أقلام فكرية
إبراهيم احمد الجميلي: من المعرفة التأملية إلى الفعل الكوني

(الدرس الفلسفي وأثره في التنمية المستدامة)
في زمنٍ يعجّ بالاختلالات البيئية والتفاوتات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية المتتالية، لا تُقدّم التنمية المستدامة نفسها كمشروعٍ تقني أو اقتصادي فحسب، بل كتحدٍّ وجودي وأخلاقي لاستمرارية الحياة البشرية في ظلّ ظروفٍ إنسانية. في هذا السياق، يُصبح السؤال الفلسفي أكثر إلحاحًا: ما موقع الدراسة الفلسفية ضمن هذا المشروع العالمي؟ وهل يمتلك التفكير التأملي، الذي لطالما اتُهم بالانفصال عن الواقع، القدرة الفعلية على إرساء أسس التنمية المستدامة؟ الفلسفة، في أصولها اليونانية، ليست مجرد حبٍّ للحكمة، بل هي بالأحرى تموضعٌ جذريٌّ أمام العالم: فهي تتأمل الوجود، وتتساءل عن المعنى، وتستجوب الجوهر. وبهذا المعنى، تضع الإنسان في قلب مشروعها الوجودي، ككائنٍ مسؤولٍ ليس عن نفسه فحسب، بل عن الوجود كلّه.
من هنا، تنشأ علاقة عضوية بين الدراسة الفلسفية ومفهوم التنمية المستدامة، الذي لا يقتصر على الحفاظ على الموارد الطبيعية، بل يجسد أيضًا رؤية أخلاقية ومعرفية وسياسية للإنسانية والعالم. في مناقشته لـ"الفعل والتأمل"، يُجادل هانز جوناس بأن المسؤولية الأخلاقية تجاه المستقبل ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. يقول: "إن قدراتنا التقنية المتزايدة باستمرار تُحمّلنا مسؤولية غير مسبوقة تجاه الأجيال القادمة" (جوناس، مبدأ المسؤولية، 1979).
وهنا، يتضح أن التنمية المستدامة غير ممكنة دون أساس فلسفي يُعيد إرساء العلاقة بين الإنسان والطبيعة على أساس المسؤولية، لا الهيمنة، والاعتراف، لا الاستغلال.
ومن ناحية أخرى، يُبيّن مارتن هايدغر، في كتابه "سؤال التكنولوجيا"، أن جوهر الأزمة البيئية يكمن في نمط الوجود الذي فرضه العصر التكنولوجي، حيث تُعتبر الطبيعة موردًا قابلًا للاستهلاك، بدلًا من كونها وجودًا أصيلًا في كيان العالم. ويقول: "إن جوهر التكنولوجيا ليس تقنيًا" (هايدغر، السؤال حول التكنولوجيا، 1954)،
بمعنى آخر، لا تكمن المشكلة في الأدوات، بل في تمثلات الوجود التي تُؤطر علاقتنا بها. وهذا يكشف عن ضرورة الدراسة الفلسفية كتفكيك للمسلمات التي تُشكل علاقتنا بالعالم، ووضعها في قلب مشروع التنمية المستدامة.
من جانبه يعتقد جون راولز أن العدالة بين الأجيال ليست مجرد اعتبار سياسي، بل هي مبدأ أخلاقي يُرسي عقدًا اجتماعيًا يتجاوز الواقع المباشر. في كتابه "نظرية العدالة"، لذلك يدعو إلى "العدالة البيئية"، التي تجعل من واجبنا تأمين الظروف اللازمة لحياة كريمة للأجيال القادمة (راولز، 1971).
وهنا تلتقي الفلسفة السياسية بالفلسفة البيئية في إرساء أسس المسؤولية عبر الزمنية، وهي ركيزة من ركائز التنمية المستدامة.، فهي لا تُشخص الدراسة الفلسفية للأزمات فحسب؛ إنما أنها تُزود الناس بوعي نقدي يُمكّنهم من تجاوز الحلول التقنية الاختزالية نحو رؤية شاملة تشمل الأبعاد الوجودية (علاقة البشرية بالطبيعة)، والأبعاد الأخلاقية (العدالة بين الأجيال)، والأبعاد المعرفية (نقد الأداتية)، وحتى الأبعاد الجمالية (الانبهار المتجدد بالعالم).
من هذا المنظور، تُصبح الفلسفة أداةً للتنوير، ليس بمعناها العقلاني التبشيري، بل هي ممارسة تُحرر البشرية من "عيوبها البيئية" واستسلامها الأخلاقي. وإنها تُعيد للبشرية القدرة على مساءلة أساليب حياتها، ومراجعة أهدافها، وإعادة توجيه مسارها التاريخي.
فهي كما قصد ميشيل فوكو، "روح المقاومة ضد جميع أشكال الهيمنة". فالتنمية المستدامة، كما تُفهم في الدراسات الفلسفية، ليست مجرد برنامج أو خطة أو جدول مؤشرات؛ بل هي تحول جذري في نظرتنا لأنفسنا وللعالم. لا يمكن تحقيق ذلك دون إعادة تأهيل الفلسفة، لا كمادة تعليمية معزولة، بل باعتبارها ممارسة حياتية تُرسخ المواطنة العالمية المسؤولة، متجاوزةً منطق الاستهلاك إلى منطق الرعاية والتواصل الاجتماعي،
وهذا ما دعا إليه إدغار موران في مشروعه "الفكر المُركّب". إن مستقبل العالم، بكل هشاشته، ليس في أيدي الخبراء والفنيين فحسب؛ بل يعتمد أيضًا على قدرتنا على تنمية فكر فلسفي يربط المعرفة بالفعل، والذات والآخرين، والحاضر بالمستقبل. فكما يتطلب التقدم التكنولوجي مختبرات، فإن الاستدامة تتطلب التفكير. وكما تحتاج الأرض إلى دعاة حماية البيئة، فإنها تحتاج أيضًا إلى فلاسفة.
***
الدكتور: ابراهيم احمد شعير الجميلي/ كركوك_ العراق