قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: نبوءة "علي الوردي"!

كقارئ عربي ولدت في زمن يزداد تعقيدا، وجدت في هذا الكتاب مرشدا لفهم جذور الصراعات التي نعيشها اليوم، سواء في السياسة أو الدين أو الهوية.

لقد كان كتاب المفكر العربي علي الوردي "مهزلة العقل البشري" صدمة كهربائية توقظ العقل من سباته. ومرآة كاشفة تظهر تناقضاتنا بأبشع صورها: مجتمعات تقدس التراث وتحارب الحداثة، وعقول تنادي بالحرية وهي مكبلة بسلاسل التقاليد.

الوردي، بعين عالم الاجتماع الثاقبة، اخترق طبقات التاريخ والثقافة ليرينا جذور الأزمات التي تعيق تقدمنا: من صراع الهوية إلى أزمة المرأة، ومن عقدة التفوق المزعوم إلى هوسنا بتمجيد الماضي.

هنا، في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق الكتاب، نكشف أسئلته المحرضة، ونواجه معًا تابوهات ظلت مقدسة لقرون. هل أنت مستعد لهز يقينياتك؟

 قراءة كتاب "مهزلة العقل البشري" رحلة داخل أعماق العقل العربي، حيث التناقضات تتكشف، والمسلمات تنهزم، والمنطق القديم يواجه بأسئلة حديثة جريئة.

علي الوردي، العالم العراقي الذي درس المجتمع بعين عالم اجتماع وأنثروبولوجي، لم يكتف بوصف الظواهر، بل حفر عميقا في جذورها. يشبه منهجه في الكتاب تفكيكا لـ"القوقعة البشرية" التي تحبس العقل في أطر جامدة. ففي فصول مثل "منطق المتعصبين" و"التاريخ والتدافع الاجتماعي"، ينتقد الوردي بلا مواربة ثقافة التقديس الأعمى للتراث، ويربط بين الصراعات التاريخية – كالخلاف على الخلافة الإسلامية – وبين انعكاساتها على العقلية العربية المعاصرة.

لكن ما أدهشني هو كيف استطاع الوردي، منذ خمسينيات القرن الماضي، أن يتنبأ بأزماتنا الحالية. فهو يرى أن العالم الإسلامي يعيش "مرحلة انتقال قاسية" بين عقلية القرون الوسطى وضرورات الحداثة، مما يخلق صراعا بين الأجيال: جيل يتشبث بـ"منظار القرن العاشر"، وآخر يحمل "منظار القرن العشرين". هذا الصدام لا يزال حاضرا في مجتمعاتنا، سواء في الجدل حول دور المرأة أو في الصراع بين التقاليد والابتكار.

أبرز ما يطرحه الكتاب هو فكرة "الازدواجية" في الشخصية العربية، التي تجمع بين قيم البداوة وقيم الحضارة. يشرح الوردي كيف أن هذه الازدواجية تنتج تناقضات اجتماعية وسياسية، مثل الدعوة للديمقراطية مع التمسك بالاستبداد، أو التغني بالوحدة العربية مع تعزيز الانقسامات الطائفية. هذه الفكرة تجعل القارئ يتساءل: أليس هذا الوصف ينطبق على واقعنا اليوم؟

في فصل بعنوان "ما هي السفسطة"، ينتقد الوردي استخدام المنطق المغلف بالعاطفة لتبرير الموروث. كمثال على ذلك، يشير إلى أن بعض المفكرين يبررون حجر المرأة بحجة "نقص عقلها"، متناسين أن هذا النقص نتج أصلا عن الحجر نفسه. هذا التحليل يدفع القارئ لإعادة النظر في خطابنا الديني والاجتماعي، ويسائل: هل نستخدم المنطق لفهم الواقع، أم لنصبه ساترا عن عيوبنا؟

الكتاب لا يخلو من إثارة الجدل. ففصوله التي تحلل أحداثا تاريخية حساسة – مثل مقتل عثمان بن عفان أو الخلاف بين علي ومعاوية – تتعارض مع الروايات التقليدية، مما أثار حفيظة بعض التيارات الدينية والقومية. لكن هذا بالضبط ما يجعل الكتاب ضروريا: إنه يجبرنا على مواجهة "المسكوت عنه" في تاريخنا، ويفتح الباب أمام قراءة نقدية ترفض التمجيد الأعمى.

حتى في نقدي الشخصي للكتاب، وجدتني أتساءل: هل بالغ الوردي في تحميل العقل البشري مسؤولية الأزمات؟ أم أننا نرفض رؤية أنفسنا في مرآته الصادقة؟ الإجابة ربما تكمن في اقتباسه الشهير: "الإنسان مجبول أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكرا لا يخلو من مبالغة".

كما يقول الوردي، الكتاب موجه لمن "يفهمون ما يقرؤون"، لا لمن يقرؤون ما هو "مسطور في أدمغتهم". هذه العبارة تلخص رسالتي كقارئ: اقرأ هذا الكتاب لا كحقيقة مطلقة، بل كمنظار جديد يوسع آفاقك. قد ترفض بعض أفكاره، أو تصاب بالغضب من جرأتها، لكنك حتما ستخرج بأسئلة تغير طريقة نظرتك إلى التاريخ والمجتمع والذات.

