قراءات نقدية

كاظم أبو جويدة: بين الوعظ والإمتاع.. التوازن الدراماتورجي في مسرحية "أنا والمهرج"

تأليف وإخراج: د. زينب عبد الأمير

تفكيك العنوان: طرح العنوان "أنا والمهرج" بنية لغوية بسيطة حملت ثراءً دلالياً، فالضمير "أنا" يضع الطفل المتلقي مباشرة في موضع البطولة محققاً تماهياً فورياً، والتعريف بـ"أل" في "المهرج" يخلق غموضاً مقصوداً: هل المهرج المذكور في العنوان هو مدعوس الحليف؟ أم فدعوس العدو؟ الواو تتأرجح بين المعية والمواجهة، وهذا يعكس بدقة الصراع الداخلي للطفل المدمن الذي لا يعرف بوضوح من حليفه الحقيقي، فالعنوان يحاكي البنية النفسية المشوشة حيث الحدود غائمة بين الضار والنافع، ولو سلمنا بتواضع قدرات أدم وضعفه أمام التكنلوجيا وعالم الألعاب الإلكترونية وأن الأنا هنا ليست أنا آدم إنما أنا الطفل المتفرج باختياره البقعة الضوئية الخضراء للقضاء على المهرج فدعوس بدلا منه، وهنا يتأكد أن نقل الفاعلية من آدم للجمهور هو قرار إخراجي جريء يحول العرض لمرآة، فآدم الصامت المتردد ليس شخصية ضعيفة بل "موضوع تأملي" يُتيح للأطفال رؤية أنفسهم فيه من الخارج وممارسة دور المُخلّص، والرسالة الضمنية: "تملك القوة لإنقاذ الآخرين، فكيف لا تستخدمها لإنقاذ نفسك؟" - وهي رسالة عميقة تعتمد التأثير غير المباشر.

بنية العرض المسرحي:

تبدأ المسرحية بمشهد واقعي محكم يقدم آدم المدمن وهو يلعب بشراسة، تظهر على جسده حركات صاخبة متشنجة تعكس انعزالاً شديداً، يصرخ في وجه أمه، يرفض الطعام والنوم، ويعيش في عزلة تامة، وهذا المشهد يحمل قوة درامية تكثفت من واقعيته المحسوسة، والأم تخاطب الجمهور مباشرة معبّرة عن قلقها من تحول ابنها لكائن عدواني منعزل، وهذا الخطاب يجسد واقعاً معاشاً يخلق تعاطفاً فورياً من الجمهور، ويكسر الجدار الرابع منهجياً من خلال الأم التي تدعو الأطفال للمشاركة في البحث عن آدم، مستحضرة مفهوم بوال عن "المتفرج الممثل"، لكن هذا التفاعل يبقى محسوباً موجهاً، فالأطفال يجيبون على أسئلة مُعدة سلفاً ويصوتون لخيارات محددة دون قدرة حقيقية على تغيير مسار الأحداث، فالتفاعل طقوسي يمنح وهم المشاركة ضمن سيناريو مغلق.

مع ذلك، يمكن الدفاع عن هذا النموذج من منظور مسرح الطفل التربوي، فالتفاعل الحي المستمر يخلق فضاءً مشاركاتياً آمناً يحقق هدفين: كسر حاجز الخوف من المشاركة لدى الطفل، وتحقيق تطهير أرسطي متحكم به حيث الطفل يعيش انفعالات الخوف والفرح ضمن إطار آمن لا يُعرّضه لصدمات غير محسوبة، وهذه السيطرة على المسار العاطفي هندسة بيداغوجية تراعي النضج النفسي للطفل وتضمن خروجه بدرس واضح ومشاعر إيجابية.

يتكرر كسر الجدار مع دخول الجنية على عزلة آدم والتي تمثل الانتقال الفانتازي، فتقدم نفسها للجمهور معلنة أنها أتت لمساعدة آدم، وحين يسألها آدم "من أنتِ؟" تجيب "أنا كائن صنعه خيالك!"، وهنا إشكالية: العرض لا يقدم تبريراً سردياً مباشراً لهذه "الصناعة"، فظهورها مفاجئ، لكن هذا التناقض يمكن قراءته كاختيار ذكي يعكس عمقاً سيكولوجياً، فمن منظورٍ "يونغيٍّ"، نكتشف أن الجنية ليست تجسيداً للوعي السطحي لآدم بل لـ"الذات العليا" المكبوتة تحت طبقات الإدمان، فكل طفل حتى المدمن يحمل في أعماقه بذرة الخير المدفونة، وظهور الجنية "من الخيال" يعني من اللاوعي الجمعي الذي يحتفظ بالأنماط الأصلية للخير والجمال، وفنياً هذا يخدم الوظيفة التربوية: بدلاً من أن تأتي الجنية كقوة خارجية تفرض الأخلاق، تأتي كصوت داخلي نائم يحتاج للإيقاظ، وهذا يمنح رسالة تمكينية مفادها: الحل داخلك.

