اخترنا لكم
محمد عثمان الخشت: كيف يتجاوز الدين والعلم أساليب النقاش القديم؟ (2)
"نعود مرة أخرى للسؤال الذى طرحناه فى مقال سابق: كيف نتجاوز أساليب النقاش القديمة، ونفتح فضاء معرفيا جديدا؛ للتعاون بين الدين والعلم والفلسفة؛ من أجل خدمة قضايا الإنسانية؟
فى البداية، يجب أن نعيد التنبيه مجددا أن الدين هو الوحى المكتوب، بينما الطبيعة هى وحى الله المرئي، القرآن هو «الكلام»المقدس، والطبيعة هى «أعمال» الله.
ولذلك فالدين هو إيمانى الذى أراهن عليه، ويعطى معنى لحياتي، بينما العلم هو الذى يكتشف الطبيعة (أعمال الله تعالى) يوما بعد يوم، ودوما ما يمنحنى اليقين بأن الطبيعة وراءها مصمم حكيم، أما الفلسفة فتفتح أمامى زوايا كبرى للنظر، وأفقا واسعا لإعمال العقل النقدي، وجعله عصيا على تقبل الأساطير والخداع المعرفى الذى يقوم به بعض الكهنة. ومن هذا المنظور، يمكن أن يشكل الدين والعلم والفلسفة معًا مشروعًا معرفيًا متكاملًا، شرط أن يُبنى هذا التفاعل على مبادئ فلسفية جديدة تتخطى أنماط الجدل العقيم وتؤسس لتكامل حقيقي. وهذه المبادئ متعددة، سوف نتناولها تباعاً إن شاء الله تعالى.
ونذكر أول هذه المبادئ فى هذا المقال:
1- الاعتراف بالاختلاف البنيوى واحترامه: فى الماضي، كان الصراع بين بعض رجال الدين والعلم، أشبه برياح تعصف بسفينة المعرفة، وتضع العقبات أمام التطور العلمي. وربما كان من أسباب ذلك، غياب الاعتراف بالاختلاف البنيوى بينهما، ورغبة أطراف من الفريقين فى الهيمنة على العقل البشرى وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. وكان أحد أعمق إشكاليات النقاش، بين الدين والعلم، هو سعى بعض رجال الدين إلى التوحيد القسرى بين منظومتين معرفيتين مختلفتين فى منهجيتهما. وكما سبق أن ذكرنا، فإن الدين يتأسس على الإيمان بالوحى والرؤية الكلية والقيم (الحق والخير والجمال) التى تمنح الوجود معناه، بينما ينطلق العلم من المنهج التجريبى والرياضي؛ بحثًا عن القوانين التى تحكم الظواهر الطبيعية. ولا ينبغى أن ننظر إلى هذا التمايز البنيوى بوصفه تناقضًا، بل يجب أن نعده تكاملًا يُثرى المعرفة الإنسانية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن العلاقة بين الدين والعلم، تتميز بتباينات عميقة، تنبع من اختلاف أهدافهما ومنهجيتهما؛ حيث يمثل كل منهما منهجية مختلفة لفهم العالم والوجود.
وتُعد أركان الإيمان بما بعد الطبيعة، حقائق كبرى فى مجملها، مما يمنح الدين طابعًا كليا وأزليًا يتجاوز حدود الملاحظة والتجريب. فى المقابل، يهدف العلم إلى دراسة العالم المادي، وفهم الظواهر الطبيعية، من خلال البحث المنهجى القائم على الملاحظة والتجريب والاستنباط الرياضي، وهو ما يجعل نتائجه قابلة للتطوير والتعديل مع ظهور أدلة جديدة، مما يمنحه طابعًا ديناميكيًا ومتغيرًا.
