قراءة في كتاب
جودت هوشيار: جورج اورويل من وجهة نظر نسوية
كتب جورج أورويل أحد الكتّاب الأكثر شهرة وتأثيراً في القرن العشرين: «الحب الجنسي أو غير الجنسي عمل شاق». وكانت آراؤه العميقة الثرية في الكتابة والسياسة والسفر والقراءة ومجالات عديدة أخرى، بمثابة دليل حول كيفية العيش. ترجمت كتبه إلى 65 لغة، وتم على أساسها إنتاج أفلام سينمائية وعروض مسرحية عديدة. وتجاوز إجمالي تداول روايته «1984» في إنجلترا وحدها 40 مليون نسخة. وبعد مرور أكثر من سبعين سنة على وفاته، تحاول الكاتبة والناشطة النسائية الأسترالية آنا فوندر تسليط الضوء على سوء معاملته للنساء، وتسعى لتغيير صورته، والطريقة التي نقرأ بها أعماله.
ربما وجد أورويل الحب أمراً صعباً، لكن كما توضح فوندر، فإن النساء اللواتي أحببنه أو أحبّهنّ، وخاصة زوجته الأولى، إيلين أوشونيسي، واجهن صعوبات جمة في التعامل معه. فقد تجاهل أورويل تماماً دور زوجته في مساعدته والوقوف إلى جانبه في الأوقات العصيبة. وهو لم يتجاهل، حضورها وشجاعتها فحسب، بل بذل قصارى جهده لإخفاء ما قامت به من أجله.
كتاب فوندر الجذاب والعاطفي المعنون «الزوجة: حياة السيدة أورويل غير المرئية» الصادر عام 2023، مزيج جريء من المذكرات والخيال والحقيقة، وهي محاولة لإعادة هذه المرأة المنسية إلى الصورة، ومنحها صوتا. وليس هناك شك في أن هذا الأمر يمكن أن يشوه إلى حد كبير سمعة أورويل الذهبية.
درست إيلين أوشونيسي الأدب في جامعة أكسفورد. ونشرت قصيدتها الديستوبية «نهاية القرن 1984» عام 1935، التي تنبأت فيها بمستقبل قاتم، يتم فيه السيطرة على العقل، ويتم القضاء على الحرية الشخصية، وذلك قبل 14 عامًا من نشر رواية أورويل، التي تحمل الاسم نفسه.
كانت إيلين فتاة نحيلة لها أكتاف عريضة وعالية، و»وجه مثلث» أو كما قال أحدهم، وجه «على شكل قلب» لها عيون زرقاء وشعر بني غامق كثيف، منسدل على شكل أمواج طبيعية.
تزوجت إيلين أوشونيسي في 9 يونيو/حزيران 1936 من إريك آرثر بلير، الذي كتب قبيل زواجه: «بشكل عام، عليك أن تتزوج يوما ما. الزواج سيّء، لكن البقاء وحيدًا إلى الأبد أسوأ. حتى إنني أردت أن أضع الأغلال للحظة، لأجد نفسي في هذا الفخ الرهيب. يجب أن يكون الزواج حقيقيا وغير قابل للتدمير، سواء في أوقات الفرح أو الشدة، أو في الفقر أو الثروة، حتى يفرقكما الموت.»
بعد زواجهما تخلت إيلين عن شخصيتها الفردية، من أجل دعم إنجازات زوجها، الذي سيصبح يومًا ما معروفًا باسم جورج أورويل. وقد رافقت زواجها المازوشية العاطفية والتضحية المهنية، على الرغم من الجهود الواضحة التي بذلها إريك بلير لمحو آثار تأثيرها الكبير على عمله الإبداعي، وإسهامها في نجاحه ككاتب. وتتساءل فوندر: لماذا وكيف، تم حذفها من سيرة أورويل؟
تعتمد الكاتبة على مصدرين رئيسيين: الأول: ست رسائل من إيلين تم اكتشافها في عام 2005، كتبتها بين عامي 1936 و1945 إلى صديقتها المفضلة نورا مايلز، التي كانت طالبة وزميلتها في جامعة أكسفورد. وهي رسائل تسمح لصوت إيلين بالوصول إلينا مباشرة، وتلقي نظرة خاطفة خلف ستار حياة أورويل الخاصة. والثاني هو العديد من السير الرئيسية لأورويل من تأليف أمثال بيتر ستانسكي، ووليم أبراهامز (1972) وبرنارد كريك (1980) ومايكل شيلدن (1991) وجيفري مايرز (2001) ودي جي تايلور وجوردون بوكر (2003).
