قراءة في كتاب
علي حسين: معركة فيسبوكية حول المرحوم الروماني شيشرون
منذ ان دخلت عالم السوشيال ميديا، ووضعت اسمي على هذه الصفحة في موقع الفيسبوك لصاحبه مارك زوكربيرغ، ثم تطفلت ودخلت مملكة تويتر وبعدها التليغرام، وانا حريص ان اشارك المتابعين لصفحتي اهتمامي بالكتب وبما اقرأه، من دون ان ادعي انني ظليع في عالم المكتبات، او انني خبير في القراءة، فانا مجرد قارئ تمثل العلاقة مع الكتب إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر، وكل شيء بدأ عندي أشبه برحلة . ذات يوم وأنا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي . عندما أسترجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية . هذا الشغف بالكتب حاولت ان انقله الى اصدقاء مواقع التواصل من خلال زوايا كنت احرص على ادامتها ومنها زاوية بعنوان " صباح الكتب " اختار فيها صباح كل يوم فقرة من كتاب انتهيت من قراءته او ما ازال اقرأ فيه ن واحيانا اتطفل فاكتب موضوعا عن الكتاب ومؤلفه لتعميم الفائدة ..، وما اقوم به كل يوم اعتقد انه واجب لكل من يهتم بالثقافة، ان يحاول اداء رسالته الحقيقية في عالم يجنح الى الابتذال والسطحية .. ولهذا اجد ان من واجب المثقف – اذا كان الاصدقاء يضعونني في حانة المثقفين – ان يحرص على ترك أثر ايجابي، حتى وان كان هذا الاثر بسيطا مثل زاوية " صباح الكاب " التي اطالعكم بها كل يوم .
صباح هذا اليوم كالعادة اخترت فقرة من كتاب كنت اقرأ به الايام الماضية وهو كتاب بعنوان " عن الجمهورية " للكاتب الروماني شيشرون، اقتنيته من معرض القاهرة للكتاب . كتاب شيشرون كما تخبرنا مصادر الفكر الروماني يعد من اهم المحاورات في الفكر السياسي القديم بعد كتاب افلاطون " الجمهورية " . لكني استغربت للاسف من تعليق كتبت صاحبته تقول فيه:" انك لم تفهم شيئا على الاطلاق " وتضيف ان السيد" شيشرون عالم اخر،، لا اتصور انك تفقه ما يتكلم "، مثلما يقول البعض بالعامية " هذا مو اكلك " .. وفرحت جدا لان هناك من سيشرح لي افكار السيد شيشرون وينير بصيرتي، فانا قرأت بعض كتبه المترجمة الى العربية وفي مكتبتي احتفظ ببعض المؤلفات له وعنه، وربما هذه القراءات كانت خاطئة، وانتظرت ان تشير لنا صاحبة التعليق الى شيشرون الحقيقي الذي غاب عنا، فلم اجد منها سوى تعليقات تحمل روحا عدائية . اين هو شيشرون ياسيدتي ؟ .. كان الجواب في وادٍ آخر حيث اخبرتني مشكورة ان عليّ ان اترك الكتابة ومختارات الكتب واتفرغ للقراءة لكي اتعرف على سقراط جيدا .. ما علاقة سقراط بالامر .. المسألة محيرة حقا
نعود للفيلسوف الروماني "مرقس توليوس" الذي يعرف باسم شيشرون، ولد عام 106 ق.