قراءة في كتاب
مرتضى السلامي: في مرآة الآخر.. كيف يرى الفكر العربي ذاته والعالم؟

مقدمة: "الرحلة" في اكتشاف الذات والآخر وتحولات الوعي
بعد أن تتبعنا في مقالاتنا السابقة مسار خطابي الأصالة والحداثة في الفكر العربي كما حللهما الدكتور عبد الإله بلقزيز، نغوص اليوم في فصلٍ محوريٍّ من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، وهو الفصل الثالث المعنون "جدليات الآخر والأنا في الوعي العربي المعاصر". هذا الفصل يمثل، في تقديري، القلب النابض للإشكالية النظرية التي يعالجها الكتاب، حيث يقدم لنا المؤلف إطاراً مفاهيمياً لفهم كيف تشكل وعي الذات العربية (الأنا) في علاقتها المتوترة والمعقدة بالآخر (الغرب)، وكيف أثرت هذه الجدلية على مجمل الإنتاج الفكري والسياسي.
كيف أدرك الوعي العربي "الآخر" المختلف؟ يرى بلقزيز أن "الرحلة" كانت تاريخياً، في العصر الوسيط كما في العصر الحديث، هي المناسبة الأهم لاكتشاف هذا الآخر والتعرف عليه في عقر داره، لا كأقلية تعيش في كنف المجتمع الإسلامي، بل كصاحب سيادة. هذه المعاينة المباشرة هي التي ساهمت في إنتاج "مفهوم الآخر" في وعينا.
ومن اللافت هنا المقارنة التي يعقدها المؤلف بين رحالة العصر الوسيط ورحالة القرن التاسع عشر. فبينما كان "الرحالة العرب والمسلمون القدامى أقل شعوراً بالدونية تجاه الآخر من رحالة القرن التاسع عشر"، ورغم انبهارهم أحياناً، كما عند البيروني، فإن هذا الانبهار "ما بَلَغَ يوماً حد الشعور بتفوق حضارته أو ثقافته على حضارة أو ثقافة المسلمين، ولا قادهم إلى الاعتقاد بوجوب اقتدائه وتقليده". أما "رحالة القرن التاسع عشر، ومثقفو هذه الفترة عموماً، فكانوا أكثر شعوراً بالنقص تجاهه، وأكثر انبهاراً بنموذجه الحضاري والثقافي، وأبعد في التعبير عن الحاجة إلى الأخذ بما أخذ به من مبادئ ووسائل كي ينتهض ويَحْصل له السَّبْقُ والتفوق". هذا التحول في ميزان القوى النفسي-الحضاري هو مفتاح فهم التلقي الإشكالي للحداثة.
ورغم أن المعاينة المباشرة للآخر يفترض أن تبدد الصور النمطية، يرصد بلقزيز مفارقة استمرار هذه الصور في الوعي العربي الحديث، ليس فقط بسبب المركزية الذاتية، بل بسبب الإصرار على "إمكانية استعادة مجد الماضي" ورفض "الاعتراف بالهزيمة الحضارية أمام الآخر". هذه الفكرة، "فكرة الاستمرارية التاريخية"، تصبح قاسماً مشتركاً، وإن بتعبيرات مختلفة، بين تياري الأصالة والحداثة، وتجعل من "الآخر" مرآة وميزاناً تتعرف "الأنا" من خلالهما على ذاتها وتقيس بهما مقدار تأخرها أو تقدمها.
كيف يتشكل الوعي الذاتي في مواجهة "الغير"؟
كيف تدرك "الأنا" العربية ذاتها من خلال هذه العلاقة المتوترة مع "الآخر"؟ يعتمد بلقزيز على منطقٍ جدليٍّ، مستحضراً هيغل والمتنبي، ليؤكد أن "تعريف الذات والوعي الذاتي ليس فعلاً
بسيطاً يجري بالبداهة، بل فعل مركب وحاصل علاقة جدلية بين حدين متغايرين. أو قُل إن من الطبائع في حركة الواقع والوعي أن الذات لا تنتبه إلى نفسها، أو لا تكاد تعي نفسها كتغاير أو مغايرة، إلا متى اصطدمت بغيريتها، أي بآخر يدفعها إلى الشعور بإنيتها أو باختلافها وتمايزها". فالهوية ليست جوهراً ثابتاً، بل هي نتاج هذه الجدلية.
وفي حركة وعي الأنا للآخر، تتعرف على نفسها من خلال أربع كيفيات رئيسية، كما يوضح المؤلف: "...فثمة على الأقل، أربع كيفيات يحصل بها وعي الأنا لنفسها في تلك العلاقة: وعي الاختلاف في الماهية، وعي صلات التشابه أو الاشتراك مع الآخر، والشعور المفرط بالتفوق، ثم الشعور الشقي بالنقص".
وعي الاختلاف الماهوي، الذي يركز على الفواصل والحدود، وتاريخنة الصراع، يؤدي إلى الانغلاق على الذات، وهو ما يميز "خطاب الأصالة". وعي التشابه والاشتراك، الذي يبحث عن الجوامع والقيم المشتركة، قد يؤدي إلى الإعجاب بالآخر كوسيلة للإعجاب بالذات في ماضيها (كما فعل الإصلاحيون)، أو إلى التأكيد على كونية القيم والانفتاح (كما فعل الحداثيون). وهذا هو "خطاب التقدم والحداثة". الشعور المفرط بالتفوق، الناتج عن مقارنة انتقائية وأيديولوجية، هو آلية دفاعية ومكابرة، وهو أيضاً من سمات خطاب الأصالة النرجسي. الشعور الشقي بالنقص، الناتج عن مقارنة تركز على قوة الآخر وضعف الأنا، قد يكون أقرب للموضوعية، لكنه يجنح أحياناً لجلد الذات وتبني معايير الآخر بشكل مطلق، وهو ما يميز خطاب "التغربن".
