اخترنا لكم
نسرين بوزازي: "السفياني".. مفهوم متوارث من أدبيات الملاحم والنبوءات وسرديات آخر الزمان

المنطق القدريّ ما زال غالبا على نسق التفكير في المنطقة العربيّة ما يؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة.
تتصاعد وتيرة الأحداث في المنطقة العربيّة بين الفترة والأخرى لتؤكّد لنا في الأثناء أنّ العمل على قطع الحبل السرّي الرابط بين الشخصيّة العربيّة وتراثها وخلق مسافة أمان بينهما دون الوقوع في فخّ الانبتات عن الهويّة أصبح يمثّل اليوم ضرورة وأمرا مستعجلا أكثر من أيّ وقت مضى. فهذه الأحداث لا تني تتجدّد لتضعنا في كلّ مرّة في مواجهة التراث بكلّ ثقله لا باعتباره سندا وعامل تفوّق، بل طرفا من أطراف النزاع وخصما صعب المراس ناهيك عن أنّه جزء منّا وفيه الشيء الكثير من ذواتنا، وهو ما يمكننا معاينته من خلال ما يشهده الواقع السوريّ من مستجدّات منذ موفّى السنة المنقضية.
من العجيب الدالّ تداول جزء من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ مفهوم “السفيانيّ” واعتماده مدخلا لتفسير حيثيّات السقوط “الفجائيّ” لحكم بشّار الأسد. وليس من الصعوبة بمكان التثبّت من ذلك، فيكفي أن يدخل أحدنا كلمة “السفيانيّ” في محرّكات البحث على الإنترنت حتّى تعترضه العشرات من المنشورات ومقاطع الفيديو المتعلّقة بهذا الخصوص وعلى منصّات إلكترونيّة مختلفة.
مفهوم "السفياني"
حتّى نفسّر وجه الغرابة في هذا المستوى علينا الإشارة إلى اقتران مفهوم “السفيانيّ” بمعاني التنبّؤ بقرب خروج رجل في زمن وظروف معيّنين، فيخلّص البلاد والعباد من الظلم ويضع حدّا لغطرسة السلطة وقهرها محكوميها. وينتمي مفهوم “السفياني” في هذه الحالة إلى أدبيّات الملاحم والنبوءات وسرديّات آخر الزمان، ويُعَدُّ رديفا لمفهوم “المهديّ” في نُسْخَتَيْهِ الشيعيّة والسنيّة من المجال الحضاريّ الإسلاميّ، بل ولفكرة “المخلّص” الّتي لا يكاد يخلو منها تراث ثقافيّ إنسانيّ. ولئن خَفَتَ صوت هذه الفكرة لدى الشعوب الّتي عاشت خاصّة طفرة الحداثة، وشرعت تتحسّس خطاها نحو مرحلة تليها، فإنّها لا تزال حاضرة بقوّة لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة.
لقد عَنَّ لعدد من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ استدعاء فكرة “المخلّص” ممثّلة في مفهوم “السفيانيّ” واعتمادها مدخلا لتفسير نجاح السوريّين في الإطاحة بحكم بشّار الأسد في ظروف معيّنة ولحظة تاريخيّة معلومة للجميع، وذلك عبر وضعهم علامات استفهام حول هويّة أحمد الشرع والتساؤل عمّا إذا كان هو “السفيانيّ” العائد “لإحلال العدل” و”إنهاء” مرحلة قوامها الظلم والاستبداد. بل إنّ منهم من تجاوز مرحلة الشكّ إلى أخرى ملؤها اليقين بأنّه هو فعلا “السفيانيّ” باعتبار نجاحه حيث فشل غيره وتمكّنه من الإطاحة بعائلة الأسد بعد محاولات استمرّت على مدى ما يزيد عن العقد من الزمن. بينما جزم حزب ثالث بأنّ تولّيه زمام السلطة ما هو إلّا تمهيد وعلامة منذرة بقرب ظهور “السفيانيّ” الحقيقيّ.