حين تحول الجنية دمية آدم حسب رغبته وطلبه إلى مدعوس المهرج الحقيقي، تظهر أمامنا مفارقة تستحق التحليل: مدعوس كان قد ظهر فعلياً في الاستهلال الغنائي قبل مشهد الأم، حيث قدّم أغنية تعلن بصراحة عن الوظيفة التربوية للعرض، مما يكشف للجمهور منذ البداية طبيعة الصراع الثنائي ويُفقد العرض عنصر المفاجأة الدرامية، ومدعوس يمثل الخير المطلق، يحمل صفات مثالية لا تشوبها عيوب أو تناقضات أو ضعف إنساني، وهذا الثبات الأيديولوجي يُفرغ الشخصية من ديناميتها الدرامية ويحولها لـ"قناع أخلاقي" ثابت، لكن من منظور المسرح التربوي الوظيفي، هذه البساطة استراتيجية بيداغوجية مشروعة، فمدعوس "خيال موظَّف" يقدم للطفل بوصلة أخلاقية محددة تساعده على التمييز.2199 goyada

يظهر فدعوس بعد تشكّل مدعوس، لكن ليس عبر سحر الجنية بل استجابة لرغبة آدم العميقة في المهرج المقاتل، وهذا الظهور يكشف قدرة سيكولوجية استثنائية لدى آدم: إذا كانت الجنية تحتاج لطقوس وعصا سحرية، فإن آدم يستطيع تجسيد فدعوس من الشاشة للواقع بمجرد الرغبة المفرطة، وهذه القدرة نتاج اندماجه المَرَضي مع العالم الافتراضي، والثنائية بين مدعوس وفدعوس تستدعي المانوية الفلسفية التي قسمت الكون لقوتين متصارعتين دون منطقة رمادية، لكن من منظور ما بعد حداثوي، يمكن تبرير هذه البساطة باعتبار أن كليهما كائنات افتراضية في وعي آدم، إنهما "تمثيلات رمزية" لصراع داخلي، والتبسيط المانوي ليس عيباً بل خيار جمالي يعكس طبيعة الصراع الثنائي في العالم الافتراضي نفسه حيث الألعاب تقوم على ثنائيات حادة: فوز/خسارة، بطل/وحش.

اللحظة المحورية تحدث حين يُدخِل مدعوسُ آدمَ للصندوق السحري، وهنا القوة البصرية والإبداع السينوغرافي الحقيقي، لكن هنا أيضاً المفارقة الدراماتورجية الأكبر: الصندوق السحري بعوالمه الفانتازية المبهرة هو في جوهره عالم افتراضي آخر لا يختلف جذرياً في طبيعته البصرية عن عالم الألعاب الإلكترونية، فالمسرحية تحارب الافتراضي بافتراضي أجمل وأخلاقي، لكنه يبقى خيالياً لا ينتمي للواقع الذي سيواجهه آدم فور خروجه، ويرى الجمهور داخل الصندوق دمى ملونة ترقص، كفوفاً وأصباغاً للرسم، منطاداً يطير، أطفالاً يلعبون بالكرة، حركات بهلوانية، وهذه المشاهد تقدم بدائل بصرية جذابة لكنها تبقى مشاهد خيالية داخل صندوق سحري لا تتحول لخطة عملية واقعية.

لكن يمكن الدفاع أيضاً عن هذا الاختيار من منظور تربوي تدريجي: عالم افتراضي خالٍ من العنف يظل أفضل من عالم مشبع بالدم، فثمة تغيير نوعي نحو الأحسن حتى لو لم يصل للمثالية الواقعية، والمسرحية لا تقدم الحل الجذري النهائي بل خطوة وسيطة معقولة: إدانة واضحة للعنف الرقمي عبر بديل بصري جمالي أخلاقي، فإذا كان الطفل سيبقى منجذباً للعوالم الخيالية حتماً - وهذا واقع العصر الرقمي - فإن توجيهه نحو فانتازيا إبداعية جميلة تحتفي بالفن والرياضة واللعب الجماعي يبقى إنجازاً تربوياً مشروعاً، وهنا نجحت سينوغرافيا العرض بامتياز في تصوير هذا العالم المثالي عبر عناصر مبتكرة: الصندوق السحري كفضاء تحولي، الدمى الملونة المتحركة، الإضاءة الديناميكية التي ترسم فضاءات متعددة، الموسيقى المعبرة، والحركة المسرحية التي تحول الخشبة للوحة حية.