ويرى بلقزيز أن خطاب الأصالة، بوجهيه (الاختلاف والتفوق)، يؤدي وظيفة "الممانعة والاستنهاض" ضد هيمنة الآخر. أما خطاب الحداثة (التشابه واللحاق)، فيؤدي وظيفة "التنوير" والسعي نحو توطين قيم المدنية الجديدة في الثقافة العربية، وهو أيضاً يحمل ملمحاً "استنهاضياً يخاطب فكرة النهضة الثاوية في الوجدان الثقافي".
نقد الجدلية البسيطة وكشف التناقضات الداخلية للأنا والآخر
وهنا يقدم بلقزيز مساهمته النظرية الأكثر عمقاً، منتقداً الفهم السائد لجدلية الأنا والآخر في الفكر العربي باعتباره فهماً تبسيطياً واختزالياً. فالخطابات العربية السائدة، أصالية كانت أم حداثية، غالباً ما تعاملت مع الأنا والآخر كـ"حدين" أو "طرفين مستقلين"، أو كـ"وحدتين عضويتين مغلقتين"، والعلاقة بينهما هي علاقة خارجية بحتة. هذه جدلية "بسيطة أو غير مركبة".
الحقيقة، كما يؤكد المؤلف، أكثر تعقيداً. فـ"الواحد من الحدين ليس بسيطاً، أي ليس وحدة متجانسة مقفلة على معنى وحيد ومطلقة، بل ينطوي في ذاته على تناقض داخلي يؤسسه". الأنا ليست "أنا" واحدة، والآخر ليس "آخر" واحداً. كلاهما كيان مركب، متعدد، وممزق داخلياً بتناقضاته. الجدلية الحقيقية ليست فقط خارجية بين الأنا والآخر، بل هي أيضاً وبالأساس جدلية داخلية في كل منهما. "ففي كل أنا آخر، وفي كل آخر أنا أو صدى للأنا". فهم الجدلية
الخارجية لا يستقيم إلا بفهم هذه الجدليات الداخلية التأسيسية.
لم يدرك الوعي العربي الآخر (الغرب) في تعدده وتناقضه الداخلي. فالأصاليون اختزلوه في صورة العدو (استعمار، صليبية، كفر...). والحداثيون اختزلوه في صورة النموذج المثالي (مدنية، أنوار، عقل...). والحقيقة أن الغرب، كما يقول بلقزيز، "هو هذا وذاك في الآن نفسه، ولا يقبل التجزئة على إدراكين أحاديين". فهو "العلم، والعقل، والحرية، والمدنية، والتنظيم، والإنتاج" في الداخل، ولكنه أيضاً "تلك الرأسمالية المتوحشة الزاحفة بجيوشها... وتلك الفكرة العنصرية... وذلك المخيال الجمعي الذي جَهَزَتْهُ روايات الحروب الصليبية... وذلك القمع البربري لشعوب المستعمرات" في الخارج. إن الذين أغلظوا في وصفه بالسوء لم يقولوا إلا نصف الحقيقة، وكذلك الذين أغدقوا عليه المديح.
وبالمثل، أنتج الفكر العربي أيضاً صورتين متناقضتين وأحاديتين للأنا. فالأصاليون يقدمون صورة نرجسية تمجد الماضي الذهبي وتتجاهل جوانبه المظلمة وحاضره المتأخر. وبعض الحداثيين يختزلون الأنا في صورة التأخر والانحطاط الحاضر. والحقيقة أن الأنا العربية الإسلامية، كما يؤكد بلقزيز، "تنطوي الأنا على ذينك البعدين الموصوفين فيها في الآن نفسه". فلم تكن فقط "الحضارة، والنهضة، والعلم، والفلسفة... وإشعاع بغداد والأندلس"، بل كانت أيضاً "بطش الخلفاء... وسبي النساء... ووأد العقل وملاحقة المتصوفة". وفي حاضرها، هي ذات مهزومة ومتأخرة، لكنها أيضاً تحمل إرثاً حضارياً رائداً تتلمذ عليه آخرون. إن "الوعي الصحيح" يجب أن يدرك هذا التناقض الداخلي، وهو ما "ذهل عنه خطاب الأصالة وخطاب الحداثة في الفكر العربي".
نحو وعي نقدي مركب يتجاوز صدمة "الآخر" ويصالح "الأنا" مع تناقضاتها
يخلص بلقزيز إلى أن العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر العربي هي علاقة مركبة تقوم على جدليات داخلية، وقد تم تناولها بشكل أيديولوجي من كلا الخطابين. وهذا التوتر الحاد والانقسام في الوعي العربي يعود بجذوره إلى الصدمة التاريخية لاكتشاف الغرب والفجوة الحضارية معه.
إن هذا الفصل دعوةٌ لتجاوز الرؤى الأحادية، وتأسيس وعي نقدي مركب، تاريخي، وجدلي، قادر على إدراك التعدد والتناقض داخل الذات وداخل الآخر، كشرط ضروري لاستئناف مشروع النهضة على أسس معرفية صلبة.
***
مرتضى السلامي
...........................
ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (4)