رغم مرور عقود على تأليفه، يبقى "مهزلة العقل البشري" عملا نادرا في ثقافتنا العربية، ليس بسبب قلة طبعاته، بل لأن أفكاره تشكل تحديا للعقلية السائدة. إنه كتاب يذكرنا بأن النقد الاجتماعي ليس خيانة للتراث، إنما محاولة لفهمه بعمق أكبر. وكما يقول الوردي: "الحقيقة بنت البحث والمناقشة". فهل نجرؤ على خوض هذه المناقشة؟  

التابوهات المقدسة:

هل يمكن للعقل العربي أن يتحرر من عباءة الأسلاف؟ ما يزال سؤال التحرر من سطوة الماضي يلاحقنا كشبح في كل منعطف فكري. الوردي، بوصفه مفكرا منشقا عن السرديات الكبرى، يضعنا أمام مرآة مربكة: نحن أمة تقدس الماضي لدرجة التماهي معه، حتى صرنا نعيش حاضرنا بأعين أمواتنا. يروي في فصل "عبقرية اللغة العربية" كيف تحولت اللغة من أداة تواصل إلى كيان مقدس يستخدم لترسيخ الهيمنة الثقافية، فصار النحو سلطة وقواعد الإعراب حدودا للتفكير. هذا التحليل يذكرني بجدليات معاصرة حول "عقدة الفصحى" وصراع اللهجات، وكيف يستخدم الاختلاف اللغوي كسلاح لهوية هشة.

لكن الوردي لا يكتفي بكشف التناقضات، بل يدفع القارئ إلى سؤال وجودي: هل يمكن بناء حداثتنا دون تمرد على "التابوهات المجمدة"؟ الإجابة عنده تبدو مركبة؛ فهو يؤمن بأن التقدم لا يعني القطيعة مع التراث، بل إعادة قراءته بمنطق الواقع لا الأسطورة. هنا أتساءل: أليس هذا ما نحتاجه اليوم في مواجهة خطابات التكفير والتخوين التي تمارس باسم الدفاع عن التراث؟

في قراءتي للكتاب، استوقفني غياب المرأة كفاعل في تحليلات الوردي الاجتماعية، رغم أنها الحلقة الأضعف في معادلة الازدواجية. لكنه يلمح إلى ذلك حين يربط اضطهادها بسيادة "عقلية البداوة" التي تتعامل مع المرأة كوعاء للشرف القبلي. هذا التوصيف يجسد معاناة المرأة العربية التي تحاصر بين خطابين: خطاب ديني يقدس دورها كأم، وآخر حداثي يحملها عبء إثبات كفاءتها خارج الإطار التقليدي.

اليوم، وفي ظل موجات التحرر النسوي، يبدو كتاب الوردي كأنه نبوءة لم تكتمل. فالصراع بين "الحجاب" و"السفور" – كمثال – ليس مجرد جدل حول زي، بل هو تعبير عن أزمة الهوية التي تتلاعب بها العقلية الازدواجية. هل نستطيع كمجتمعات أن نعترف بأن تحرير المرأة ليس تهديدا للقيم، بل فرصة لتحرير الرجل أولا من أوهام السيادة؟

قد يتهم الوردي بـ"التبعية الفكرية" لاستخدامه مناهج غربية في التحليل، لكنه في الحقيقة يرفض التقليد الأعمى للشرق والغرب معا. في فصل "صراع الحضارات"، يسخر من العرب الذين يتنكرون لتراثهم ويقلدون الغرب كالببغاوات، وفي الوقت نفسه يهاجم المتمسكين بالتراث كأنه محنط في متحف. هذه الرؤية تدفعني إلى مقارنتها بظاهرة "الاستلاب الثقافي" التي نعيشها اليوم: شباب يعيشون على وهم "الانفتاح" عبر شاشات السوشيال ميديا، بينما يكررون خطابات الأجداد بعقلية رعوية.

الوردي هنا يصرخ: كفانا هروبا! إما أن نصنع حداثتنا بانتماء واع، أو نستسلم للتبعية بوعي مغيب.

الحق أن قراءة "مهزلة العقل البشري" أشبه بتشريح ذاتي دون بنج. الكتاب يؤلم، لأنه لا يمنحك براءة الضحية، بل يجعلك شريكا في صناعة الأزمة. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على تأليفه، ما يزال السؤال الذي يطرحه الوردي ملحا: هل نريد فعلا أن نصحو من "الهزيمة النفسية" التي جعلتنا نعيش على أمجاد الماضي، أم نكتفي بترديد شعارات التحرر بينما عقلنا مكبل بسلاسل التقليد؟

في زمن الانقسامات والصراعات الدموية، يحتاج العقل العربي إلى جرعة من "المرارة الوردية"، فالنقد المؤلم أولى من الوهم المريح. وكما قال الكاتب: «إن الأمم الحية هي التي تخرج ماضيها إلى حاضرها لتحاكمه، لا لتمجده». ربما آن الأوان لنجرب المحاكمة.

أخيرًا.. لا تبحث عن أبطال في كتاب الوردي، ولا عن خطب منمقة تدفعك للافتخار بانتمائك. الكتاب مرآة قد تظهر لك وجها شاحبا، لكنها أيضا تمنحك فرصة لترميم ما تشوه. اقرأه كما لو أنك تصلح بيتا قديما: احتفظ بالأساسات القوية، واهدم الجدران التي تسقط فوق رؤوسنا منذ قرون.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم