قراءة في كتاب
أسعد عبد الرزاق: قراءة ومراجعة في كتاب التحديات الراهنة في المجتمعات الإسلامية
للدكتور عبد الأمير كاظم زاهد
مدخل: التحديات الراهنة في المجتمعات الإسلامية كان عنوان الكتاب الجديد لأستاذنا (الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد) وتعرض الكتاب إلى محاور ثلاث: معضلة الحداثة والتاريخ، ومعضلة التطرف الطائفي، ومعضلة غياب المنهجية العلمية، وكان الدكتور الزاهد يعي تماما الارتباط الخفي بين هذه الثلاثية، لأن المعضلة الأولى تكاد تكون أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء معضلة التطرف الطائفي، أما غياب المنهجية العلمية فهي المشكل الأساس في المسألتين الأولى والثانية.
وقد تحدث ضمن الفصل الأول من هذا الكتاب عن معضلة الحداثة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وتضمن هذا الفصل إشكالية التمدن في العالم الإسلامي بعد القرن العشرين، وأزمة المشروع الحضاري الإسلامي، والمشكلة العقلانية، كذلك تضمن هذا موضوع الإسلام وإشكال الحداثة في مقاربة نقدية مع (برنارد لويس)، كذلك تناول الأسس الفكرية للحداثة.
وتناول في الفصل الثاني معضلة التطرف الأصولي والطائفية الاصولية، من خلال عرض موجز لتاريخ التطرف ومخاطره، ونسبية المعرفة الدينية ودورها في معالجة اشكالات التطرف.
تناول الفصل الثالث معضلة غياب المنهجيه العلمية من خلال إشكالية التداخل المنهجي بين الدين والتاريخ، إضافة إلى موضوع اللاهوت القرآني، وعرض أيضا إلى مجال الاجتهاد في مجال النظم النظريات الكبرى، وفي الفصل الرابع الأخير تعرض إلى موضوع الرؤية المدنية الإسلامية من جهة والمواطنة، وتعارض الموروث من جهة أخرى.
ملامح الفكر التنويري عند الدكتور عبد الامير زاهد
من خلال مطالعة لمجموعة من كتب وأبحاث الدكتور الزاهد يمكن ملاحظة ملامح عدة:
1- تقييم التراث:
لا يتفق الدكتور عبد الأمير زاهد مع من يتبنى القطيعة مع التراث، لأن قراءته للتراث دقيقة جداً، ويقف عند مواطن محددة من التراث قد تكون عصية على الملاحظة لدى كثير من الباحثين في المجال الإسلامي، وغالبا ما يربط منهجيا بين تأسيس علم الكلام من جهة والفقه وأصوله من جهة أخرى، من خلال تأمل دقيق في خصائص كل مرحلة زمنية أو قرن من الزمن، ويثني كثيرا على نماذج محددة من العلماء والمفكرين مثل ابن رشد الذي ختم المعرفة الفلسفية نهايات القرن السادس على حد قول الدكتور الزاهد، كما أن الشاطبي ختم المعرفة المنهجية، وابن خلدون ختم الفكرة الاجتماعي، ويحدد الدكتور الزاهد في كتابه أن بداية القرن الثامن الهجري كانت بداية التراجع الحضاري، إذا بدأت مرحلة المتون والحواشي واضمحلت محاولات التأسيس للعلوم وبناء النظريات.
ويحدد الدكتور الزاهد صدمات محورية مثلت منعطفات مركزية في مسار الفكر والتراث الاسلامي، فالصدمة الحضارية الأولى تمثلت بالمعرفة الوافدة والتي كانت وراء ظهور النزعة العقلية بشقيقها الفلسفي والكلامي، وظهور تيار الاعتزال والاشعرية، وظهور ثنائية جدلية في التفكير الديني بين العقل والنقل.
والصدمة الحضارية الثانية كانت باحتلال الدول الغربية لبعض البلدان في العالم الإسلامي واللقاء القسري لحضارتين أحدهما نهضت تواً ونجحت في امتلاك الطبيعة وتحويل المعرفة إلى تطبيقات، فيما بقيت الأخرى تراوح في مكانها، مما أدى ذلك إلى ظهور اتجاه يفكر بالحداثة والتحديث.
يؤكد الدكتور الزاهد أيضا على ضرورة الفصل بين التراث الفكري للسلطة والتراث الفكري العلمي خارج السلطة، لذلك يرى ان الواقع الراهن في العالم الاسلامي يميل الى اعتماد الاسلام السياسي، فيما يرى أن المشروع الناجح هو ذلك الناتج عن رسالة الاسلام التنويرية، الذي يتطلع إلى إعادة انتاج حضارة الانسان على أسس قيمية، محددا مرتكزات ثلاث : (التوحيد والتمدن والعقلنة)، وبعد وضوح التوحيد يوضح التمدن من خلال محاولة تكوين مجتمع مدني يخلو من البداوة والقبلية والجهتية، أما العقلنة في عقلنة المعرفة الدينية ومختلف المعارف الانسانية التي تؤثر في الواقع الراهن..
2- سؤال الحداثة:
هذا السؤال الكبير الذي يختزل كثيرا من الأسئلة التي تناولها علماء و مفكرون، ويعرض الدكتور الزاهد الى بعض تلك التساؤلات الهامة، ويضيف لها سؤالا حول ما اذا كانت لحظة التنوير قد ولدت، فلمَ لم تتعاظم معطياتها؟ ولمَ أفلَ التنوير في العالم الاسلامي مطلع القرن العشرين؟
يحدد الدكتور الزاهد اختياره بأن المشروع المدني الإسلامي الذي يحترم الثوابت المشرقة في التراث وينفتح على المنجزات الانسانية، أجدى بكثير من المشروع الثيوقراطي من جهة، والعلماني من جهة أخرى.. فهو يؤيد ما يذهب اليه عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية، ويرى ان المشروع الاسلامي المدني يجمع حسنات كل من الرؤية الثيوقراطية والرؤية العلمانية، ويوضح عناصر المشروع الاسلامي المدني الأربعة:
(العقلانية، المنهج النقدي، نزعة المقارنة، نسبية المعرفة الدينية) معرّجاً على الاخير منها بأن لكل تجربة دينية في مجتمع ما منطق خاص يخضع لطبيعة الوضع التاريخي والاقتصادي لذلك المجتمع، وهو ما يعبر عنه بالصيرورة الحضارية وجدليات الفكر والواقع) بالنحو الذي يكتسب الواقع فيه محوراً هاماً في بناء المعرفة، وهو ما يفسر القول بنسبية المعرفة، بعيداً عن توهم اي موقف من انكار الحقائق المطلقة، فهو يفصل بين الحقيقة الثابتة، والتصورات والمناهج المعرفية التي تخضع لسنة التغيير..
وفي موقفه تجاه النص الديني يحدد مناهج ثلاث:
الاول: يتبنى منهجية معرفية مستلة من منطوق النص فقط، ويوجب على المؤمنين الاعتراف بقراءة واحدة رغم تعدد الدلالات.
الثاني: يتعامل مع النص على انه يختزل قواعد كلية وأطرا قيمية موجهة، ويفسح المجال للاجتهاد في أن يستقي الدلالات التي تناسب الظرف الزمكاني.
الثالث يتبنى كون النص جاء مرتباً لأوضاع تاريخية في القرن السابع الميلادي وقد طور النص العقل البشري ومكّنه من الرشد الحضاري بتخويله الاعتماد على نفسه ببناء نظم اجتماعية.
ويمثل الاول الرؤية السلفية فيما يمثل الثاني التنوير الاسلامي على مختلف مستوياته تبعا لدرجة القراءة، أما الثالث فيمثل الإغتراب الفكري والقوى العلمانية، موضحاً ان العلمانية ليست شرطاً للحداثة في العالم الاسلامي، مما يشير إلى تبنيه الموقف الثاني.