كتّاب سيرة أورويل هم سبعة رجال تناولوا حياته وأعماله من وجهات نظر مختلفة. كل واحد منهم تميز بطريقته الخاصة، لكنهم جميعًا يقللون من أهمية المرأة في حياة أورويل. وفي النهاية، بدت سيرة أورويل بعيدة عن الواقع..
تكشف فوندر بنظرة ثاقبة الثغرات والغموض والافتراءات التي تحتويها هذه السير، والتي تلقي بظلال من الشك على مضامينها. وفي الوقت نفسه، تستخدم الكاتبة ما تكتشفه لتسليط الضوء على حياتها الزوجية الخاصة، إذ وجدت نفسها تقوم بـمعظم الواجبات المنزلية، وتعتني بالأطفال، رغم اتفاقها مسبقاً مع زوجها المهندس المعماري على تقاسم تلك الواجبات بالتساوي.
لست على يقين من أن مثل هذه الأفكار تضيف شيئاً ذا قيمة إلى محتوى كتابها. ويمكن القول إن سيرة إيلين الواقعية ربما خدمت صورتها بشكل أفضل، من خلال التركيز عليها، دون الحاجة إلى الربط بين عصرها وعصرنا، وفرض وجهة نظر نسوية حديثة على زواج تم قبل 87 عامًا. فوندر لها أسلوبها المتفرد، إلا أنها تفقد أحيانًا السيطرة على ما تكتبه.
يأخذنا كتاب «الزوجة» إلى عوالم إيلين أوشونيسي وإريك بلير الخاصة. من خلال إحياء صوت إيلين وإخراجه من أعماق المحو. تدرس الكاتبة الأدوار العديدة للزواج، التي ما تزال غير مقدّرة وغير معترف بها، لكنها ضرورية لنجاح أغلب الرجال. غالبًا ما يتم مسح الزوجات من السجل التاريخي، ولا يتم الاعتراف بمساهماتهن في ظل النظام الأبوي. تلجأ الكاتبة أحياناً إلى المبالغة في هذا الأمر، للإشارة إلى أن تجربة إيلين هي مرآة لعلاقة جميع النساء بجميع الرجال، ويمكنهن أن يجدن فيها صورتهن الخاصة: «قد يكون الرجل مثالياً في تعامله مع شريكة حياته، ومع ذلك فإن النظام الأبوي سيظل في صالحه، دون الحاجة إلى رفع إصبع أو سوط أو تغيير الملاءات».
دور إيلين في صنع أورويل
ليس من المستغرب أن الظروف التي سمحت لأورويل بالعمل لم يتم خلقها بطريقة سحرية عن طريق المصادفة، بل بفضل عمل زوجته المستمر، فهي التي كانت تطبع مخطوطاته، وتتعامل مع المحررين، وترعاه خلال نوبات المرض، وما إلى ذلك. شاركت إيلين بنصيب لا يستهان به في مساعدة إيريك بلير على أن يصبح الكاتب الشهير جورج أورويل.
عندما نشرت رواية «مزرعة الحيوان» دفع التغيير الجذري في أسلوب السرد، صديق الزوجين توسكو فيفيل إلى الكتابة: «القصة مثالية جدًا في لمستها الخفيفة وضبط النفس (غير أورويلية تقريباً) لدرجة أنني أعتقد أن ذلك يرجع جزئيًا إلى تأثير المحادثة الشفاهية لإيلين، واللمسة الخفيفة لعقلها المشرق والمَرِح». حتى إن ليديا جاكسون، صديقة إيلين المقربة، وافقت على ذلك قائلة: «شخصيًّا، ليس لدي أدنى شكٍّ في أن إيلين تعاونت بطريقةٍ خفيَّةٍ وغير مباشرةٍ في إنشاء «مزرعة الحيوان»… «إذا كان أورويل شاعراً فاشلاً، فإن إيلين من جانبها كانت شعراً خالصاً».
