قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة الشاعر عبد الرحمن بوطيب "سلام منا لمن أحبونا"

قصيدةُ «سلام منا لمن أحبونا» لعبد الرحمن بوطيب قصيدةٌ تشعّ بحميميةٍ شفافة، وتؤسس لخطابٍ يزجّ بين التذكر والوداع والأمل. تنتمي إلى خطابٍ شاعريّ معاصر يتعامل مع الفقد والذاكرة والوجدان الجمعي بطريقةٍ تُحافظ على بساطةِ الصورة مع ثراءٍ دلالي. سأعرج في هذه الدراسة على المحاور التي طرحتها — اللغوية والبلاغية، الجمالية والفنية، الفكرية والفلسفية، التاريخية والثقافية، النفسية، الاجتماعية والسوسيولوجية، السيميائية، المنهجية، والأخلاقية/الإنسانية — محاوِلاً الجمع بين قراءة مقطعية وتحليل منهجي.

1. الأسس اللغوية والبلاغية:

1.1 سلامة اللغة وبنية الأسلوب.

اللغة في القصيدة سليمة من معايير النحو والصياغة العامة، وتعتمد أسلوباً شبه نثريٍّ ــــ شِعريّ (نثرية شعريّة) يسمح بتراكم الصور. تراكيب مثل «يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى» تظهر تحكماً تركيبياً يسمح بتكديس الصور دون أن يفقد المعنى تماسكه. ثمة ميل إلى الجملة الموسومة بالاسترسال والحشو الإيقاعي (أسلوب أو تراكيب جامعة) يساهم في تواتر الانفعال.

في سياق كهذا بمكنني تسجيل بعض النقاط:

وجود استعارات مركبة («رحيق عيونهم شلالات أريج خزامى») يتطلب قراءة بطيئة لفكّ مركبات الصورة.

تظهر بعض الانزياحات اللغوية المقصودة لإنتاج وقع صوتيّ ودلالي (مثلاً «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — انزياح في تركيب الصورة يخلق توتراً دلالياً متعمَّداً.

1.2 فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

اللفظ فصيح وخالٍ من التعابير الركيكة. اختيار الكلمات يوازن بين البساطة والثراء الاستعاري؛ مثل «زرافات» و«جلمود» و«أطلس» — مفردات تفتح مساحة جغرافية وثقافية. التناسب بين اللفظ والمعنى جيدٌ؛ الكلمات تخدم الصور والمشاعر ولا تبدو وظيفيةً فحسب.

نقاط ملاحظة:

ثمة وفعٌ بين المحلية (مثلاً «أطلس») والعمومية (مثل «سلام») يوسّع أفق القراءة ويجعل النص ذا بعدين: شخصي وجماعي.

الملاءمةُ بين اللغة والموضوع محفوظة: لغة مؤنَّثة بالحنان أحياناً، حادةً أحياناً حين يتحدث النص عن «صرخة» أو «جمر».

1.3 الانزياحات البلاغية والجمالية:

القصيدة توظف بلاغات تقليدية: تكرار «سلام»، توازيات، تشبيهات واستعارات، ضبطاً إيقاعياً. الانزياحات ترجع غالباً إلى تركيب صورٍ غير متوقعة (مثل «رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي انزياحات إنتاجية تولّد الدهشة.

2. الإيقاع والمعمار الصوتي:

2.1 الوزن والقافية والجرس:

القصيدة أقرب إلى النثر الشعري من حيث الوزن؛ لا التزمت بقافية تقليدية ثابتة لكنها تعتمد تكرار كلمات وعبارات (الـ«سلام»، «ناموا»، «لنا لقاء») لتأمين إيقاع إنشاديّ. التكرار يعمل كقافية داخلية/موسيقية بديلة عن التفعيلة التقليدية.

2.2 الموسيقى الداخلية والتكرار:

تكرار «سلام» متعدد الوظائف: وقف تأملي، نداء، توديع، تأكيد. الإيقاع يترنح بين سطورٍ قصيرة وطويلة؛ السطور القصيرة (مثل «سلام») تمنح القارئ فسحـة تنفّس إيقاعي، وتزيد من وقع العبارة التالية. التراكيب الصوتية العامودية (تكرار الحروف الساكنة/الصوامت) تخلق جرساً محلياً — كلمات مثل «زرافات ووحدانا» تولّد جرساً بصرياً وصوتياً معاً.