دخول آدم لعوالم مسرح الظل والضوء وما يسمى بالمسرح الأسود وأدواته المنطاد والكرات والدمى وانبهاره بها يمثل لحظة عبور من الواقع المسطح للعمق الخيالي، ومن الشاشة الباردة للفضاء الحي، ومن الإدمان السلبي للانبهار الخلاق، لكن ظهور الرجل الضخم بسلاحه الفتاك كبطل اللعبة الإلكترونية يخلق توتراً دراميًا مركباً، فالعمل يستثمر بذكاء في معرفة آدم المسبقة بالرجل الضخم كشخصية مألوفة، مما يخلق جسر تماهٍ فوري، فالطفل في الصالة يرى نفسه في آدم الذي يرى بطله الإلكتروني يتجسد حياً، وهذا التجسد لحظة سحرية تُحقق ما لا تستطيع الشاشة تحقيقه: تحويل الصورة الرقمية لحضور مادي ملموس، لكن تحويل الرجل الضخم من بطل في اللعبة لشرير في المسرح يمثل عملية نقدية جريئة تُزعزع يقينيات الطفل حول البطولة والقوة، فالسلاح الذي كان مصدر إعجاب يتحول لتهديد حقيقي، والقوة الغاشمة تصبح عنفاً مُداناً.

وانبهار آدم بالعوالم الجمالية المتضمنة تفاصيل الصندوق استعارة بصرية عميقة للانتقال من أحادية الشاشة لتعددية الحضور المسرحي، فالظل والضوء يخلقان عمقاً وتدرجاً يفتقده العالم الرقمي المسطح، والمنطاد كرمز للارتفاع يُجسد تحرر الخيال من قيود البرمجة، وهذا الانبهار لحظة تحول معرفي يكتشف فيها آدم أن هناك عوالم أغنى مما حبس نفسه فيها، وهذا جوهر الرسالة التربوية دون وعظية مباشرة، فالعرض المسرحي أنا والمهرج لا يقول "لا تلعب" بل يقول "انظر كم العالم أوسع وأجمل"، والإشكالية الدرامية تكمن في أن العمل يستخدم نفس الشخصية (الرجل الضخم) التي أدمن آدم عليها ليقدم نقداً للإدمان ذاته، وهذه استراتيجية جدلية ذكية تُشبه استخدام السم لصناعة الترياق، فبدلاً من تجاهل عالم الألعاب أو إنكار جاذبيته، يستدعيه العمل للخشبة ليُعيد تأويله وليكشف بُعده العنيف والفراغ الأخلاقي خلف البطولة الزائفة.

دخول الجنية على ذروة الصراع بين فدعوس ومدعوس والرجل الضخم حول الصندوق السحري يطرح إشكالية نقدية، فمن جهة يمكن اعتباره كسراً للإيهام الدرامي يُفرغ الصراع من ديناميكيته الداخلية، لكن من جهة أخرى فإن هذا التدخل يكشف وعياً فنياً عميقاً بأن الصراع الدرامي في مسرح الطفل لا يكتمل بانتصار بطل على الشاشة بل بتحويل المتفرج نفسه لفاعل أخلاقي، فالجنية ليست حلاً سحرياً يُنهي الصراع من الخارج بل آلية درامية تُوسّع حدود الصراع ليشمل الجمهور، وهنا يتحول السؤال مِنْ "مَنْ سينتصر؟" إلى "لِمَنْ ستنتصر أنت؟"، وهذا انتقال نوعي من الفرجة للمسؤولية.

ودعوة الأطفال للتصويت بين البقعة الخضراء (مدعوس) والحمراء (فدعوس) تحمل إشكالية مزدوجة: فهي من ناحية تُقدم خياراً محسوماً سلفاً عبر الترميز اللوني، مما يجعل التصويت أقرب لتمثيلية ديمقراطية، لكنها من ناحية أخرى تُدرّب الطفل على ممارسة الانحياز الأخلاقي في لحظة حاسمة، فاللحظة التي يرفع فيها يده ليست لحظة معرفة نظرية بل لحظة فعل إرادي يتحول فيها من مراقب سلبي لمشارك فاعل، وهذا جوهر التجربة التربوية حتى لو كانت النتيجة محسومة، و"تحضير" الجنية للأطفال لاختيار البقعة الخضراء يمكن فهمه كبناء للثقة الجماعية وتعزيز لفكرة أن القيم الصحيحة تنتصر بالتضامن الجماعي لا بالبطولة الفردية، فالطفل لا يتعلم فقط "اختر الخير" بل يتعلم "نحن معاً أقوى من الشر". والطفل المتلقي الذي يرى مدعوس ينتصر بعد أن صوّت له لا يشعر أنه شاهد انتصاراً بل أنه ساهم فيه، وهذا الفرق الجوهري يحول المشهد من درس أخلاقي جاف لتجربة تمكينية تمنح الطفل إحساساً بالفاعلية، وبذلك فإن المشهد يحقق توتراً خلاقاً بين التوجيه والتمكين، وبين الوضوح الأخلاقي والمشاركة الحية، وهذا التوتر يجعله نموذجاً جديراً بالتأمل النقدي. وهنا يكمن التوازن في احترام ذكاء الطفل ومنحه الأدوات المناسبة لمرحلته العمرية،

ما بعد مشهد الصندوق، تجلى تشظي آدم وتذبذبه بين فدعوس ومدعوس وهذا ما يمكن قراءته من زاويتين: إما كعمق نفسي واقعي يعكس طبيعة الإدمان المعقدة وصعوبة التحرر منه، وإما كارتباك دراماتورجي، ومن الزاوية الإيجابية، هذا التشظي يتجاوز التبسيط الساذج ويعكس حقيقة نفسية عميقة: الإدمان ليس حالة ثابتة يمكن الخروج منها بقرار واحد، بل صراع طويل مليء بالانتكاسات، فعلم نفس الإدمان يؤكد أن التعافي مسار متعرج وليس خطياً، لكن من منظور بريختي، الهدف ليس تقديم حل نهائي مغلق يريح الجمهور، بل إثارة الوعي النقدي وترك السؤال مفتوحاً ليواصل الطفل التفكير، فالتذبذب اختيار تربوي شجاع يعلّم الطفل أن التغيير صعب ويحتاج مثابرة، وإخراجياً هذا البناء المتشظي يحوّل العرض من وعظ مباشر إلى مرآة صادقة تعكس للطفل صراعه الحقيقي، مما يمنح المسرحية مصداقية وجودية تفوق النهايات السعيدة المصطنعة.2200 goyda

النهاية كانت صدمة لآدم "كان ذلك حلماً"، وأثارت تساؤلات جوهرية لكنها حملت إمكانيات دفاعية فلسفية وفنية عميقة، فالإشكال الأول: إلغاء فاعلية آدم، لكن من منظور يونغي، الحلم ليس مجرد وهم بل رسالة من اللاوعي للوعي، فالحلم يعمل كـ"بروفة نفسية" تهيئ آدم للتغيير، والإشكال الثاني: الحل بالقوة من الأم بتخلصها من الشاشة والجويستك وبقية أدوات اللعبة الإلكترونية، لكن من منظور تربوي واقعي، الطفل المدمن لا يملك القدرة الإرادية الكاملة على اتخاذ قرار التوقف لأن الإدمان يعطّل مراكز اتخاذ القرار العقلاني، فالتدخل الخارجي من الأهل ليس قمعاً بل حماية ضرورية.

والإشكال الثالث: عبثية العرض، فإذا كان كل شيء حلماً، ما فائدة ساعة من الصراع؟ لكن من منظور بريختي، قيمة العرض ليست في تغيير آدم بل في تغيير الطفل المتفرج، فالحلم داخل المسرحية موجه للجمهور، والطفل الجالس في الصالة هو من عاش الصراع ورأى عواقب الإدمان وشعر بجمال البدائل، فالمسرح "حلم جماعي" للجمهور، والاستيقاظ منه العودة للواقع محملاً بالوعي الجديد، والإشكال الرابع: التناقض المنطقي، فكيف يدخل مدعوس والجنية في الواقع بعد الاستيقاظ إذا كانوا من الحلم؟ لكن هذا التداخل بين الحلم والواقع ليس ارتباكاً بل اختيار سريالي واعٍ يعكس فلسفة ما بعد حداثية: الحدود بين الخيال والواقع في حياة الطفل المعاصر باتت مائعة، والمسرحية تعكس هذا التداخل عمداً.

في البناء الأرسطي، لحظة الوعي ينبغي أن تكون المحرك للقرار الحاسم، لكن هنا المشكلة حُلت أولاً ثم يأتي وعي آدم كتعليق لاحق، لكن من منظور تربوي نفسي، الطفل المدمن لا يملك القدرة على الوعي الذاتي الكامل أثناء الإدمان، فالوعي يأتي بعد الانقطاع القسري وليس قبله، وهذا واقعي تماماً، والحل الوسطي في النهاية حين تعد الأم آدم بإعادة الألعاب الإلكترونية لاحقاً بشرط الاعتدال، ومن منظور التربية الواقعية، الحل الوسطي أكثر حكمة من الرفض المطلق، فالمسرحية لا تدعو لإلغاء التكنولوجيا بل لتنظيمها، وهذا موقف تربوي ناضج يعترف بأن العالم الرقمي واقع لا مفر منه، فالنهاية تعلّم التوازن لا الهروب.

السينوغرافيا:

الديكور:

وهو من تصميم وتنفيذ محمد النقاش... من منظور سينوغرافي حداثوي يكشف عرض "أنا والمهرج" عن اختيارات بصرية واضحة تميل نحو الوضوح الأيقوني والتبسيط الدلالي، لكن هذا الاختيار حين يُقرأ ضمن سياق مسرح الطفل يتحول من "نقص" فني إلى "حكمة" إخراجية، إذ الوضوح ليس تبسيطاً مُخلاً بل لغة بصرية دقيقة تتحدث بفعالية للطفل دون إرباك رمزي، فالباكغراوند بشاشة الألعاب الإلكترونية والجدار بألوانه الهادئة يُشكل وحدة بصرية متجانسة، والشاشة تُمثل عتبة تقنية تربط عالم الطفل الرقمي بالمسرح التقليدي مُحدثة تهجيناً بصرياً يقول: "نعرف عالمك لكننا ندعوك لتجاوزه"، والمنضدة والدولاب تُرسخ الفضاء في اليومي المعتاد قبل انفتاحه على الفانتازيا، وهذا التدرج ضروري للانتقال السلس. والصندوق السحري كعنصر محوري يُجسد الأرخيتايب، وهو النموذج النفسي الأولي المشترك عبر الثقافات الذي يظهر في الأساطير والحكايات كالخزانة السحرية والبوابة المؤدية لعالم آخر، ويعمل كـ"رحم بصري" يحتوي عوالم مبهرة: دمى ترقص، منطاد يطير، أطفال يلعبون، حركات بهلوانية، رسومات ملونة، وهذا التنوع يخلق تبايناً مع الفضاء الهادئ، والمفارقة (الصغير يحتوي الكبير) جوهر السحر الذي يُعلم أن الخيال أوسع من أي إطار مادي، والدمى والمنطاد عناصر متحركة تُحول الفضاء لديناميكي نابض، فالحركة لغة بصرية تُخاطب الطفل بلغته الحركية، والمنطاد استعارة للتحرر من الجاذبية يخلق بُعداً عمودياً يُوسع الإدراك البصري، والحركات البهلوانية والرسومات تُشكل "السينوغرافيا الأدائية" حيث الجسد عنصر تشكيلي يرسم الفضاء لحظياً.

الأزياء:

وهي من تصميم وتنفيذ زياد العذاري... تتبع الأزياء نهج الوضوح الأيقوني أيضاً، فكل شخصية تحمل زيّاً يُترجم هويتها الأخلاقية بصرياً، وهذا ليس فقراً بل استراتيجية تُدرك أن الطفل يقرأ الشخصية من مظهرها أولاً، فالمهرج بألوانه الزاهية يُجسد الفرح، وفدعوس بألوان قاتمة (الأحمر) وتفاصيل حادة يُشير لخطورته مع الاحتفاظ بلون قطعة القماش الخضراء الفاتحة ليوازن حقيقته كمهرج بريء أصلاً في المأثور الطفولي، والرجل الضخم بطل اللعبة بزيّه المستوحى من الألعاب الإلكترونية يحمل تفاصيل تقنية وعضلات مبالغة تُجسد القوة الغاشمة وتربط بذكاء بين العالم الافتراضي والمسرحي، وآدم يرتدي زيّاً واقعياً قريباً من ملابس الأطفال اليومية يخلق تماهياً مباشراً، والجنية بزيّها البرّاق والأجنحة اللامعة والألوان الفاتحة تُجسد السلطة السحرية الخيّرة وتخلق هالة بصرية تُميزها كوسيط بين العالمين. كذلك زي الأم كان متسقاً مع حركتها الدؤوبة كربة بيت وهي ترتدي الصدرية المميزة دليل تنظيمها فضاء البيت بدقة وحرص تعكسان نشاطها للوصول لحالة متفردة لبيت جميل.