وفي موقف الترجيح يعرض الدكتور الزاهد الى انواع ثلاث من الافكار (الحية المستمرة في الاسهام الفاعل بالنهضة، وافكار ميتة انتهى دورها، والافكار القاتلة التي تولد المعضلات)، مرجحا الافكار التي تنحو منحى التنوير والاحياء بما يحقق. المشروع النهضوي، والتخلص من التبعية الحضارية للغرب.
3- الموقف من التطرف:
يقدم الدكتور الزاهد سردية تحليلية دقيقة للمنهج السلفي المتشدد الذي ينتج خطابا دينيا متصلبا مولدا لكل نماذج التطرف والعنف الديني، من خلال استعراض ايه لأدوات القراءة السلفية للنصوص الدينية عبر إستقراء تاريخي للأفكار والمناهج التي تنتج التطرف وما تناسل منها عبر الزمن بدءا من منهج أحمد ابن حنبل وطبيعه القراءة النصوص الدينية ومرورا بأفكار ابن تيمية وما نتج عنه من فكر سلفي مثلته السلفيات المتقدمة والمتأخرة، ويرى أن نسبية المعرفة كفيلة بمعالجة مشكلات التطرف، وللدكتور الزاهد كتبا وأبحاثا هامة في هذا المجال، الذي يستدعي التوسع فيه الى مزيد من العرض والبحث.
4- الرؤية المنهجية والمعرفية:
يتناول الدكتور الزاهد معضلة غياب المنهجية العلمية، ويعرض الى مقدمات تأسيسية في إطار التداخل بين التاريخ والدين، مستعرضا ذلك في الموروث اليهودي والمسيحي، لينتهي إلى وعي كلي بأثر التاريخ والدين على حد سواء في صناعة الواقع، بل أثر الدين في صناعة التاريخ، وفي مجال الفكر الإسلامي وما يتعلق بفهم القرآن الكريم يصنف الدكتور الزاهد الآراء على ثلاث أصناف:
- من يرى أن النص والتفسير والتموضع الزماني والمكاني والممارسة التاريخيك كل ذلك دين يتعبد به.
- ويرى آخرون أن هذه النصوص تحمل في ثناياها حقائق جوهرية وقانونية يمكن تطبيقها كمعايير أساسية في كل الأزمان والأحوال، وهو ما يتبناه الكاتب.
- ومنهم من يعد النص ومفهومه كله من تاريخ زمني يختص بالماضي ويلزم التعامل معه على أنه تراث تاريخي..
ثم يلاحظ على القول بتاريخية النص القراني، بأن النص القراني ليس وثيقة تاريخية حتى يجوز لنا أن نطبق المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج، ولا يمكن إعادة انتاج مشكلات قديمة تتعلق بجمع القران وتدوينه وغيرها من المسائل وتوظيفها في ادعاء تاريخية القران الكريم.
ويؤكد أيضا على ضرورة تطويع المعارف الإنسانية في تلقي معارف القران الكريم، بعد تبني عدم اطلاق القراءات والتفسيرات السابقة، بل لا تعدو كونها اجتهادات بشرية مارست التفسير وفق أفقها الذهني الخاص في مرحلتها الزمانية..
ويشير أيضا الى أهمية وعي الواقع ومتغيراته في صياغة منظومة الاجتهاد والاستعانة بالكليات من القواعد والنظريات الفقهية التي يمكنها تغطية مستجدات العصر من المسائل التي تتطلب موقفا تشريعيا، وتجاوز اشكال محدودية النص ولا محدودية الوقائع، من خلال فهم متجدد للنصوص الشرعية، والانفتاح على المناهج الجديدة.
ان دور العقل في التشريع هام جدا شرط أن يخضع الى الموجهات النصية، ومن هنا يكون النص موجهاً للعقل في بناء منظومة الفكر الديني بعيدا عن التفسير الأحادي والفهم الموحد، الذي غالبا ما يتم فرضه على انه الفهم الحصري للمعارف الدينية..
