اخترنا لكم

السيد ولد أباه: ابن خلدون في السجل التراثي الإنساني

أقرت منظمة «اليونسكو» مؤخراً تسجيل «مقدمة» ابن خلدون ضمن مدونة التراث الإنساني الكوني، تتويجاً لجهد قطاع واسع من المثقفين والمفكرين العرب تبنَّوا هذه الفكرة منذ أمد طويل. ورغم مرور سبعة قرون على صدور هذا الكتاب الاستثنائي، فإنه ما يزال يستثير اهتماماً واسعاً في الثقافة العربية، رأى البعض أنه العمل التأسيسي لعلم الاجتماع قبل العصور الحديثة، وهو رأي لا يمكن الركون إليه لأسباب إبستمولوجية وتاريخية ليس هنا مجال التعرض لها، في حين اعتبر المؤرخ الفرنسي إيف لاكوست أنه كان سبّاقاً إلى بلورة نظرية المادية التاريخية التي اعتمدها ماركس بعد خمسة قرون، وخصص له مفكرون معاصرون بارزون أعمالاً مهمة؛ من ساطع الحصري وطه حسين إلى محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعلي أومليل.. إلخ.

والحقيقة أن أهمية ابن خلدون تكمن في كونه قدّم نظريةً متكاملة ودقيقة حول طبيعة الدولة العربية الإسلامية الوسيطة، التي عايش انهيارها بعد تجارب شخصية يائسة في شمال أفريقيا والأندلس، قبل رحلته الأخيرة إلى القاهرة حيث توفي فقيهاً وقاضياً بعيداً عن السياسة.

لن نعالج السؤال الذي طرحه كثير من الباحثين حول علاقة «المقدمة» بكتاب «العبر» الذي هو موسوعة ابن خلدون الشاملة في التاريخ، إذ اعتبر البعض أن هذا المنهج الفلسفي الذي اكتشف ابن خلدون لم يطبقه في كتابته التاريخية، بما يعزز الشكَّ في علاقة كتاب المقدمة بالسرد التاريخي لابن خلدون الذي لا يختلف في شيء عن كتابات مَن سبقه من المؤرخين العرب.

كما أن البعض طرح إشكال المنظور القيمي العقدي في منهج ابن خلدون الذي لم يستند في كتابه لأدلة من النصوص الشرعية، بل بنى علمه حول العمران البشري على محددات وضعية واقعية. لقد اهتم العديد من علماء الإثنوغرافيا الأوروبيين بنظرية ابن خلدون في العصبية والدولة، وذهب بعضهم إلى أنها ما تزال صالحة في تفسير أحوال الاجتماع السياسي العربي المعاصر، حيث تلعب البداوة والقبيلة دوراً أساسياً في البناء السياسي والاجتماعي، رغم أن ابن خلدون لم يفكر مطلقاً في شكل الدولة السيادية المدنية الحديثة التي هي الشكل التاريخي الكوني للنظام السياسي الحالي.

ما نريد أن نبيّنه هنا هو أن نظرية ابن خلدون يمكن أن تُقرأ في مستويين: أولهما النسق السياسي العربي الوسيط، بتفسيره تشكل وتطور وانهيار الدولة، وثانيهما إشكالية السلطة والعنف والمال التي هي إشكالية فلسفية ثابتة منذ أفلاطون وأرسطو وإلى اليوم. وبخصوص المستوى الأول، لا بد من التنبيه إلى أن أهمية نظرية ابن خلدون السياسية لا تكمن في إبرازه دور العصبية في البناء السياسي المنظم في العصور الإسلامية الوسيطة، بل الأمر على عكس ذلك، إذ يتمثل غرضه في البرهنة على أن الدولة تقتضي تجاوز تناقضات العصبية وضيق البداوة من خلال وضع منظومة متماسكة تكفل السلم الأهلي والفاعلية الإنتاجية (العمران الحضري بلغة ابن خلدون).

إلا أن الدولة لا تقوم إلا على العنف الرادع، الذي اعتبر ابن خلدون أنه لا بد أن يكون مصدره خارجياً (المجموعات البدوية المتوحشة)، بما يمكن تصوره على غرار مقولة احتكار الدولة للعنف لا على أساس الموقع السيادي الحديث (الدولة كفكرة متعالية على المؤسسات الاجتماعية)، وإنما على أساس الحماية الخارجية للمنظومة المدنية القائمة على الخضوع التام للدولة من حيث هي القوة الدافعة للإنتاج والإبداع والرفاهية.

ومن المنظور الثاني، يتعين التنبيه إلى أن أطروحة ابن خلدون الفلسفية تتمثل في كونه درس العلاقة العضوية بين السياسة والاقتصاد والأمن، ليس من زاوية النظرية الليبرالية الحديثة التي أكدت منذ أدبيات آدم سميث أهمية التجارة والمصالح النفعية التبادلية في بناء مجتمع مدني نشط يكون القاعدة الصلبة للحالة السياسية المنظمة. ما يميز ابن خلدون هو التنبيه إلى أن السياسة لا يمكن أن تتخلص من العنف، وإلى أنها المسلك الضروري للنشاط الاقتصادي المنتج والفعال، على عكس الرؤية التي ترى أن الاقتصاد في أبعاده القانونية يمكن أن يعوض الفعل السياسي كما هو اعتقاد مفكري العقد الاجتماعي المحدثين.

ليس من همنا كتابة تصور جديد حول نظرية ابن خلدون في الدولة والعصبية والتاريخ، وإنما كان غرضنا منحصراً في إبراز أهمية هذه النظرية في سياقها الكوني، وإن كانت قد انطلقت من اعتبارات تاريخية خاصة بالمجتمعات العربية الإسلامية الوسيطة. ولعل هذا المنحى هو ما يبرر، وفق رأينا، قرارَ اليونسكو الصائب حول تسجيل مقدمة ابن خلدون ضِمن مدونة التراث الإنساني العالمي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 يناير 2025 23:28

 

في المثقف اليوم