كما أن منهجية الدين تعتمد بشكل أساسى على الوحى والإيمان والتسليم؛ حيث تُعد النصوص المقدسة المصدر الأول للمعرفة بما بعد الطبيعة، والإيمان بها لا يتطلب بالضرورة أدلة مادية مباشرة، بل يقوم على قناعة داخلية راسخة بصدق النصوص ومصدرها الإلهي. ومع ذلك، فإن العديد من الأديان، خاصة تلك التى تمتلك تقاليد فلسفية غنية كالإسلام والمسيحية واليهودية، تدعو إلى استخدام العقل كوسيلة لفهم النصوص وإدراك حكمة الخالق. وفى الإسلام، على سبيل المثال، هناك نصوص كثيرة تحث على التفكير فى الكون والتدبر فى خلق الله، إلا أن العقل فى هذا السياق يعمل ضمن إطار إيمانى موجه، حيث يُستخدم لتعزيز الإيمان وليس لتحديه أو تجاوزه. هذا فى الأغلب الأعم، لكن هناك من يتخذ العقل منهجا لاستنباط عقائد الإيمان ويؤسس إيمانه على استدلالات عقلية وربما أدلة مادية غير مباشرة، مثل التصميم البديع للكون كمؤشر على وجود الله وعظمته سبحانه، فنحن لا نرى الله لكن نرى آثار قدرته جل وعلا. ومن هذا الفريق الأخير، من يعتبر أن الوعى بالإيمان متطور بتطور السقف المعرفى للإنسان، وأن مسألة الإيمان يمكن المزاوجة فيها بين العقل والحدْس، وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء.
فى المقابل، يعتمد العلم على منهجية تجريبية رياضية صارمة، تقوم على «الشك المنهجي»، كعنصر أساسى لتحفيز البحث والتحليل والاستدلال. ويبدأ البحث العلمى بصياغة فرضيات قابلة للاختبار، ثم تُجرى التجارب، لجمع البيانات وتحليلها، بغرض التحقق من صحة هذه الفرضيات. ويتميز العلم بخطواته المنهجية التى تشمل تحديد المشكلة، وصياغة الفرضيات، وإجراء التجارب، والاستنباطات الرياضية، ومراجعة النتائج، وتكرار العملية لضمان صحة النتائج ودقتها. وبعكس الدين، لا يعد العلم أى نظرية مقدسة أو مطلقة، بل يُنظر إليها دائمًا، على أنها مؤقتة، وقابلة للتطوير، أو حتى التغيير الكامل، إذا ظهرت أدلة جديدة. وهذا ما يجعل العلم قادرًا على التكيف مع المتغيرات، والاستجابة لاكتشافات جديدة، بينما يميل الدين إلى الحفاظ على التقاليد والتعاليم.
ويظهر الفرق بين المنهجيتين بوضوح، فى تعاملهما مع الشك، وطبيعة المعرفة التى يقدمانها. ففى الدين، غالبًا ما يُنظر إلى «الشك» على أنه عقبة يجب تجاوزها إلى الإيمان؛ حيث يُعد»الإيمان» قوة أساسية لفهم القضايا الروحية والغايات الكبرى للحياة. بينما فى العلم، «الشك» هو المحرك الرئيسى للتقدم؛ حيث يدفع العلماء إلى اختبار الفرضيات، وإعادة تقييم النتائج، باستمرار. وتُعد العقائد الدينية نهائية، فهى تقدم إجابات مطلقة حول القضايا الغائية الكبرى، بينما تُعد المعرفة العلمية مؤقتة وتخضع دائمًا للمراجعة والتطوير. والسؤال الفلسفى هنا: هل على الرغم من هذه الاختلافات البنيوية، يمكن أن يحدث تكامل بين الدين والعلم يقوم على الاعتراف بالاختلاف المنهجى واحترامه؟ وما إجابة القرآن الكريم على هذه الإشكالية؟ وهل إجابة القرآن الكريم قد تكون مثيرة ومبهجة؟ موعدنا المقال القادم إن شاء الله تعالى".
***
د. محمد عثمان الخشت
عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الأحد 12 يناير 2025: