قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: عناوين براقة وكلام منمق.. وأمة تائهة!

هذا الكتاب الذي يحمل عنوانا صادما: "لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدم الآخرون؟" للكاتب شريف الشوباشي، يضع اصبعه على الجرح الغائر، جرح الأمة النازف منذ قرون. لكن السؤال الجوهري: هل يكفي التشريح دون وصفة الدواء؟ هل تجدي التحليلات الفكرية في غياب الإرادة الحقيقية للتغيير؟

 سبق الشوباشي كثيرون من رواد النهضة والتنوير، من عبد الرحمن الكواكبي إلى طه حسين، وجميعهم حذروا من نفس العلل التي تفتك بجسد الأمة: الجمود الفكري، واستبداد السياسة، وتواطؤ بعض النخب مع أصحاب المصالح، وهيمنة الخطاب الديني المتحجر الذي يحارب العقل ويحرم الاجتهاد ويقدس السلف تقديسا أعمى.

 لكن الجديد في كتاب الشوباشي– إذا كان ثمة جديد – هو جرأة الطرح في زمن انكسرت فيه الاصوات وخفتت، هو إعادة احياء تلك الأسئلة المحرجة التي طالما هربنا منها: لماذا نحن حيث نحن، والآخرون حيث هم؟ لماذا صرنا أمة مستهلكة لا تنتج، تابعة لا تقود، تعيش على أمجاد الماضي وتتخبط في ظلام الحاضر؟

أن الإجابة ليست في مؤامرة الخارج كما يروج البعض، ولا في قصر النظر إلى شماعة الاستعمار فقط. بل هي في الداخل أولا وأخيرا. في عقلنا العربي الذي غيب عن الفعل والحضارة وأخضع للتقليد والتبعية. في ثقافتنا التي أصبحت ثقافة استظهار لا استنباط، وحفظ لا إبداع. في أنظمتنا السياسية القمعية التي قتلت روح المبادرة والفرد والغته لصالح القطيع.

لقد استخدمت تلك النخب– كما يكشف الكتاب – الدين وتفسيراته المتحجرة سلاحا للهيمنة والسيطرة، فحولته إلى أفيون يخدر الجماهير ويصرفها عن قضاياها المصيرية، ويجعلها تركع وتسجد للطغاة والجبابرة باسم الدين، وتقاتل تحت راياتهم الوهمية وهي تظن أنها تقاتل في سبيل الله. أنها المعادلة القديمة الجديدة: تخلف العقل يؤدي إلى تخلف الواقع، وتخلف الواقع يعمق من تخلف العقل. حلقة مفرغة لا تكسر إلا بثورة فكرية شاملة، ثورة على كل ما هو مقدس من فكر بال ومنهج عاطل. ثورة تبدأ من التعليم الذي مازال – للأسف – يخرج أجيالا من الحافظين الأميين الذين يكررون ما قيل ولا يضيفون ما يقال. نريد تعليما يحرر العقل لا يقيده، يعلم التفكير النقدي لا التلقين الاعمى. نريد إعلاما ينير لا يغري، يثقف لا يسفه. نريد خطابا دينيا يتصالح مع العصر ولا ينغلق على نفسه، يفجر الطاقات الإبداعية ولا يكبتها. الخروج من النفق المظلم يحتاج إلى شجاعة نادرة، شجاعة الاعتراف بالخلل أولا، ثم الشجاعة في مواجهة أسبابه. يحتاج إلى إرادة حقيقية لا إلى مجرد كتب تكتب أو ندوات تعقد. فهل نستيقظ؟ أم أن الغفوة ستطول؟

بين التشخيص والتشويه..

قبل أن ننقد الكتاب لا بد من الاعتراف بأن طرح سؤال التخلف والنهضة هو من أصعب ما يواجه العقل العربي اليوم. لكن الخطورة لا تكمن في السؤال، بل في الإجابة المضللة التي تختزل أسباب التخلف في عامل واحد أو تحمل الدين والأمة وحدها تبعات الفشل.

وقع شريف الشوباشي في فخ التبسيط المخل، فجاء كتابه أشبه بفاتورة اتهام جاهزة للإسلام والتراث والعقل العربي، متناسيا أن التخلف ظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء.

مغالطة فصل الدين عن الحضارة حيث يصور الكتاب الدين الإسلامي وكأنه حاجز أمام التقدم، متناسيا أن هذا الدين نفسه هو الذي أخرج الأمة من الظلمات إلى النور، وأن الحضارة الإسلامية كانت منارة للعالم حينما كانت أوروبا تغط في ظلام العصور الوسطى. المشكلة ليست في الدين، بل في بعض التفاسير البشرية القاصرة والمؤدلجة التي جمدت على نصوص وأهملت أخرى.

تجاهل عامل الاستعمار والتآمر الخارجي: يتجاهل الكتاب بشكل صارخ دور الاستعمار الغربي في نهب ثروات الأمة وتفتيت وحدتها وزرع الكيان الصهيوني في قلبها. فكيف تتحدث عن التخلف دون أن تذكر كيف قطعت أوصال الأمة وسلبت ارادتها بمواثيق سايكس بيكو واتفاقات كامب ديفيد؟

النخبوية والانفصال عن واقع الأمة: حيث يكتب الشوباشي بلغة النخبة التي تنظر للجماهير من برجها العاجي، فتتحدث عن "الوعي المجتمعي" وكأن الشعوب هي المتهمة وحدها، متناسيا أن هذه الشعوب هي ضحية أنظمة قمعية ومشاريع خارجية محكمة التصميم لإبقائها في حالة التخلف والتبعية. الانتقائية التاريخية المشبوهة حيث يختار الكاتب من التاريخ ما يؤيد اطروحته، ويتجاهل الفترات التي ازدهر فيها العقل العربي والإسلامي، كما يتجاهل أن النهضة الأوروبية نفسها قامت على أكتاف الحضارة الإسلامية حينما كانت أوروبا تغط في ظلام الجهل.

 الحلول المستوردة والفارغة.. يقدم الكتاب حلولا نظرية بعيدة عن واقع الأمة وهويتها، كـ"العقل النقدي" و"التعليم" دون أن يحدد أي تعليم وأي عقل نقدي يقصد. فهل يقصد التعليم الذي يقطع صلة الأمة بتراثها وهويتها؟ أم العقل النقدي الذي ينسلخ من كل قديم لمجرد أنه قديم؟ أن الأمة لا تحتاج إلى كتب تزيدها غرورا بتخلفها، ولا إلى كتب تحملها كل التبعية فتصيبها بالإحباط واليأس. بل تحتاج إلى خطاب متوازن ينتقد الداخل دون أن يتجاهل الخارج، ويعيد الاعتبار للهوية دون انغلاق، ويستلهم التراث دون جمود. فهل كان كتاب "لماذا تخلفنا؟" إضافة حقيقية؟ أم كان مجرد صدى لأفكار استشراقية قديمة مغلفة بغلاف عربي؟

ملاحظة أخيرة: الغرب يتقدم ونحن نناقش أسباب تخلفنا! أليس من المفارقة أن الغرب يتقدم بينما نحن منشغلون بكتابة الكتب عن أسباب تخلفنا؟ ربما تكون هذه هي أعظم مفارقات التخلف: اننا نستهلك وقتنا في تشريح الجثة بدلا انعاشها!

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم