اخترنا لكم
إبراهيم بورشاشن: عوائق التفلسف
انطلاقاً من قراءتنا لنص ابن طفيل الفلسفي «حي بن يقظان»، وجدنا ابن طفيل يرصد أمام فعل التفلسف عائقين أساسيين يقفان دون التمكن لفعل التفلسف في المجتمع الإسلامي، سنقف في هذه المقالة عن العائق الأول والذي يمكن أن نسميه «العائق الملي -الفقهي»، يقول ابن طفيل عن هذا العائق: «والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا إن سؤالك لن يتعدّى أحدهما، هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر. وهذا، أكرمك ﷲ بولايته، شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدم من الكبريت الأحمر، ولاسيما في هذا الصقع الذي نحن فيه [يعني الأندلس]، لأنه من الغرابة في حدّ لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد. ومن ظفر منه بشيء لم يكلم الناس به إلا رمزا، فإن الملة الحنفية والشرعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت عنه».
يكشف هذا النص عن وعي ابن طفيل بحدود الممارسة الفلسفية في المجتمع الإسلامي، وهي حدود تفرضها ملة الإسلام نفسها، وهي الملة التي تشكل قاعدة الوعي الديني وآصرة التماسك الاجتماعي عند المسلمين، وخاصة إذا تناولت هذه الممارسة الموضوعات «الملية» الحساسة، كموضوع المشاهدة، وغيرها من الموضوعات التي تُحرج ما تعوَّد عليه المسلمون في بادئ رأيهم المشهور عن الملّة، كما أكد ابن رشد من أن الكلام في علم الباري سبحانه بذاته مما يحرم أن يطرق في حال المناظرة فضلاً عن أن يثبت في كتاب، وعلل ذلك الموقف أن الخوض في هذه الدقائق يبطل العقيدة المقررة عند النّاس في القرآن الكريم، وله في كتاب «مناهج الأدلة» كلام قوي في هذا المجال.
لقد شعر فلاسفتنا أن هناك منطقة محرمة لا يجب أن يقتحمها فعل التفلسف، لما قد يترتب عن ذلك من أضرار فكرية ونفسية واجتماعية، وقد أبان ابن طفيل بأسلوبه السردي كيف يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية، وذلك من خلال وصفه العلاقة المتوترة التي جمعت الفيلسوف «حي بن يقظان» بجمهور «سالامان»، فبمجرد ما شرع «حي» يصرح بحقائقه الفلسفية لجمهور سالامان إلا وقد تفرقوا عنه ونبوا، وأظهروا له العداوة والشقاق، بعد أن كانوا قد اثنوا عليه وأكرموه وأجلّوه، مما اضطرّه إلى مغادرتهم إلى جزيرته، رمزا لفصل الممارسة الفلسفية عن الممارسة الشرعية الجمهورية، ورمزا لما يعرف بـ«فشل الفيلسوف» كما أبان عنه ابن باجة في كتابه الفريد «تدبير المتوحد»، أيضاً.
لكن هل يعني هذا توقف فعل التفلسف؟
لقد عالج ابن طفيل فضوله المعرفي النظري الفلسفي، الذي هو فضول قوي وأساسي لتقدم المعرفة العلمية، وهو الفضول الذي لا يحظى عند الجمهور بكبير عناية، باللجوء إلى الرمز والإيماض وعياً منه من أن أهل الذّكاء والخُلَّص من أهل العلم سيفيدون من كلامه ويبنون عليه ما هو كفيل بتطوير الممارسة العلمية، التي لا تتقدم إلا بالتّراكم المعرفي، وتحقيقاً للكمال الإنساني الذي سيصبح مع ابن طفيل خلاصاً ذاتياً، وأصبح مع ابن باجة خلاصاً للمجتمع العلمي الحقيقي والافتراضي، وهو ما سيجسده العصر الحديث الذي جعل الخلاص خلاصاً علمياً جماعياً في المختبرات العلمية التي ينفصل فيها الباحث عن الجمهور، وينذر كل وقته للبحث العلمي في مجالات العلم المختلفة إنسانية كانت أم علوماً حقة، إسهاماً منه في تنوير مجتمعه ليفهم، مع الزمن وتغيّر البنية الذهنية، أنه بجرأة العلم والعقل فقط تُقتحم غياهب الجهل والتخلف، خاصة عندما تُرى إنتاجات عمله وتُقيَّمُ التقييم الصحيح.
***
د. إبراهيم بورشاشن
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 23 أغسطس 2024