قراءة في كتاب
جمال العتّابي: نزار حمدون.. رحلة حياة دبلوماسية (2)
مرحلة (الدَلال) الأمريكي للعراق
لم تكن العلاقات العراقية - الأمريكية صافية تماماً في الفترة التي التحق فيها نزار حمدون كمسؤول لشعبة المصالح العراقية في واشنطن عام 1983، هناك ما يعكّرها بين الحين والآخر، فقد احتجّت الولايات المتحدة على استخدام العراق للأسلحة الكيمياوية في حربه ضد إيران.
في آذار 1985 قدّم حمدون اوراق اعتماده كسفير لبلاده الى الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وقد تصاعد نشاطه منذ ذلك الحين في المحافل الرسمية والسياسية والدبلوماسية، وكان يتجنب الدعوات التي تقيمها السفارات الأجنبية والعربية إلا في ما هو ملزم، وكرّس جهده لخلق وإدامة الصلة مع رجال الإعلام والصحافة، كما زار أكثر من 36 ولاية أمريكية، يلقي المحاضرات في مراكز البحوث ومجالس الشؤون الخارجية، والجامعات والكنائس، وحيثما توفرت الفرصة بالتحدّث مع جموع المهتمين.
منذ عام 1987 بدأ الموقف الأمريكي يميل أكثر إلى جانب العراق، على الرغم من تزويد ايران بالأسلحة الذي يعني إطالة أمد الحرب، ويأتي مناقضاً للسياسة الأمريكية المعلنة في وقوفها الى جانب قرارات مجلس الأمن التي تدعو الى وقفها. وكان نزار حمدون قد عمل بدأب عندما انكشفت فضيحة إيران - كونترا، في التحذير الى ان التعامل مع طهران كان سلوكاً مهدداً ضد مصالح أمريكا والغرب.
لم تتأثر العلاقات حتى عندما هاجم العراق الفرقاطة الامريكية (ستارك) في الخليج وقتل ثلاثة بحارة فيها وجرح آخرين في 17 آيار 1987، بل استمرت وتيرتها بالتصاعد وصولاً الى نهاية الحرب. ويبدو من مسموعاته من أصدقاء أمريكان أن اسحق رابين كان يتحدث للبعض عن خطأ دعم ايران، وعن إمكانية التعامل مع العراق الذي قد يكون عنصراً من عناصر الاستقرار في المنطقة. يذكر حمدون ان دائرة التحرك في واشنطن لا بدّ وأن تجعلك تحتكّ (بالحزام العريض) الذي يحيط باللوبي الأسرائيلي، وأن تتعامل معهم سلباً أم إيجاباً، فأما أن تؤثر أو تتأثر (ص 129).
وعلى هامش حادث الفرقاطة أرسل الرئيس العراقي رسالة اعتذار للرئيس ريغان، واعلن طارق عزيز استعداد العراق لتعويض ما نجم من أضرار في الأرواح والممتلكات. وكان الوفد الامريكي الذي وصل بغداد للتحقيق في الحادث قد طلب مقابلة الطيار الامريكي الذي هاجم الفرقاطة، فرفض طلبه. يقول نزار حمدون: علمت في حينها ان الطيار وهو من مدينة الموصل، نال شكر الرئيس وأهداه سيارة مارسيدس، مع مبلغ من المال.
في هذه الأثناء كان نزار حمدون يتجاوز مرجعياته الرسمية في وزارة الخارجية ويكتب مباشرة لصدام حسين، واحياناً بأسلوب لا يراعي فيه الصياغات البروتوكولية، فيخاطبه في احدى الرسائل: (ودعني أقول هنا بأنني..... الخ)، لعل هذه (الميانة) الزائدة يفسرها هو في مقطع آخر في نص الرسالة ذاتها: ان من أبرز العوامل التي ربطت بين فعاليتي هنا وبين صورة العراق (المشرقة)، هو كوني قريب من رئيس الدولة الذي اختارني شخصياً لهذا الموقع.
في أواخر حزيران 1987 كان الموقف الأمريكي السياسي يتطور بشكل أقوى باتجاه تبني موقف العراق لوقف الحرب، وفي آب من العام ذاته ارسلت الخارجية الامريكية مذكرة سرية تبلغ فيها العراق نيتها لدفع مجلس الأمن الى اصدار قرار يدعو الى معاقبة ايران التي ترفض الالتزام بالقرار 598 الذي يقضي بوقف اطلاق النار.
وفي اللقاءات التي تجري بين طارق عزيز ومورفي وزير الخارجية الأمريكي، كان عزيز يتحدث وهو يوجّه ارشاداته ونصائحه وأحيانا تعليماته إلى مورفي وكأنه هو ممثل الدولة العظمى، لقد أدى هذا التعامل وعلى مدى النصف الثاني من الثمانينات الى أن القيادة العراقية باتت تتصور ان عظمتها وجبروتها التي تمارس ضد الشعب العراقي، انما تنسحب على دولة عظمى، لقد كانت أمريكا مسؤولة عن هذا السلوك المتساهل مع العراق بما يصل إلى مستوى ( الدَلال) كما يشير الى ذلك حمدون (ص181).
ويضيف بالقول الى ان هذا (الدَلال) كان له الدور المهم في تعزيز النَفَس العدواني للعراق واستهانته بمواقف ومصالح الدول الكبرى، وقد انعكس ذلك في التمادي في استخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الكُرد بعد ما استخدمها ضد الايرانيين في جبهات القتال، كذلك في تصنيع وتكديس الأسلحة المحرّمة كافة، فضلاً عن تبذير أموال وثروات الشعب العراقي التي انتهت بالمزيد من الدمار لهذا الشعب عبر سلسلة الحروب والعقوبات الإقتصادية، وللدقة أقول ان هذا السلوك المتساهل لم يقتصر على ميرفي انما شمل أقطاب الادارة الامريكية في مرحلتي رئاسة ريغان وبوش(ص 188).
عاد نزار حمدون إلى بغداد في أيلول 1987، وكيلاً لوزارة الخارجية، وقيل الكثير في حينها عن سبب نقله المفاجئ من واشنطن، وأغلب الظن كما يعتقد حمدون، ان النقل تمّ بناء على النجاح الاعلامي والدبلوماسي الذي حققه بفعل جهوده الاستثنائية في العمل، مما لم يرق للقيادة التي كانت تعتمد مبدأ (كل شيء للقائد وحده)، ان نظرة واحدة لغلاف الواشنطن بوست في كانون الأول 1985 كافية لمعرفة شعور أولي الأمر في بغداد وسعيهم لانهاء تلك الظاهرة التي لا تناسبهم، كانت المجلة قد وصفته بالسفير الفنان. (غلاف المجلة ذاته وظّفه المصمم المذكرات كغلاف أول لمذكراته).
وربما كان المقال الذي كتبه للصحيفة قبل مغادرته الولايات المتحدة في30 آب 1987 معبراً عن درجة عالية في المقبولية كسفير لدولة كانت تعتبرها واشنطن من أشد دول الإرهاب والتطرف.
كانت واشنطن مدينة محببة له منذ اليوم الأول لإقامته فيها، كان يقول: ان حجارة الرصيف فيها تتحدث السياسة. إذا لم تكن معنياً بالسياسة فواشنطن لن تكون مدينتك المفضلة، وقد تكون ممّلة ومحدودة الآفاق، انها ماكنة ضخمة، عليك إن أردت النجاح في مهمتك أن تتعامل يومياً وبدون كلل مع كل مفصل وجزء منها، وأن لا تغفل عن أية قطعة فيها (ص 189).
من السهل على الدبلوماسي أن يتعامل بشكل مريح مع موسكو أو باريس، أو لندن، لوجود حكومات مركزية مسؤولة عن السياسة الخارجية، لكن ليس من السهل ان تتعامل بنفس المستوى مع الخارجية الامريكية، هناك عليك إدامة الصلة بجميع المعنيين بصنع القرار في وقت واحد، وبسبب التغير السريع في السياسة الامريكية، فبإمكانك التأثير فيها اذا عملت بصورة جدية، وهذا ما لايحدث في موسكو، فليس بمقدورك أن تلوي ذراع (الاتحاد السوفيتي) أو أن تعبئه لقضية ما، ولا تستطيع التأثير في الرأي العام، ولكن في واشنطن يستطيع السفير وحتى السفير (السوفيتي) أن يجرب الأساليب كلها، وأن يحقق قدراً من النجاح (ص 196).
في ضوء ما تقدم نستطيع القول: ان الولايات المتحدة كانت تهدف في سياستها الأبعد حول المنطقة الشديدة الحساسية، الى استمرار حالة الصراع والاضطراب، لضمان مصالحها ومصالح اسرائيل، واضعاف قدرات كل من ايران والعراق، وضمان تدفق نفط الخليج الى حلفائها، ودعم الطرفين مع الحرص على عدم انتصار طرف دون أخر، كي لا يرتمي الخاسر في احضان السوفييت، كما انها كانت تعزز لدى صدام وَهَم (العظمة والغطرسة) للاندفاع أكثر في سياسته العدوانية ضد جيرانه، في الوقت الذي كانت فيه الماكنة العسكرية العراقية تعتمد على السلاح السوفيتي بكل صنوفه، وهو لم ينقطع طيلة سنوات الحرب، بأموال ودعم الدول الخليجية. وبالرغم من انشغال الادارة السوفييتية بالحرب الافغانية.
لقد وجدت الادارة الامريكية بأن الفرصة سانحة لها في ظل هذا الواقع ان تعيد ترتيب علاقتها مع العراق، وتشير احدى الدراسات اعتماداً على مصادر امريكية ان اجتماعاً سرياً عقد في مدينة قرطاجةالاسبانية في 9 تموز 1980، بين المخابرات العراقية والامريكية، وضم الوفد الامريكي كلاً من (رامسفيلد، بريجنسكي، وليم كيسي، ادوارد كابي مستشار ريغان)، وضم الوفد العراقي كلاً من (فاضل البراك، سبعاوي، خالد عبد المنعم، صابر الدوري، فاروق حجازي)، وتم الاتفاق على تزويد العراق بخرائط الاهداف العسكرية الايرانية، ومعلومات عسكرية مهمة، كما اتفق الطرفان على انشاء محطة امريكية في الاردن لدعم العراق بالمعلومات الاستخبارية*
(يتبع الحلقة الاخيرة.. غزو الكويت.. الصعود الى الهاوية)
***
د. جمال العتّابي
.................
* دور وموقف الولايات المتحدة الامريكية من الحرب العراقية - الإيرانية، جامعة دهوك، كليةالعلوم الانسانية، شفان محمد خالد، فرهاد محمد احمد