اخترنا لكم

السيد ولد أباه: التصدع السياسي وأزمات العيش المشترك

لا يتردد الفيلسوف الفرنسي بيار هنري تافويو في كتابه الجديد «هل ما نزال نريد العيش المشترك؟»، في نعت المجتمعات الليبرالية الغربية بأنها تعيش راهناً شبح الصدام والتصدع بعد أن كانت قد اعتقدت أنها وجدت الحل الأمثل للسلم الأهلي والتعايش الجماعي.

ما تدل عليه مؤشرات الحياة السياسية في كل الدول الديمقراطية الغربية هو أن المواطن فيها لم يعد يميل إلى القوى الدينية والمجتمعية التقليدية ولا إلى الأحزاب السياسية التي تقاسمت لعدة عقود طويلة الحياة العمومية، بل أضحى أكثر ميلاً للتيارات الراديكالية اليمينية واليسارية التي تعزف على وتر الصراع والتوتر الاجتماعي أو الانعزال الفردي وكراهية الذات. ليس من الغريب في هذا السياق صعود التيارات الشعبوية التي ترفع شعار حماية الهوية في مواجهة المهاجر والغريب والمختلف في العقيدة والمنشأ، وليس من المستغرب عودة الحديث عن النقاء العرقي والأصالة الثقافية في مجتمعات شديدة التفكك والتجزؤ لم يعد من الواضح محور توحدها وتضامنها.

في مواجهة هذا المأزق الذي تحدث عنه تافويو برز جدل نظري جديد حول طبيعة المنظومة الديمقراطية في تصورها المجتمعي، هل هي تنظيم سلمي لصراع جوهري واستقطاب دائم وحي كما ترى المفكرة البلجيكية «شانتال موف»، أم هي التعبير عن التوافقات الإجرائية والقانونية الكبرى التي تحفظ في المجتمعات التعددية استقرار النظام السياسي كما ترى المدرسة الليبرالية التقليدية؟

لا مناص من الاعتراف بأن الحركات الشعبوية التي تجتاح العالم اليوم تذهب في الاتجاه الأول، إلى حد أن العمل السياسي المنتج غدا مشروطاً بهذه النغمة الصدامية الحادة التي ترى في المخالف السياسي عدواً للأمة وخطراً على المجتمع وهويته.

لا تتوقف هذه الظاهرة على حدة الخطاب السياسي والانتخابي وحده، بل تبرز في خروج حركية الاحتجاج السياسي والمدني عن موازين ومحددات القانون التنظيمي للصراع الداخلي في المجتمعات الديمقراطية، إلى حد التشكيك في المسارات الانتخابية نفسها وإلغاء القيود المؤسسية والقضائية على السلطة التنفيذية حسب توازنات السلط المستقلة، فضلاً عن عودة شبح الحرب واقعياً ورمزياً إلى قلب العالم الغربي، كما هو جلي اليوم في الحرب الأوكرانية وامتداداتها في القارة الأوروبية. قبل شهور اندلع نزاع تأويلي بين المستشار الألماني اولاف شولتز والرئيس الروسي بوتين بخصوص مقاربة كانط للسلم الدائم، مع العلم بأن المدينة التي ولد فيها كانط، وهي كونجسبرغ، أصبحت روسية ويطلق عليها اليوم كاليننغراد.

لقد اعتبر بوتين أن النزعة السلمية لدى كانط تكمن في تغليبه منطق التعايش الآمن على اعتبارات الحرب المدمرة، في حين ذهب شولتز إلى أن كانط فرّق بين السلم المشروع والعدوان غير القانوني الذي لا بد من مواجهته بالسلاح والقوة. والواقع أننا نلمس هنا جانباً من الإشكال المتجدد راهناً حول المحددات السياسية للحرب في مجتمعات انتكست فيها الآليات الضامنة للاندماج والعيش المشترك. لقد كان كانط وفياً للتقليد التنويري الليبرالي الذي وجد في الدولة السيادية الحديثة القائمة على الحرية السياسية وسلطة القانون حلاً دائماً لمعضلة الصراع الأهلي، وحلاً ممكناً لحالة الحرب الخارجية من منظور قابلية تمديد المدونة القانونية الداخلية إلى العلاقات بين الأمم والدول.

بيد أن التجربة أثبتت أن الحالة الليبرالية لا تحول دون الحروب الخارجية، في الوقت الذي بدأت تتصدع فيه مقومات السلم الداخلي في المجتمعات الديمقراطية ذاتها. وفي تفسيره لهذه الظاهرة المتجددة، بين الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن في كتابه «الحرب الأهلية بصفتها براديغما سياسيا» أن الفكر الليبرالي قام على أطروحتين مترابطتين هما: الاحتواء الاستباقي للحرب الأهلية التي هي التهديد الأخطر للدولة القومية التي تقوم شرعيتها على الخروج من «حالة الطبيعة» التي هي حسب عبارة هوبز «حرب الكل ضد الكل»، وإلغاء الشعب بصفته جمهوراً من الأفراد المستقلين الأحرار واختزاله في كتلة المواطنة التي لا قوام لها بدون الدولة المعبرة عن الجسم الاجتماعي.

لقد اعتبر أغامبن أن هذا الحل المزدوج كان هشاً ومرحلياً، وما نشهده راهناً هو العجز عن احتواء العنف الاجتماعي الداخلي الذي هو عتبة الهوية السياسية في الوقت الذي انهارت مقاربة التجسيد المؤسسي للمجتمع بانهيار الوسائط التمثيلية وعودة الفردية السيادية إلى الحقل السياسي. ذلك هو المظهر الأوضح لأزمة الشرعية السياسية في المجتمعات الليبرالية الغربية، التي يعترف بها قادة القرار والرأي في تلك البلدان، وتعكسها الاستحقاقات الانتخابية المنظمة في مختلف الدول الديمقراطية المذكورة. ولا شك أن هذه الأزمة تتمحور حول محددات ورهانات العيش المشترك التي كانت سابقاً منطلق مسارات التحديث السياسي في الغرب.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 ديسمبر 2024 23:45

في المثقف اليوم