3. البنية الفنية للنص والرؤية الفنية:

3.1 البنية السردية والزمن:

القصيدة تحمل بنيتين متداخلتين: بنية النداء/التحية («سلام لنا/سلام لهم») وبنية الرواية/الاستدعاء (صور من رحيل، رثاء خفي، مشاهد يومية). الزمن هنا مؤطر بين: حاضر الوداع، وماضي الذكرى، ومستقبل اللقاء («لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد») — زمن دائري يُبقي على أمل ضمن ظلّ الفقد.

3.2 المنظور الفني:

الراوي في القصيدة ينحو إلى منصبِ المتحدّث الجمعي/الضميري الذي يودّع ويبارك ويفتكِر في دورات الذاكرة. ثمة انسجام واضح بين الشكل (صور متقطعة وتكرار) والمضمون (تتابع الوداع والحنين).

3.3 الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

يقع الإبداع في المزج بين البساطة اللفظية والثقافة التصويرية الكثيفة. الانزياح الجمالي يظهر في صورٍ غير معتادة (مثل «يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد») — وهي صور تضيف بعداً تجريدياً وغريباً يخرق المألوف ويستدعي قراءات متعددة.

4. الأسس الفكرية والفلسفية؛

4.1 الموقف الفكري: الأسئلة الوجودية والأخلاقية.

القصيدة تطرح موقفاً أخلاقياً وإنسانياً: تكريم المحبّين، تسجيل الفضل، الإقرار بالغياب/الرحيل، والحفاظ على وعد اللقاء. تساؤلات وجودية عن معنى البقاء بعد من أحبّونا وعن واجب الشكر والذاكرة.

4.2 الأفق المعرفي والمرجعيات:

نلمس أثر المرجعيات الجغرافية (جبال الأطلس)، والتراثية (صراخ/ملاحم) في تشييد دالّات النص. كما تلتقي القصيدة مع الحداثة في طريقة البناء (نثرية، تركيبات مبتكرة، لعب صوتي)، فتُؤطّر نصاً يربط المحلي والعالمي.

4.3 البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

متوالية «سلام» تعمل كمفتاح تأويلي: سلام كتحية، كوداع، كدعاء، وكعلامة على استمرار العلاقة بعد الفقد. النص يبثّ دلالات عدة: الاعتراف بالجميل، توثيق الألم، ترسيخ الأمل. الطبقات المضمرة تشمل: التضحية (من أحبونا يسقوننا)، الألم المؤسط (سجوننا/أمٍّ ثكلى)، والاحتفاء بالمقاومة الرمزية («نقشوا على جلمود صخر...صرخة أطلس»).

5. الأسس التاريخية والثقافية:

5.1 سياق النص واللحظة التاريخية:

القصيدة تستحضر حالاتٍ عامة من الفقد والمعاناة (صور السجون، الأمّ الثكلى، صراخ الأطلس) التي يمكن ربطها بسياقات اجتماعية وسياسية — لكن النص لا يحدد حدثاً تاريخياً بعينه، لذا يبقى تأويله مرناً بين الذاتي والجماعي.

5.2 تطوّر النوع الأدبي وموقع القصيدة:

تندرج القصيدة ضمن السرد الشعري المعاصر/النثر الشعري الذي يستند إلى تراكيبٍ سردية ويستعمل صوراً مكثفة بدل الالتزام بالشكل العمودي التقليدي. توازيات بين الشعر الاجتماعي والوجداني تضع النص في مسار التجريب الشعري العربي الحديث.

5.3 ارتباط بالتراث:

الاستدعاء لمفردات مثل «أطلس» و«جلمود صخر» و«حنّاء» يربط النص بالتراث الإقليمي والأسطوري (جبل الأطلس كمكان حاشد بالرمزية). كما أن «التراتيل» والنداءات (السلام) تواصِل تقاليد الخطاب الشعري العربي الديني/الوطني.

