اخترنا لكم
رضوان السيد: متغيرات العصر وجهود التأويل
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر تيارٌ من الإصلاحيين المسلمين يدعو لفتح باب الاجتهاد لتجاوز التقليد المذهبي والتلاؤم مع المتغيرات. وكان الرائد في هذا المجال رجل الدولة التونسي خير الدين الذي اعتبَر في كتابه «أقوم المسالك» (1867) أنّ المتغيرات العالمية (النهوض الأوروبي) هي مثل السيل الذي لا يمكن دفعه إلا بالتلاؤم معه أو يجرفنا في طريقه. والتغيير المطلوب للتلاؤم له ركنان: العمل على إقامة الدولة الحديثة، وإصلاح الشأن الدنيوي استناداً إلى فقه المصالح العمومية التي يعتبرها الفقه الإسلامي الكلاسيكي. وبعد خير الدين التونسي تبلور فقهُ الإصلاح المصري مع محمد عبده الذي مضى من فتح باب الاجتهاد إلى التفكير في تجديد أطروحة المدنية.
ومثل خير الدين كان الإصلاحيون المسلمون يضعون التقدمَ الأوروبي مثالاً ونموذجاً، يلتمسون الوصول إليه بالتعرف على كيفيات نهوض الآخرين، والتأصيل من القرآن الكريم لعمليات النهوض والتمدن. وقد تجلّى ذلك في إقبال محمد عبده على إلقاء دروسٍ في تفسير القرآن الكريم جمعت فيما بعد في «تفسير المنار» الذي كانت أطروحة المدنيّة في موقع القلب منه. وعلى نفس المنزع جاء تفسير «التحرير والتنوير» للشيخ الطاهر بن عاشور في تونس خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، والذي دعم رؤيتَه أو فلسفتَه في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية».
إنّ ذلك الجهد التأويلي، وإن سُمّي تأصيلاً، كانت له نتائجه في التحاور مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وموازاته بالضروريات الخمس الواردة في فقه المقاصد الشرعية: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ النسْل، وحفظ المال. وعندما انشقّت الإحيائيات والأصوليات وظهرت الجهاديات، كافحها الإصلاحيون الجدد بشكلين: الإعلانات عن نهج التسامح والسلام، ومساعي التواصل مع العالم من خلال الحوار مع الأديان الأخرى والثقافات، والتماس فقه السلم من خلال مقولات القرآن في ذلك، والاجتهادات الجديدة في التعارف وفي نُصرة الدولة الوطنية. وقد ظهر ذلك في «وثيقة الأخوّة الإنسانية» المعقودة بين بابا الفاتكيان وشيخ الأزهر في أبوظبي عام 2019، وفي نتاجات ومؤتمرات منتدى تعزيز السلم بأبوظبي وإعلان مراكش وميثاق حلف الفضول. وما زالت الأصوليات والانشقاقات، لكنها ضعُفت ضعفاً شديداً، وتأسس ذلك على جهود الدول الوطنية في استتباب الاستقرار والتنمية المستدامة والتعايش، وفي الإقبال على الشراكات مع العالم، سواء لجهة متابعة اجتهادات التأويل وصنع الجديد، أو لجهة الانفتاح على قيم المعروف الإسلامي والعالمي، والمقاربات الأخلاقية للقرآن، تفسيراً أو استلهاماً أو تأويلاً، تقتضيه أحوال العصر وتياراته.
ومن ذلك التأويل كتاب المدينة أو عهدها والذي يتلاقى مع المشترك الإنساني في الأخلاقيات والنظم، وإنجاز المجتمع المتضامن والمنفتح. لقد كان هناك مسوِّغ للجوء إلى التأصيل من أجل المشروعية. لكنّ الجديد الكثير الذي ظهر في فقه الدولة وفي فقه الدين، والذي أفضى إلى رؤيةٍ جديدةٍ للعالم، صار مغنياً عن اللجوء الدائم إلى التأصيل، والاكتفاء بممارسات التأويل الاجتهادي والتجديد على النصوص والمواقع والأحداث. ذلك أنّ التأصيل هو سلاحٌ ذو حدين، يمكن أن يفيد منه المجددون، بيد أنّ المتشددين يستطيعون اللجوء إليه أيضاً. أما القراءة الجديدة للقرآن، فإنّ الحزبيين والمغامرين لا يمكنهم الدخول فيها أو استغلالها. إنّ لدينا اليوم تحدي تجديد الخطاب الديني عن طريق التأويل بغرض التجديد، والذي يحتاج للمتابعة الحثيثة.. والتحدي الآخر هو الذي تقود مبادراتِه الدولُ الوطنيةُ من أجل مواجهة المشكلات في الإقليم وتصحيح العلاقات مع العالم.
***
د. رضوان السيد
عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 23:45