تناولت الباحثة الكندية سيلفيا توب مسألة التفاعل الإبداعي بين أورويل وزوجته إيلين بلير في كتاب صدر عام 2020 تحت عنوان «إيلين: صانعة جورج أورويل». وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن بعض أعمال مؤلف «1984» و»مزرعة الحيوان» في الأقل، يجب أن يكون لها اسمان، لأن هذه الأعمال تمت كتابتها بالتعاون بينهما. وتعتقد الباحثة أن إيلين هي النموذج الأولي الوحيد لشخصية جوليا في رواية «1984» وليس سونيا براونيل زوجته الثانية، التي تزوجها في 13 أكتوبر 1949،، قبل ثلاثة أشهر فقط من وفاته بمرض السل.
نظرة أورويل إلى المرأة
تسلط الكاتبة الضوء على وضع الزوجات باعتبارهن عبيداً، مهمتهن توفير العمل الجنسي والمنزلي، غير المرئي وغير مدفوع الأجر، الذي يسمح للرجال بإنشاء حياتهم الخاصة، وتحقيق الأعمال العظيمة.
تقتبس فوندر، على وجه التحديد، مقطعًا من دفتر ملاحظات أورويل جاء فيه: «هناك حقيقتان عظيمتان عن النساء.. إحداهما هي قذارتهن وعدم انتظامهن، التي لا يمكن إصلاحها. والأخرى هي حياتهن الجنسية الرهيبة والمفترسة». لكن فوندر تقدم العديد من الأفكار حول دور النساء في مساعدة أزواجهن على تحقيق مصيرهم، وترسم صورة حية لإيلين، المرأة الرائعة المنسية، بسبب النظام الأبوي، الذي يسمح بسرقة حياة المرأة وإبداعها ووقتها.
لم يكن زواجً إيريك وإيلين مفتوحاً (أي الزواج الذي يسمح لكل منهما أن يقيم علاقات جنسية خارج إطار الزواج) كما يزعم بعض كتّاب سيرته. وقد خانها مرارًا وتكرارًا (مرة مع أقرب صديقاتها). وكان هذا مصدر تعاستها. أثناء إقامتهما لفترة وجيزة في المغرب، لم يتمكن من إخفاء افتتانه بالنساء البربر. في النهاية أخبر إيلين أنه يريد الحصول على واحدة منهن، وقد تحقق له ذلك فعلاً.
في يناير 2020 حصل ابن المؤلف بالتبني، ريتشارد بلير، على رسائل والده، الموجهة إلى صديقتين هما بريندا سالكيلد وإلينور جاك. كتب معظمها أثناء زواجه من إيلين. وقال ريتشارد بلير: «لقد كانت رسائل شخصية للغاية.. أعتقد أنه في الحالتين كان هناك اتصال جسدي في بعض الأحيان». في إحدى الرسائل الموجهة إلى بريندا سالكيلد، يزعم أورويل أن إيلين كانت متعاطفة مع رغباته: «إنها على استعداد للسماح لي بالنوم معك حوالي مرتين في السنة، فقط لتجعلني أشعر بالسعادة».
دافع أورويل عن سوء معاملة تشارلز ديكنز لزوجته، من خلال فصل عمل المبدع عن سلوكه السيّء. لكن فوندر تتعمق في مفاهيم الماضي والحاضر لثقافة الإلغاء، ويمضي السؤال أبعد من ذلك ليشمل مسألة ما إذا كان من الممكن تحرير ضحايا الظلم من معاناتهم، على أيدي الأشخاص، الذين نحتفي بأعمالهم. لكن المقاطع الكارهة للنساء المقتبسة من أعمال أورويل تجبر فوندر على التساؤل عما إذا كان من الممكن التوفيق بين تصورها المتغير عن هذا الكاتب وحبها الدائم لمؤلفاته.
في نهاية المطاف، فإن نفاق الخصوصية الأبوية يبقي النساء صامتات بشأن إساءة معاملتهن، ويمنع المجتمع من مساءلة الرجال عن أفعالهم. إنه يحجب الضرر، الذي يلحق بالنساء اللاتي، يجب عليهن اللجوء إلى نوع من التكيّف النفسي، للتوفيق بين وجهات النظر المتعارضة حول واقعهن. وتستكشف فوندر بمهارة أخلاقيات تبرير كراهية النساء، من خلال الصوت المتجدد لهذه المرأة النابضة بالحياة..