الإضاءة:

وهي من تصميم وتنفيذ علي المطيري لعرض بغداد، وعلي عادل السعيدي لعرض الكويت... تعمل الإضاءة كعنصر سينوغرافي حيوي يُشارك في خلق العوالم وتحديد المناخات الانفعالية، ففي العالم الواقعي لـ (آدم والأم) تكون الإضاءة طبيعية هادئة تُحاكي ضوء البيت العادي مما يُرسخ الواقعية، بينما عند انفتاح الصندوق السحري تتحول لألوان متعددة زاهية متغيرة تخلق جواً سحرياً وتُعزز الانبهار، والإضاءة تستخدم التباين بين الظل والضوء لخلق عمق بصري وإبراز عناصر معينة، فالصندوق قد يُضاء من الداخل ليبدو كمصدر نور ذاتي يشع سحراً، والشخصيات الشريرة قد تُضاء بزوايا حادة أو ألوان باردة قاتمة تُعزز خطورتها، بينما الشخصيات الخيّرة تُضاء بضوء دافئ ناعم، والإضاءة تُستخدم للانتقالات بين المشاهد وفي لحظات التوتر قد تومض أو تتسارع لخلق قلق بصري.

الموسيقى:

وهي من نتاجات المايسترو علي خصاف... الموسيقى في "أنا والمهرج" تتجاوز المرافقة الصوتية للحدث الدرامي لتصبح طبقة انفعالية حاسمة تُوجه مشاعر الطفل المتفرج وتُضخم الأثر الدرامي وتُشارك في صناعة المعنى، وفي مسرح الطفل تكتسب الموسيقى أهمية مضاعفة لأن الطفل يستجيب للإيقاع واللحن والنغمة بشكل غريزي وفوري أسرع بكثير من استجابته للكلمة المنطوقة أو الحوار المنطقي، فالطفل كائن حسي حركي يعيش في جسده قبل عقله، والموسيقى تخاطب هذا الجسد مباشرة.

في لحظات التوتر والخطر حين يظهر فدعوس والرجل الضخم (بطل اللعبة الإلكترونية) تصبح الموسيقى متسارعة حادة ذات إيقاعات قوية متقطعة ونغمات صاخبة تُحاكي صوت الانفجارات وتخلق جواً من القلق، مما يجعل الطفل يشعر بالخطر قبل أن يرى فدعوس يدمر، فالموسيقى تعمل كإنذار مبكر يُنبئ بقدوم الشر. وفي لحظات الانبهار حين ينفتح الصندوق السحري تتحول الموسيقى إلى ألحان حالمة خفيفة شفافة تطفو في الهواء كأنها تأتي من عالم آخر، مما يساعد الطفل على الانتقال النفسي من عالم آدم المشحون بالتوتر إلى عالم مدعوس الفانتازي. وفي لحظات المرح واللعب تكون الموسيقى راقصة مبهجة ذات إيقاعات منتظمة واضحة سهلة الحفظ والترديد تدفع الجسد للحركة.

الأغاني صُممت بحرفية واضحة تعكس عوالم الطفولة الجميلة وتحمل رسائل تربوية مباشرة مغلفة بألحان جذابة سهلة الحفظ، فالأغنية تتحول إلى لحظة درامية مكثفة تُلخص الرسالة وتُرسخها في ذاكرة الطفل. الرقصات تُشكل السينوغرافيا الأدائية الحية حيث الجسد يتحول إلى عنصر تشكيلي متحرك يرسم الفضاء المسرحي ويُجسد القيم عبر الأداء الحي دون خطابة لفظية.

التمثيل:

يتطلب التمثيل في مسرح الطفل معادلة فنية دقيقة: أداءً مُضخّماً دون اصطناع، واضحاً دون تسطيح، صادقاً دون واقعية فوتوغرافية، مُبالغاً دون كاريكاتورية مُفرطة، ويُظهر عرض "أنا والمهرج" وعياً واضحاً بهذه المعادلة الصعبة عبر أداء ممثليه الخمسة الذين يُشكلون معاً نسيجاً تمثيلياً متنوعاً يتراوح بين الواقعية النفسية والأداء الجسدي الصامت والحضور الأثيري الفانتازي.

آدم (سجاد الأوسي): سجاد الأوسي يحمل ثقل الشخصية المحورية التي تدور حولها الحبكة بأكملها، وأداؤه يُجسد رحلة نفسية معقدة من الانغلاق الإدماني إلى الانفتاح الواعي. نجح الأوسي في بناء شخصية مركبة ذات طبقات نفسية واضحة عبر اختيارات جسدية ولفظية دقيقة تُفصح عن استلاب آدم وتشتته الذهني وانعزاله الاجتماعي. الحركات التوحدية الانعزالية التي يؤديها في المشاهد الأولى، حيث يجلس منكمشاً على نفسه، عيناه معلقتان بشاشة وهمية، أصابعه تتحرك بشكل ميكانيكي متكرر وهي تضغط أزرار جهاز التحكم (الجويستك) ، كل هذه التفاصيل الجسدية الدقيقة تُفصح عن قدرات تقمصية عالية وفهم عميق للحالة النفسية للشخصية. في لحظة التحول، حين يدخل آدم الصندوق السحري ويواجه فدعوس ومدعوس، ليظهر بعدها وقد يتغير أداء الأوسي تدريجياً بشكل مدروس، فالجسد ينفتح تدريجياً، الكتفان ينخفضان، الرأس يرتفع، العينان تتسعان، الصوت يكتسب طاقة وحضوراً، وهذا التدرج في التحول يُظهر وعياً دراماتورجياً بأن التغيير النفسي الحقيقي يمر بمراحل انتقالية تدريجية، وهو ما يمنح الشخصية مصداقية نفسية أعمق.

الأم (داليا طلال): داليا طلال قدمت شخصية الأم كنقطة ارتكاز واقعية في عرض مُحلّق نحو الفانتازيا، فهي تحمل عبء الحوار الواقعي الذي يُرسّخ العرض في اليومي المعاش وتُمثل صوت الواقع والمسؤولية والحب الأمومي والقلق الصادق على مستقبل الطفل. أداء طلال يتميز بالصدق الانفعالي والواقعية النفسية دون مبالغة ميلودرامية، فهي تُعبر عن قلقها بنبرة صوت حانية لكن حازمة، بنظرات عميقة مليئة بالحب والخوف والأمل. تشكيل جسدها وتفاصيله الدقيقة أعطت صدقاً حقيقياً لشخصيتها وجعلتها تبدو كأم حقيقية. طلال تُحقق توازناً دقيقاً بين الوضوح المسرحي المطلوب والصدق الواقعي الضروري، وتُنقذ الشخصية من فخ الوعظ المباشر عبر منحها دفئاً إنسانياً وحباً حقيقياً يجعل النصيحة تبدو صادرة عن قلب خائف محب.

الجنية: في عرض العراق (هديل سعد) في عرض الكويت (إسراء رفعت): الجنية تؤدي بأسلوب أثيري خفيف يُحاكي طبيعة الشخصية الفانتازية التي تنتمي لعالم السحر والخيال، وأداؤها يتميز بصوت رقيق شفاف ذي نبرة موسيقية حالمة، وحركات انسيابية ناعمة تُحاكي الطيران والانزلاق في الهواء، ووضوح لفظي عالٍ بصوت مسرحي محترم يصل لكل زوايا الصالة دون أن يفقد رقته السحرية. الصوت المسرحي الذي تمتلكه الممثلتين هديل سعد وإسراء رفعت يُظهر تدريباً صوتياً جيداً على الإلقاء، فهما تُخرجان الحروف من مخارجها الصحيحة، تُوضحان الكلمات دون تكلف، تُنوعان في النبرات والإيقاعات. الحركات الانسيابية التي تؤديانها، حيث تتحرك بخفة على أطراف أصابع قدميها، ترفع يديها بنعومة كأنها أجنحة غير مرئية، كلها تفاصيل تُساهم في خلق الإحساس بأنها كائن خفيف لا تقيده قوانين الجاذبية العادية.

المُهَرِّجان فدعوس (أحمد إبراهيم) ومدعوس في عرض العراق (أحمد جميل) وعرض الكويت (نور الدين إسماعيل): لا ينطقان كلمة واحدة طوال العرض بل يعتمدان كلياً على الأداء الجسدي والإيمائي، وهذا اختيار فني جريء يُعيد الاعتبار للتمثيل الصامت كلغة مسرحية خالصة. المهرج يُترجم كل انفعال بحركات مبالغة واضحة وتعبيرات وجه مُضخّمة وطاقة جسدية عالية.

فدعوس (أحمد إبراهيم) يُجسد العنف والعدوانية بلغة جسدية حادة متشنجة متقطعة، فحركاته سريعة مفاجئة عنيفة، يقفز بشكل مباغت، يُطلق لكمات وهمية، يُصوّب أسلحة خيالية، ووجهه يحمل تعبيرات مخيفة تُجسد كل ما هو سلبي وخطر في عالم الألعاب القتالية. مدعوس يُمثل النقيض التام، فحركاته ناعمة انسيابية مرحة، يقفز بخفة وبهجة، يرقص بحرية، يُحضن الأطفال، ووجهه مشرق مبتسم يُشع طاقة إيجابية. التباين الحاد بين أسلوبي الأداء الجسدي للمهرجين يخلق خطاباً بصرياً واضحاً لا يحتاج لشرح لفظي.