نسبية المعرفة الدينية:
من المحاور الهامة في هذا المبحث اتضح أن الدكتور الزاهد يثمن دور المعرفة العقلية حتى لو لم تكن ذات صلة بالأديان، وذلك بالنظر إلى إنجازاتها العلمية والحضارية في مجال خدمة الإنسان، أما الموقف الديني تجاه ذلك العقل فهو ينطلق أحيانا من مقولة (الصحة المطلقة لا يقابلها إلا البطلان المطلق) وإذا صرنا على هذه المقولة فإننا سنتسبب في الصدام بين الإنسان المعاصر والدين، فلابد من حل وسط وهو القدر المقبول المستند على احتمال وجود مقدار من الصحة في الآراء المتعددة لذلك ينبغي وعيي القيم المشتركة التي تخلق جسرا من الحوار مع الآخر.
ونسبية المعرفة الدينية مسلك نحو إغناء المعرفة الإنسانية، والتحقق منها ونقدها وتطويرها لصالح الإنسان.
إن الدين بإمكانه أن يصحح معارف البشر التي تحاول أن تفسر الكون والحياة فلا يستقل الدين بقراءة واقع الطبيعة وإنما يحصل الإنسان على تلك المعرفة.
كذلك يوضح الدكتور الزاهد موقف الرفض من قبل عدد من الدارسين لنسبية المعرفة ويجمل عدة أسباب ويناقشها:
الأول: إن المعرفة الدينية فرع عن النص الديني وعليه فهي تقترب من سماتته إذ تتصف بالإطلاق واليقين، ولا يمكن في هذه الحال الفصل بين المعرفة والنص، ويجيب الدكتور على هذا السبب بأن هذا الاستدلال يتوقف على مقدمات:
الأولى: إن المعرفة تتصف بالاطلاق واليقين، حينما تكون مرتبطة بالنص حصرا دون أن تمتزج مع عناصر أخرى زمنية البشرية ومكانية، والواقع لا يشهد بمثلها إلا نادرا.
الثانية: أن تكون ملتزمة تماما بالمنهج اليقيني للاستنباط، في حين عموم مناهج الاستنباط ظنية.
فضلا عن ضرورة أن نلتمس نصا صحيحا يقرر أن للمعرفة الدينية سمات النص وخصائصه على أننا أمام نصوص كثيرة تنهى عن الظن.
الثاني: يرى الرافضون لنسبية المعرفة أن قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) يفيد بأن الهداية لا تتعدد في القول أو في التباين، و مقتضى عدم التعدد هو الاتجاه نحو حقيقة واحدة مطلقة لا تتحمل النسبية، ويجيب عن ذلك الدكتور بقوله إن مجرد طلب (اهدنا) دال على أن الإنسان مفتقد لهذه الهداية، ولا نص ولا دليل على أن الله منح الهداية لجميع عباده إلا لمن اصطفى..
إن بذل الوسع في الحصول على المعرفة لا يكفي في الوصول إلى الحقائق المطلقة.
الثالث: يستدل الرافضون للمعرفة النسبية بأن هذا المسلك لا يرى وجودا للحقيقة النهائية، وينطلق من عدم وجودي مقياس موضوعي للحقائق، وهذا يؤدي إلى إنكار الضروريات، ويجيب عليه بأن فكرة المعرفة النسبية لا تؤدي إلى إنكار الضروريات، لأنها تفصل بين الحقائق النهائية وبين إدراكات البشر لها، فالمدركات هي ما يمكن أن توصف بالنسبية من دون الحقائق في عالم الثبوت والواقع.
ثم يختم الدكتور بقوله إن معضلة الدوغما والتعصب الذي بات أساسا دينيا للعنف والكراهية لا يحلها إلا إعادة تشكيل العقل المعرفي، ويرى الدكتور إن المعارف غير التأسيسية كلها من جنس الاجتهاد الإنساني الذي يحتمل الصحة والخطأ، وإن المعارف الفرعية غالبا ما تقبل التحديث والمراجعة..
***
د. أسعد عبد الرزاق الاسدي