تسلط فوندر الضوء على الفترة، التي قضاها أورويل في إسبانيا، من خلال الكشف عن أهمية عمل إيلين سكرتيرة في مقر حزب العمال المستقل في برشلونة، والمخاطر، التي واجهتها بمفردها، ليس أقلها من الجواسيس السوفييت والعصابات المسلحة. زارت زوجها، وأحضرت له الشاي الإنجليزي والشوكولاتة والسيجار، كما أمضت ثلاثة أيام في الجبهة إلى جانبه، وساعدت في تمريضه بعد إصابته برصاصة في حنجرته، لكن كل ذلك لم يصل إلى كتابه عن الحرب الأهلية الإسبانية «تحية إلى كاتالونيا». إذ سلك أورويل في هذا الكتاب طريقة ملتوية في السرد محاولا تجنب الحديث عن إيلين.
حياة الرعب في لندن
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، بدأت إيلين العمل في قسم الرقابة التابع لوزارة الإعلام، إذ كانت تقيم مع عائلتها في غرينتش. قُتل شقيقها الطبيب اللامع لورانس في انفجار قنبلة، في أثناء عملية الإخلاء دونكيرك، وبعد ذلك، وفقًا لصديقتها ليديا جاكسون «ضعفت قبضتها على الحياة، التي لم تكن قط قوية جدًا».
بعين الروائي، تعيد فوندر خلق الكآبة والرعب في لندن، في زمن الحرب؛ ولا يعني ذلك أن عائلة أورويل بدت مصدومة. فقد كانت تشاهد من على السطح القنابل، وهي تتساقط، بدلاً من الاحتماء منها. لكن القصف الألماني العنيف عام 1944 دمر الشقة، التي كانا يقيمان فيها، ونَجَا الزوجان من الموت بأعجوبة. واضطرا إلى الانتقال إلى الريف المتجمد والعيش في كوخ تملكه عمة أورويل في هيرتفوردشاير. وهنا توضح الكاتبة كيف تحملت إيلين كل الأعباء المنزلية، في كوخ بلا تدفئة أو كهرباء.
كان أورويل منهمكاً في الكتابة، ويأكل كل حصص الزبدة، أثناء الحرب، لأنه لم يكن لديه أي فكرة عن مقدار الحصة التموينية، التي ستتركها مع الخبز الجاف. وكان عقيماً، وأراد أن يتبنى طفلا صغيرا، لكنه سافر إلى باريس وتركها لاستكمال إجراءات التبني، وهي في المراحل الأخيرة من سرطان الرحم، الذي كان يقتلها، وهذه قصة عن أنانية خاصة مدعومة بمعايير الذكورة الأبوية.
على الرغم من أن حديث أورويل عن زوجته في كتاب «تحية إلى كاتالونيا» لم يكن صادقاً، وخياناته المستمرة ألحقت بها أضرارًا نفسية بالغة، إلا أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو معرفة مدى ضآلة ما فعله لمساعدتها، في أثناء مرضها الخطير. فبحلول الوقت الذي تبنى فيه الزوجان الطفل الصغير ريتشارد، البالغ من العمر ثلاثة أسابيع، كانت إيلين تعاني من فقر الدم، بسبب النزيف شبه المستمر. وكانت في حاجة إلى الرعاية والاهتمام، ولم يقدم أورويل أيا منهما. كانت إيلين تستعد لعملية جراحية كبرى. والرسالة التي كتبتها إلى زوجها توضح فيها قرارها، ومحاولة تبرير تكلفة العملية، تشير إلى محو الذات، ومدى قلة تفكيرها في نفسها، طوال هذا الزواج الصعب.
توفيت إيلين تحت التخدير في أثناء العملية الجراحية في 29 مارس 1945 في نيوكاسل أبون تاين، وكانت في التاسعة والثلاثين من عمرها. وجاء في التحقيق: «ماتت بسبب قصور القلب تحت التخدير بالأثير والكلوروفورم، الذي تم وصفه بمهارة ودقة لعملية استئصال الرحم». ولا أدري عن أي دقة ومهارة يتحدث تقرير الوفاة، إذا كان الجراح والمخدر لم يأخذا في الاعتبار إصابة المريضة بفقر الدم الشديد.
بعد مرور ما يقرب من 80 عامًا على وفاتها، أعطت فوندر لإيلين أخيراً الشهرة والاحترام، الذين تستحقهما. والسؤال هو، كم عدد النساء المؤثرات الأخريات اللائي ما زلن مثل الكنز المدفون، ينتظرن النور؟
***
جودت هوشيار