م في روما لأسرة ميسورة، كان جده رئيساً للحزب المحافظ في مسقط رأسه، أما أبوه فكان محباً للثقافة والفنون، وفارس في سلاح الفرسان الروماني، نشأ شيشرون عاشقاً للكتب التي كان يجدها في كل ركن من أركان البيت، قرأ أفلاطون وسقراط، واستهوته أفكار ديوجين، درس الأدب والقانون ليعمل محامياً، وقد تدرّج في المناصب فعمل قنصلاً لبلاده ثم عين والياً على مدينة قليقلة، وعند اندلاع المعارك بين يوليوس قيصر وبومبيوس، رأى فيها نذير شؤوم على النظام الديمقراطي الروماني، وقد وقف الى جانب بومبيوس الذي خسر الحرب مما اضطر شيشرون أن يعتزل العالم وينصرف الى القراءة والدرس، كان شيشرون يحب ابنته جداً، وحين ماتت حزن عليها حزناً شديداً، وعبر عن ذلك قائلاً: " إن القدر نجح في أن يسحقه سحقاً"، وقد وجد ضالته في الكتابة الفلسفية، وفي تلك الفترة كتب عدداً من أهم مؤلفاته، أبرزها كتاب الجمهورية والذي رأى فيه إن أنظمة الحكم الصالحة هي ثلاثة فقط، الملكية والارستقراطية والجمهورية، وهي نماذج كان يرى أن على روما أن تلتزم بها، لانها تحقق ثبات العدل الذي اعتبرة جزءاً من القانون الطبيعي للإنسان، وقد وجد شيشرون أن مهمته الأساسية أن يدخل الفلسفة الى روما فهي " الهبة الأكثر ثراء، والأكثر وفرة، والأكثر سمواً ورفعة، من الآلهة الخالدة لبني البشر " ..ولم تكن المهمة التي قام بها آنذاك سهلة إذ تنظر غالبية الناس الى الفلسفة بريبة وشك وكراهية . يدعي شيشرون إنه فيلسوف شكاك، أي إنه عضو من أعضاء تلك المدرسة الفلسفية التي تكمن أصولها في تعاليم سقراط، وقد اتخذت مؤلفات شيشرون من المحاورة شكلاً لها، فقد كان معجباً بأفلاطون: " الرجل الأكثر حكمة وتعليماً الذي انجبته اليونان " ..لقد رأى شيشرون مثلما رأى افلاطون من قبل أن المحاورة عملاً من أعمال الفن، وإنها سهلة بالنسبة للقارئ العادي، ونجد شيشرون يحاول من خلال محاوراته أن يؤكد ما هو مفيد ونافع من الناحية السياسية، وكان يشغله موضوع مهم: ما هو أفضل نظام سياسي ؟، لقد وجد شيشرون نفسه يحارب على جبهتين، ففي وجه أية محاولة لقيام نظام ديكتاتوري بكل ما يواكبه من مجازر ومآسي، فهو يرى أن النظام الجمهوري يحقق للجميع أن ياخذوا مكانتهم الحقيقية في المجتمع، ويضمن " حق كل مواطن شريف أن يساهم في الشؤون العامة "، وفي الوقت نفسه فإن شيشرون يقف بالضد من النظم الشعبوية التي تسلم مقاليدها الى " هيجان العامة أصحاب الصخب المرذول "، فهو يطالب بحزب " الناس الشرفاء "، الذين يتكون من " رجال صالحون، شجعان، مخلصون، وبفضل هذا المعيار الأخلاقي الصرف لايتم استبعاد أحد، " ولاتنفر نية طيبة، إن هذا هو الحلف المقدس "، ولهذا يدعو في كتابه الجمهورية الى إقامة نظام سياسي مقبول من الجميع اسماه " نظام الوسط العدل " المتسامح، وعدو كل صنوف الشطط والإفراط التي تخرج منها التقلبات، وهؤلاء يسميهم أعداء الجمهورية و " شيوخ الفرائس، وجباة المال المتعسفين "، ويعرض لنا شيشرون أيديولوجية تقوم على الحق والمنفعة في آن واحد، وقبل الفيلسوف جيرمي بينثام بألفي عام، سعى شيشرون الى أن يرفع بنيان السعادة على يد القانون والمنطق، أي أن يشرع السعادة في الكون، فمثلما آمن بينثام بأن من حق كل فرد أن يكون محمياً بالقانون، كان شيشرون يصر على أن التفكير بخير الآخرين هو الشيء الوحيد الذي يمكننا أخذه بعين الاعتبار للوصول الى السعادة، فهو يرى أن لاتعارض بين المنفعة العامة والمنافع الخاصة، وظل يعتقد أن يوليوس قيصر لم يكن إلا واهما وغير متبصر، حيث أعتقد بانه يستطيع