اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: الفضيلة عند ابن رشد

تعد الفضيلة عند ابن رشد من أسمى ما يُتوسل به إلى السّعادة، والفضيلة ضربان، فضيلة خلقية، وفضيلة عقلية.
إن علم الأدب طريق إلى الفضائل العقلية، وهو علم المنطق عند فيلسوفنا، فلا فضيلة لمن لم يتأدّب عقله على التّفكير السليم. فالمنطق «يتنزّل من النّظر منزلة الآلات من العمل»، ولعل لهذا السّبب اعتبر أبو حامد الغزالي العاطل من المنطق، ممن لا يوثق بعلمه، ولعل الغزالي ذهب هذا المذهب، لأن الذي لا يعرف كيف يُميّز صحيح الأفكار من فاسدها تذهب عليه حقائق كُثْر لتمسّكه بآراء يحسبها حقيقة، وهي ضلال عند أصحاب الفرقان، لذلك جُعل المنطق مقدّمة العلوم لأثره البليغ في تقويم النّظر. فلا علم، ولا حكمة ولا تعقّل ولا فطنة، ولا صنائع، وهي من الفضائل العقلية الكبرى، دون تمرّس بصناعة المنطق.
يعتقد ابن رشد أن الاهتمام بالعقل وفضائله سببه أن شريعة المسلمين، شريعة إلهية، «نبّهت على.. السّعادة.. التي هي المعرفة بالله وبمخلوقاته» ودعت إليها، الأمر المتقرّر عند كل مسلم «حسب طبيعته». ومادامت من طرق معرفة الله تعالى النّظر في موجوداته كلّها، من فيزيائية، ورياضية، وميتافيزيقية، وهي تتطلّب منهجاً قويماً لدراستها، فإنّ السّبيل إلى ذلك هو سبيل المنطق، وهو تنبيه مهم إلى فضيلة المنهج عموماً، وما قدّمه لتقدّم المعرفة العلمية. إنّ التّركيز على الفضائل العقلية التّي هي محلّ نظر الفلسفة عند ابن رشد لا يلغي قيمة الشّرائع.
والفلاسفة، عنده، يهتمّون بالشّرائع أيضاً، بل يعتنقونها عندما تُعرض عليهم، ويُقدّم ابن رشد مثالاً على ذلك ما عرفه بنو إسرائيل من كثرة الحكماء، ما يدلُّ عنده على فشوّ الحكمة «في أهل الوحي»، من الأنبياء. وهنا يُكرّر ابن رشد شعاراً قديماً: «كل نبيّ حكيم وليس كل حكيم نبي»، فابن رشد لا يفصل الشّرائع عن أساسها العقلي والسّمعي، بل إنّه يلزم الفلاسفة أن يتقلّدوا الشّرائع «من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسّنن المشروعة في ملّة ملة»، كما يقول. لأن هذه الشّرائع هي شرائع الجماعة التي ينتمون إليها، ولا ينبغي لهم الخروج عنها، فهي تنفع الجمهور في التّحلّي بالعمل الفاضل أولاً، ثم هي ثانياً تنفع الصغار في تربيتهم على الفضيلة، لذلك يُحذّر ابن رشد من التّشكيك في الشّرائع، لأنّ ذلك يؤدّي إلى إبطال الفضائل، ومن ثمَّ تُشْرع الأبواب أمام الفوضى الأخلاقية.
ومن أفضل الفضائل الخُلقية الغيرية التي يدعو إليها ابن رشد فضيلة التّعامل مع المختلف، خاصّة من أهل العلم والمعرفة من الأمم القاصية، فعندما تأتينا معارف أو علوم من هذه الأمم فينبغي التريّث في اتّخاذ مواقف منها، إذ طبيعة المسلم أنه لا يَجْرمْهُ الشنآن عن العدل في القول والعمل، ومن هنا فهو في معارف المختلفين عنه بين موقفين، إمّا موقف قبول له، وسرور به، وشكر عليه، لأنه يفتح أمامه أبواباً جديدة من المعرفة، وإمّا موقف تنبيه على ما فيه من مخالفة للحقّ وتحذير منه حتى لا يتضرر منه الآخرون، لكن هناك موقفاً جليلاً آخر، وهو تلمّس العذر لأصحاب هذه المعارف الخاطئة لأنّهم، مع جهدهم وتحرّيهم للحقّ، لم يستطيعوا إصابته، ولولا هذا النّقص المعرفي الملازم للمعرفة لما تقدّمت العلوم، ولا عرفت المعارفُ مسيرة تطوّرها الكبير.
إن الفضائل هي أسُّ المجتمعات، وضمان استمرارها وقُوّتها، وإن العبادات، مثل عبادة الصوم، هي التي تُثَبِّتُ هذه الفضائل، وتجعلُها حاضرة في الحسّ مع تكرارها، ما يسهم في لُحْمة المجتمع، ولأفلاطون في كتابه المهم «القوانين» كلام جميل في هذا المعنى يشرحه ويُجلّيه.
***
د. إبراهيم بورشاشن
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 مارس 2025

 

في المثقف اليوم