6. الأسس النفسية:

6.1 البنية الشعورية:

النبرة الشعورية مركبـة: حزن رقيق، امتنان عميق، أمل مرشّح، وحنين مؤثّر. القصيدة تحيل على الشعور الجماعي بالوداع والاعتراف، كما تكشف عن مكبوتات الذات (غضب مخبوء يتحوّل إلى سلام تأبيني).

6.2 تحليل الشخصية السردي:

لا توجد «شخصيات» متعدّدة في قالب روائي واضح؛ لكن النص يقدّم «فاعلين» صورياً: المحبون، الراوي، الأمّ الثكلى، الطفل، السجناء. كلّ فاعل يحمل دافعاً: العطاء (المحبون)، الاحتضان (الأمّ)، الصرخة (أطلس)، والانتظار (الراوي).

6.3 النبرة النفسية:

النبرة أغلبها تأملية وتباكيّة مع مسحة تسليمٍ واحتفاءٍ، ينتقل القارئ بين الدهشة والتنهد والطمأنة (النهاية تُفضي إلى «لنا لقاء / سلام / ما هو بعيد»).

7. الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية:

7.1 علاقة النص بالواقع الاجتماعي.

القصيدة تصدر خطاباً اجتماعياً أخلاقياً؛ تذكر الفئات المُغيَّبة: الأمّ الثكلى، المسجونون، الجموع التي تسهر النهار. النص يلتقط صوراً لشرائح اجتماعية متألمة ويمنحها فضاءً إنسانياً يمدّهم بالتحية والاعتراف.

7.2 الخطاب الاجتماعي داخل النص:

يوجد نقد ضمني للظروف التي أفرزت هذه المشاهد (سجون، ثكالى، صقيع)، لكنه نقد تمت صياغته بلغة الرحمة والاحتفاء، لا بلغة المواجهة الصريحة. هذا الأسلوب يسمح بفتح مساحة للتعاطف بدل الاستقطاب.

7.3 الكاتب كفاعل اجتماعي:

الشاعر هنا يتصرف كراوٍ مؤدلج أخلاقياً — يحيي الذاكرة، يرفع راية الشكر، ويعيد بناء تواصل إنساني. دوره نقدي/إصلاحي في نمط التذكير والاحتفاء بالإنسان البسيط.

8. الأسس السيميائية:

8.1 قراءة العلامات والرموز:

السلام/سلام: رمز للتواصل، للمباركة، وللدلالة على استمرارية العلاقة بعد الفراق.

الزرافات: قد تشير إلى الرحيل بطريقةٍ رشيقة ومهجوسة بالوحدة.

الأطلس/جلمود الصخر/حنّاء: رموز للثبات، للتاريخ، والاحتفاء بالهوية الثقافية.

الأمّ الثكلى: رمز الفقد والبراءة والضحية.

8.2 شبكات الدلالات الثنائية:

النص يشكل ثنائيات واضحة: حياة/موت، حضور/غياب، فرح/حزن، دفء/صقيع. هذه الثنائيات تُبنى على توازيات ومقابلات تُغني قراءة النص.

8.3 النظام الرمزي العام:

الرموز تختلط بين المحلي والإنساني العام؛ النظام الرمزي يميل إلى إظهار مقاومة إنسانية حميدة عبر النقش والتكرار والاحتفاء.

9. الأسس المنهجية؛

9.1 الصرامة المنهجية:

التحليل المقترح هنا يركب بين مقاربات: الأسلوبي (تحليل اللغة والصوت)، الهيرمينوطيقي (طبقات الدلالة)، السوسيولوجي (العلاقة بالمجتمع)، والنفسي (النبرة والدوافع). هذا المزج يضمن قراءة متعددة المستويات دون التفريط بوضوح كلّ خطوة.

9.2 التوثيق العلمي. اسمح لنفسي أن أؤكد أننيىقرأت للشاعر المغربي عبد الرحمن بوطيب العديد من النصوص الشعرية لذا لدي رغبة شديدة فيى قادم الأيام أن أقوم بوضع مقارنات نصية مع أعمال الشاعر الأخرى (التي سمح لي الوقت للاطلاع عليها) ومع نصوص معاصرة تتعامل مع موضوع الوداع والذاكرة، والاستعانة بمراجع حول النثر الشعري والمقاربة السيميائية والهيرمينوطيقا أمثال : سعيد الغانمي – “جدل الأجناس الأدبية”. يناقش الحدود بين الشعر والنثر وتحولات الأجناس الحديثة، بما فيها قصيدة النثر.