أن يرضي مصلحته على حساب الجمهورية، وبالتالي فإن شيشرون يرى إن الحق والأخلاق والمصلحة الخاصة والمصلحة العامة هي أمور متطابقة أو مترابطة، فالانسانية متضامنة، ولهذا نجده يقر بالمساواة بين الشعوب، فالمجتمع الصحيح أو الدولة العادلة هي التي: " تجمع الناس الأخيار الذين لهم عادات أخلاقية متماثلة وتجمعهم المودة " وهو يضع الوطن في المكانة الاولى فهو " أكثر قدسية "، إلا انه لايرضى بالوطن من دون العدالة التي يجب أن تسوده .لقد حاول شيشرون مثلما فعل أفلاطون من قبله أن يقدم نموذجاً لنظام حكم عادل يعترف بالحقوق التي تربط مواطنيه بعضهم ببعض وبينهم وبين هذه الدولة، والدولة في مفهوم شيشرون هي جماعة معنوية من الأشخاص يملكون الدولة، غايتهم مصلحة الناس المشتركة، وإذا خرجت الدولة على قواعد الأخلاق، فتكون بذلك مستبدة وتحكم رعاياها بالقوة، فتفقد بذلك طابعها الحقيقي كدولة..
ويرى شيشرون ان الدولة جماعة معنوية، وانها تشبه المؤسسة العامة، حيث تكون العضوية فيها ملك عام لجميع مواطنيها ويترتب على ذلك نتائج ثلاث هي:
1- ان سلطة الدولة تنبثق من قوة الافراد اجمعين، ما دامت بقوانينها ملك للناس اجمعين .فالافراد يكونون بمثابة منظمة تحكم نفسها بنفسها، وتملك بالضرورة القوة اللازمة لحفظ كيانها واستمرارها في البقاء
2- ان استخدام القوة السياسية استخداما سليما وقانونيا، استخدام لقوة الناس مجتمعين ن والموظف الذي يستخدم هذه القوة، انما يعتمد على السلطة المخولة اليه من الناس والقانون .
3- ان الدولة بما فيها القانون، تخضع دائما للقانون السماوي وللقانون الاخلاقي او القانون الطبيعي العام، ذلك القانون العام الذي يسمو على القانون البشري الدنيوي
جلبت اراء شيشرون ومواقفه السياسية العداء له فتمت مطاردته ونفيه وفي النهاية تم القيض عليه وعندما تم حصاره قال:" لن أذهب لأبعد من ذلك: اقترب أيها الجندي المخضرم، وإذا كان بإمكانك على الأقل أن تفعل الكثير بشكل صحيح، فاقطع هذه العنق " وفي النهاية تم اعدامه .
يكتب شيشرون في احدى رسائله الى ابنه:" ولدي العزيز، على الرغم من ان مؤلفاتي الهمت الكثيرين حب القراءة والكتابة، إلا انني اخشى ألا تسترعي مؤلفاتي هذه انتباه اشخاص اخرين لانهم غير متعاطفين مع الفلسفة، ومن ثم إلا يقدروا الوقت والعمل الذين اخصصهما لها " –في الواجبات ترجمة باسل الزين اصدار دار الرافدين – ويبدو ان محنة شيشرون لا تزال متواصلة بدليل ما تعرض له المرحوم من هجوم صباح هذا اليوم .
اثارت كتابات واراء شيشرون جدلا كبيرا، حيث اعتبره البعض مثل الامريكي توماس جيفرسون " كواحد من عدد قليل من الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في تقليد "الحق العام"، ويقال ان رجال الثورة الفرنسية "كان معظمهم من الشباب الذين تغذوا على قراءة شيشرون في المدرسة، وأصبحوا متحمسين متحمسين للحرية" . في المقابل جلبت لخ كراهية البعض حيث اعتبره انجلز من "الأوغاد الأكثر احتقاراً في التاريخ"، لانه دافع عن نوع معين من انواع الجمهوريا
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية