيا، بل يحمل فضاءً من الترتيب للمجال العام لتحريره من القيود التاريخية، وجعل الحياة أكثر تشبّعاً بحضور الإنسان وازدهار واقعه، ليست وظيفة العلمانية أن تتدخل بأي تفسير ديني، ولا أن تصحح أي مفهوم عقائدي، بل تعمل على ترتيب واقعٍ أقل كارثيةً، بدليل أنه انبجس بعد عهودٍ من الحروب والنزاعات الأهلية وقصص الدماء.
وهنا أستشهد بجورج طرابيشي في كتابه «هرطقات»، حيث خصص فصلاً بعنوان «بذور العلمانية في الإسلام» وفيه يساجل لا الحجج الإسلاموية وحدها، ولا الأكاديمية الناجزة والسريعة، وإنما حتى الاستشراقية، ضارباً بذلك مثلاً برنارد لويس الذي يعتبر أن الإسلام: «أصله الجوهري اتصالي، وليس انفصالياً كما هو حال المسيحية»، وذلك بغية نفي إمكانية حدوث تطور لدى المجتمعات الإسلامية ضمن تحليل نمطي، ما عزز من استحالة وجود علمانية في الدول الإسلامية.
وعن ذلك يعلق طرابيشي، ويقول:«وجدنا مستشرقين ومختصين بالدراسات الإسلامية يسايرهم في ذلك محترفون محليون للمنافحة عن الإسلام يؤكدون بوثوقية لا تحتمل الشك أن الإسلام لم يعرف مبدأ الفصل بين الدين والسياسة كما عرفته المسيحية في التمييز الإنجيلي الشهير، وكما في توزع السلطتين الروحية والزمنية بين الباباوات والقياصرة أو الباباوات والأباطرة في عهود الإمبراطوريات المقدسة الرومانية والبيزنطية والجرمانية، ثم بين الباباوات والملوك مع انبلاج فجر الحداثة ونشوء الدولة القومية».
الخلاصة، أن غرض هذه المقالة الدعوة لإزالة لبس عمره أكثر من قرنٍ من الزمان، إذ يتم تداول تفسيرات ونتائج وأنماط حول العلمانية وعلاقات المجتمعات المسلمة معها من دون تبصر، وهذا سببه عدم التدقيق بتاريخ المفهوم وبخاصةٍ في هذا الظرف العصيب الذي يجعل من تبيئة مثل هذا المفهوم صعباً على الجماهير التي تفضّل الشعبية الخطابية على المفاهيم العلمية وأسسها وتاريخها وتطوراتها عبر العصور.
***
فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 يناير 2025