حصر الحوارات اللفظية في الأم وآدم والجنية فقط يخلق توازناً دراماتورجياً ذكياً بين الكلمة والصمت، بين اللغة اللفظية واللغة الجسدية، وهذا التنوع يُناسب الطبيعة المتعددة الحواس للطفل المتفرج. في الختام، التمثيل في "أنا والمهرج" يُقدم نموذجاً متنوعاً يجمع بين الواقعية النفسية والأداء الجسدي المُضخّم والحضور الأثيري الفانتازي، مُظهراً وعياً فنياً بخصوصية مسرح الطفل ومتطلباته الجمالية والتربوية.

النص:

وهو للمؤلفة الدكتورة زينب عبد الأمير حقق معادلة البساطة اللغوية والعمق المضموني من خلال لغة مباشرة تتجنب التعقيدات لكنها لا تسقط في السذاجة، فالحوارات قصيرة مُركزة تحمل فكرة واحدة واضحة، والثيمة حول إدمان الألعاب تُطرح بذكاء دون وعظ، فالنص لا يقول "لا تلعب" بل يُري أن هناك عوالم أجمل خارج الشاشة، والصراع بين الخير والشر يُضيف طبقة من خلال الرجل الضخم الذي هو بطل في اللعبة لكنه شرير في الواقع، وهذه الازدواجية تُعلّم درساً دقيقاً حول نسبية البطولة، والنص يستخدم التكرار كتقنية تربوية تُساعد على الحفظ والمشاركة، واللغة تستخدم الصور البسيطة فبدلاً من التجريد تُجسد الأفكار في مواقف ملموسة.

الإخراج:

وهو أيضا للدكتورة زينب عبد الأمير جمع كل العناصر وحولها لعرض متماسك، كما واجه تحدي الحفاظ على الحيوية دون فوضى، وعلى وضوح الرسالة دون وعظ، وقد نجح في هذا التوازن من خلال رؤية تُدرك أن الإيقاع هو كل شيء، فالإيقاع السريع في الحركة والبطيء في الانبهار، وهذا التنوع يخلق تموجاً انفعالياً يُحافظ على التنبه، وقد أظهرت الدكتورة زينب وعياً بجغرافيا الخشبة واستخدام المستويات المختلفة لخلق عمق وحركة ديناميكية، مما ساعدها على إدارة اللحظات التفاعلية بضبط دقيق للتحضير للحظة التصويت وتوجيه الأطفال بلطف، وهذا فن التوجيه الخفي، والرؤية الإخراجية تُظهر فهماً للسينوغرافيا الشاملة التي تجمع كل العناصر في منظومة متكاملة، وقد وازنت المخرجة بين الترفيه والتعليم دون تضحية بجماليات العرض المتعارفة مسرحياً.

الخاتمة:

عرض "أنا والمهرج" يُمثل نموذجاً ناضجاً لمسرح الطفل العربي يجمع بين الوعي الفني والمسؤولية التربوية دون وعظ مباشر، فيُقدم ثيمة معاصرة حول إدمان الألعاب الإلكترونية بلغة الدعوة للبديل الأجمل عبر دروس متشابكة: خطورة الإدمان، نسبية البطولة، قيمة الخيال والمسرح كبدائل صحية، التضامن الجماعي، والاختيار الأخلاقي، وهذه الدروس متداخلة في نسيج درامي تُستوعب عاطفياً.

القيمة الفنية تكمن في وعيه بلغة مسرح الطفل، فهو يُطور خطاباً يجمع بين الوضوح والغنى دون محاكاة مسرح الكبار أو استخفاف بذكاء الطفل، وينجح في خلق تجربة جمالية متكاملة تُخاطب كل حواسه. العرض يُقدم نموذجاً لمسرح طفل عربي يوازن بين الحداثة والتراث، التقنية والحضور الحي، محققاً فناً راقياً وتربية ناجعة.

اختار العرض الوضوح التربوي على التعقيد الدراماتورجي بوعي، ونجح في طرح المشكلة بجرأة مع تقديم اتجاه عام للحل، تاركاً للأسرة مهمة التطبيق الواقعي. السؤال المفتوح: كيف سيقضي آدم صيفه؟ ليس فشلاً دراماتورجياً بل دعوة حكيمة للجمهور ليكمل ما بدأه المسرح، مما يفتح حواراً نقدياً مثمراً حول قيمة العمل وخياراته الفنية.

***

مقالة نقدية بقلم كاظم أبو جويدة

في المثقف اليوم