وأيّا تكن المواقف والاحتمالات المقدّمة في هذا الخصوص، فالواقع أنّه لا يمكننا إنكار مقدار الراحة النفسيّة الّذي توفّره أفكار ومفاهيم من جنس ما ذكرنا لشعوب عايشت تاريخا طويلا من الانكسارات والهزائم، وما انفكّت تتعطّش لإنصافها وإنْ بصيغة “ميتافيزيقيّة” تقطع تماما مع المنطق المادّيّ لحدوث الأشياء.
ولنكن صريحين مع أنفسنا ونتعامل مع الأمر بشيء من الرصانة والموضوعيّة إذ نعترف بما تنطوي عليه محافظة شعوبنا على هكذا نمط فكريّ من معقوليّة وتناسق. فمن الخطل انتظار عكس ذلك ممّن لم يعتد تغيير حكّامه عبر آليّات مدنيّة وعمليّة سياسيّة واضحة المعالم، فيجد في الميتافيزيقا بديلا يستمدّ منه غطاء شرعيّة الانتقال من مرحلة سياسيّة وتاريخيّة إلى أخرى، لاسيّما وأن المنطق القدريّ مازال هو الغالب على نسق التفكير في المنطقة العربيّة الأمر الّذي سيؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة وعدم الاعتراف بالسببيّة قانونا يسيّر نظام الكون وأشيائه.
وتبقى القدرة على إدخال الشعوب في نفق استكانة قد لا يُرى أفق لنهايته إحدى أشدّ نتائج هكذا نمط فكريّ خطورة، فترى هذه المجموعات البشريّة تتنكّر جرّاء ذلك لإرادتها الحرّة وقدرتها الذاتيّة على الفعل بما يمكّنها من المسك بزمام مصيرها وتغيير مجرى التاريخ لصالحها.
والحقّ أنّه لا طائل من الاسترسال في تعداد أعراض الداء ما لم يتمّ تشخيصه وتحديد أسباب ظهوره خطوة أولى في سبيل علاجه، كذلك الشأن بالنسبة إلى الظاهرة الّتي نحن بصدد تحليلها في هذا المقال. فنحن إذ نستنكر محافظة شعوبنا على التفكير وفق نسق يتعارض مع متطلّبات واقعها، ولا يَعِدُ بتحقيق رهانات حاضرها، فإنّنا ننبّه إلى ضرورة الوعي بالأصل الّذي انبثقت عنه هذه الإشكاليّة ومثيلاتها. ولا يعدو هذا الأصل أن يكون في تقديرنا وعي الشخصيّة العربيّة المَرَضِيِّ بتراثها.
ومن شأن العودة إلى كتب التاريخ الإسلاميّ أن تقدّم لنا حقيقة مغايرة تماما لتلك التي وصلتنا عن مفهوم “السفيانيّ” وتبنّتها الذهنيّات دون نقد أو تمحيص. ذلك أنّنا نعثر على إجماع قلّ شيوعه بين قدامى المؤرّخين على ذكر تفاصيل ظروف تشكّل مفهوم “السفيانيّ” ومنزلته من التاريخ الإسلاميّ. حيث تفيدنا المعطيات بظهوره أوّل مرة في سنة 132 للهجرة باعتباره مُسَمّى لحركة معارضة سياسيّة شاركت فيها عدّة عناصر بهدف الإطاحة بدولة بني العبّاس الناشئة حديثا واستعادة المجد الأمويّ. وتبعا لهذه الأسباب وسمت الحركة المذكورة بـ”السفياني” نسبة إلى أبي سفيان والد معاوية مؤسّس دولة الأمويّين في دمشق، وتأكيدا لصبغتها السياسيّة واستهدافها مركز الخلافة القائمة آنذاك رفع أصحابها البَيَاضَ شعارا لهم وخلافا للسواد شعار الدولة العبّاسيّة.
ووفق هذا المنحى الأيديولوجيّ تواتر نشاطها، فظلّت تعاود الظهور بين الفترة والأخرى من تاريخ الدولة العبّاسيّة، مثال ذلك ظهورها فترة حكم الخليفة المأمون. أمّا عن حقيقة تقمّص شخصيّات بعينها صفة “السفيانيّ” فعائدة إلى اعتياد المتداولين على قيادة هذا الحراك اتّخاذها لقبا مميّزا لهم في كلّ مرّة يجدّدون فيها خروجهم على السلطة، تعبيرا عن تواصل ثورتهم وتأكيدا على وحدة مضامينها وثباتهم على ذات مبادئها، فيضمنوا مساندة من يوافقونهم.
