قراءة في كتاب
مها الغيث: وكأنها سيرة كتب لا سيرة كاتب فقط

إنه كاتب برتبة قارئ. قارئ من قبل ومن بعد، لم تعتقه القراءة من أسرها يوماً واحداً في حياته، غير أنها لا تنفك تتغاير على هوى الواقع ومدارك الوعي وتغير المزاج لا محالة! فيروي هنا تفاصيل تجر تفاصيل عن رحلته التي لا تزال تمضي على طريق الكتابة بمعية القراءة. الكتابة التي تعلمها بالكتابة، لا على مقاعد دراسية، ولا في ورش كتابة إبداعية، ولا من خلال منشورات تعلّم (الكتابة في سبعة أيام) على غرار التوصيات الدعائية المفرطة في السذاجة. إنما الكتابة في نظره منظومة متكاملة من معايير، تجمع بين استعداد فطري، وذهن حاضر، وشخصية صبورة، وقراءة نوعية دؤوبة، وتمارين كتابة شاقة مؤبدة، وتضحيات غير مأسوف عليها من متع الحياة المادية!
وبينما يعتقد الكاتب بإمكانية موازاة سعة القراءة لسعة الكتابة في أنماطها ومختلف مجالاتها، لا يضمن بلوغه مبلغاً من العلم يجعله لا يقرّ بمدى عمق مجاهله التي تبلبل مغاليقها أسئلة تتوالد مع تنامي معارفه. أسئلة يحرّض عليها تفكير خلّاق، وعقلية جدلية، وقراءة جادة لا تسلّم له بما اكتسب، بل تثير فيه بواعث الشك والريبة والحيرة، وتغربل ما اعتنق من حقائق، وتزحزح ما آمن به من مسلّمات، وتدفعه نحو إعادة النظر فيها من جديد بعين رقيب وفكر ناقد، على الدوام. لا عجب بعد هذا أن يصنّف الكاتب كتابه كـ (فصل من سيرة كاتب)، كما جاء في عنوانه الفرعي، وبوصفه أثمن ما عاشه في حياته، كما عبّر في مقدّمته.
أما عنه، وكما ينقل موقعه على شبكة المعلومات، فهو (د. عبدالجبار الرفاعي 1954) مفكر عراقي، حاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية، ومختص في علم الكلام وفلسفة الدين. وهو إضافة إلى هذا، أستاذ جامعي، عمل على إصدار عدد من المؤلفات تصبّ في مجال تجديد الخطاب الديني، المثير للجدل بالضرورة، ونال العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية.
ومن أروقة الكتاب، أدوّن شذرات، وأقتبس نصوصاً بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يكتسب القارئ خبرة ما بعد تجواله في عالم الكتب، فلا ينتقي منها إلا ما يعزز بناء المعرفة الذي شيّده لنفسه، وبيقظة ودراية، ولا تعود تلك، ذات العناوين الطنانة، تجذبه بإغواء رخيص وهي خاوية من أي نفع حقيقي! يقول الكاتب في (القراءة العشوائية): "ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيهم ليس قليلاً، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّد عناوين الكتب واختلافها تنوع مضمونها. يكون التعدد أحياناً تكراراً مملاً لكلمات خاوية، لا تجيد رسم صورة ما تنشده بلغة صافية؛ فقلما نقرأ من يمتلك موهبة إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلة معمارية فاتنة. تسود مجتمعنا حالة شعف بالكلام، وطالما تحول الكلام إلى ركام كتب مبتذلة لا تقول شيئاً مفيداً، يضيع فيها عمر القراء ويزيف وعيهم. أعرف رجال دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيراً بثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، وحين تتراكم تحت أيديهم أموالاً لم يبذلوا جهداً في اكتسابها، يجندون طلاب العلم المحتاجين إلى قوت يومهم، لينتجوا لهم كتباً من ركام كلماتهم، فيباغتون القراء بعد سنوات قليلة بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم".
وفي (كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم) وبعد أن يعرض تجربته الشخصية في ضياع مكتبته، لا لمرة واحدة، بل لمرات كان إحداها بفعل حريق متعمّد له أسبابه القاهرة، يتعرّض الكاتب من ناحية أخرى للتراث العربي الذي شهد على مدى العصور، مجازر وإتلاف وإغراق وحرائق انتقامية، أودت بكنوز من كتب قد لا تقدر بثمن! فمن هولاكو وماكينة التدمير التي أودت بحياة مكتبات بغداد النفيسة، وحرائق مكتبات الأندلس إثر سقوط آخر معاقلها في غرناطة، إلى آليات التدمير الأخرى التي اعتمدتها الفرق الإسلامية في تكالبها على بعضها البعض، وتعمّد الفئة الناجية طمس مآثر الفئة الضالة -حسب رواية المنتصرين- كالذي جرى مع أديب الفلاسفة وفيلسوف أدباء بغداد أبو حيان التوحيدي! فيقول الكاتب ابتداءً: "متعة الظفر بكتاب ممنوع بعد سنوات من البحث عنه لا يعرفها إلا هواة الكتب. في زمن غياب المنع ووفرة الكتب الورقية والإلكترونية، يخسر القارئ هذا النوع من الشوق الغريب للممنوع ولا يبتهج بمتعة الظفر بكتاب بعد سنوات مديدة من البحث عنه".
ثم يضيف ملح على جرح القارئ التقليدي الذي لم ينفك يرقب الكتاب الورقي وقد احتوشه الكتاب الإلكتروني، إثر الطفرة الرقمية التي باتت تبرمج شؤون الحياة بضغطة زر، والكاتب يتحدث في (الكتابة في عصر الإنترنت) من منطق واقع أشد قساوة من منطق ذلك القارئ الرومانسي! فيقول في نبرة تشوبها حسرة: "لا شيء يحمينا من زحف الكتابة والكتاب الإلكتروني، وليس باستطاعتنا إيقاف شلال الإنترنيت الكاسح الذي يتسلط على كل شيء في حياتنا. في منازل الكتاب، غالباً تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، المولعون بالورق كأنهم يستمعون إلى سمفونية تفيض على مشاعرهم رقة وهدوءاً. للكتاب بوصفه كائناً نعيش معه إيحاء مهدئ لا يتحسسه إلا أولئك المغرمون بالورق يتعاطون معه كأنه صديق حميم، يبدد وحشة عزلتهم، ويخفّض شيئاً من اكتئابهم، ورفيق عاطفة يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يرونه بأي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدد شعورهم بالقرف والملل وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب، يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم. يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه بلا أي ثمن".
ختاماً، هو كتاب لا بد أن يُقرأ من عنوانه! فمع المسرّة التي صاحبت قراءته كلمة بكلمة، يستشعر القارئ الحصيف أن تلك الكلمات ما كان لها أن تجتمع إلا بعد مخاض للكتابة عسير، لا يدل احتباسها، إلا على وفرة من خبرة وحكمة وإبداع.
***
مها الغيث - كاتبة عمود (قراءة في كتاب) في جريدة الشرق القطرية، وكاتبة عمود في (ضفة ثالثة) / منبر ثقافي تابع لجريدة العربي الجديد، وكاتبة عمود سابقة في جريدة المشرق العراقية.
.................
على الهامش: على الرغم من أنني كنت أضع قائمة من كتب المؤلف على لائحة المشتريات، إلا أن هذا الكتاب جاء الأول فيما اشتريت وقرأت، خلافاً لما كان ينبغي أن يكون، المؤلفات قبل السيرة، أو هكذا أعتقد! يدفعني هذا للمضي قدماً واستيفاء اللائحة بأسرع وقت ممكن!