امتلاك التراث
لقد بدا مفهوم “السفيانيّ” بهذا المعنى ترجمة لوقائع سياسيّة ورجع صدى لصراعات حدثت فعلا في زمن مخصوص وظروف مغايرة تماما لظروفنا. وإذ نأمل أن يخفّف هذا الاستنتاج من وطأة تأثير هذا المفهوم على الذهنيّة العربيّة، فإنّه لا يقلّل أبدا من خطورته على وضعنا الراهن، ذلك أنّه ما انفكّ يكشف عن استجابة للنفس الطائفيّ من منطلق امتلاكه قدرة دعم الموقف ومقابله.
وبالعودة مرّة أخرى إلى ردود أفعال روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ حول الأحداث في سوريا نعثر على موقف آخر من فكرة ظهور “السفيانيّ” لكنّه يَقْرِنُها هذه المرّة بمعاني الإنذار بحلول الخراب في المنطقة. وله على ذلك حجّتين؛ الحجّة الأولى مستندها الواقع السوريّ، وتتمثّل في حجم العنف والفوضى المستعرة هناك خلال الفترة الحاليّة ما يوهم بمصداقيّة ما ذهب إليه أصحاب هذا الموقف. أمّا الحجّة الثانية فمستمدّة هي الأخرى من التراث الدينيّ، وتتمثّل في أحاديث منسوبة إلى النبيّ من قبيل الحديث “يخرج رجل يقال له السفيانيّ في عمق دمشق، وعامّة من يتبعه من كلب، فيقتل حتّى يبقر بطون النساء أو يقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس فيقتلها (…) ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرّة، فيبلغ السفيانيّ، فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم.”
لا جدال في ما تحظى به النصوص الدينيّة، القرآن والسنّة، من احترام وتقديس في الوسط الإسلاميّ، ولأجل الحفاظ على هذه المكانة تحديدا وجب على المسلمين الحذر في التعامل مع ما يبلغهم من نصوص ينسب قولها إلى النبيّ على غرار الحديث الّذي أوردناه آنفا، إذ تبدو جليّة ترجمته للصراع الأمويّ – العبّاسيّ الّذي اتّخذ في جزء منه طابعا ثقافيّا، وتبعا لذلك لا نستبعد وضعه من طرف أصحاب الدولة العبّاسيّة.
لقد تطوّر مفهوم “السفيانيّ” في مرحلة موالية ليتّخذ دلالات “المخلّص”، ويتحوّل إلى رمز من رموز ميثولوجيا الإمامة، وهو ما سيمثّل تهديدا حقيقيّا لمركز الخلافة العبّاسيّة باعتبار قابليّته للانتشار بين البسطاء والعامّة واستغلاله لتجييشهم ضدّ السلطة القائمة. ولأجل هذه الأسباب سنجد بقيّة اللاعبين السياسيّين يوظّفون ذات الآليّة في سباقهم على السلطة.
ولهذا سنجد الشيعة يَعِدُونَ برجعة مهديّهم، فيُعيدُ الأمور إلى نصابها كما يتصوّرونها هم. بينما لن تبقى السلطة العبّاسيّة مكتوفة الأيدي بل ستنخرط بدورها في هذه اللعبة وتشيع بين الناس أنّ المهديّ منهم وليس من أبناء عمّهم الطالبيّين، وفي هذا السياق يأتي تخيّر الخليفة المنصور المهديّ لقبا لابنه ووليّ عهده الّذي سيتولّى من بعده الخلافة، وهو ما يمكننا إقامته دليلا على أنّ التراث منتج ثقافيّ سمته التاريخيّة فإذا أردنا فهمه وجبت علينا قراءته ضمن الواقع الّذي نشأ فيه على الحقيقة، ولا يذهبنّ في الظنّ أن هذه دعوة للقطع مع التراث، بل لامتلاكه سبيلا لاستعادة توازننا وتحوّلنا إلى الانخراط الإيجابيّ في الحضارة الإنسانيّة.
***
نسرين بوزازي - باحثة تونسية في الحضارة الإسلامية
عن صحيفة العرب اللندنية، يوم: الأحد 2025/03/23