عبد العزيز حمودة – “المرايا المحدّبة” و“المرايا المقعّرة”

يتناول قضايا الحداثة الشعرية ومنها تحوّلات البنية الشعرية للنصوص النثرية.

يوسف سامي اليوسف – “في الشعرية والشعر  الجاهلي”

يقدّم تنظيراً عربياً مهماً عن الشعرية وعناصرها، ويمكن تطبيقه على النثر الشعري.

عبد القادر الجنابي – “بيانات ضد قصيدة النثر”

من أهم المراجع العربية التي تتناول قصيدة النثر (دفاعاً ونقداً).

أدونيس – “زمن الشعر” و“مقدمة للشعر العربي”

يؤسس لقراءة حداثية للشعر والنثر الشعري.

ومراجع غربية أمثال:

(جادّة: غادامر، بول ريكور، رولان بارت).

9.3 الموضوعية النقدية:

الحفاظ على التركيز على النص (لا على السيرة) مهم؛ إلا أنّ الإحالات السياقية تظل مفيدة إذا دعمتها مصادر موثوقة. ينبغي تمييز الاستنتاجات القائمة على النص عن الافتراضات البيوغرافية.

10. الأسس الإنسانية والجمالية العليا:

10.1 قيم الحرية والجمال؛

القصيدة تُجسد احتفاءً بالإنسان والكرامة: تمنح التحية والعرفان لمن أحبّوا، وتؤمن بأن الجمال قادر على الاحتفاء بالآلام. العمل الشعري هنا هو فعل إنساني توثيقي يكرّم البسيط.

10.2 الانفتاح على التأويل:

النص مولّدٌ للقراءات: يمكن أن يُقرأ كقصيدة اجتماعية، كمرثية جماعية، كنشيد حبّ للإنسان؛ هذا الانفتاح علامة جودة شعرية.

10.3 البعد الإنساني الشامل:

القدرة على لمس الوجدان العام واضحة: صور الأمّ، الصبي، السجين، تجعل من النص مرآةً لوجدان بشري شامل، لا مقتصر على خصوصية محلية فقط.

توصيات نقدية تطبيقية:

من وجهة نظري أجد أنّ قصيدة «سلام منا لمن أحبونا» للشاعر عبد الرحمن بوطيب نصٌ غنيٌّ متعدد الطبقات: لغوياً محكم، إيقاعياً معتمداً على التكرار والجرس الداخلي، وجمالياُ مولّداً للدهشة عبر انزياحات تصويرية. أفكارها إنسانية واضحة، وتستثمر الرمز المحلي لترسيخ تجربة عامة.

كما يمكنني القيام:

1. إجراء قراءة مقارنة مع نصوص عن الفقد والوداع في الشعر المغربي الحديث لتحديد خصوصية بوطيب.

2. تحليل موسيقي صوتي مفصل (استكشاف تكرارات حروفية، تكرار السكون/الحركة) باستخدام أمثلة مقتطفة قصيرة من النص.

3. توسيع البُعد التاريخي عبر رصد أيّ أحداث محلية قد تكون حكّمت صور القصيدة (إن وُجدت مصادر).

4. إضافة مراجع منهجية: كتب في الهيرمينوطيقا (غادامر/ريكور)، السيميائيات (بورديو؟ رولان بارت)، ودراسات في النثر الشعري العربي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............................

سلام منا لمن أحبونا

سلام لهم يسقوننا من رحيقِ عيونهم شلالاتِ أريجِ خزامى ومحبةً بمزيد

سلام عليهم يحملون بين رموش عيونهم قلوبنا وقد تمزق منها وتين ووريد

سلام بينهم يسهرون النهار لا ينامون ليلا يرتمي كُحْلِيَّ همسٍ من رضيعٍ يشوي ظهرَ صقيعِ صعيد

سلام

سلام

يرحلون زرافات ووحدانا

يرسمون على جدران سجوننا بسمةَ أمٍّ ثكلى في حضن طفل وليد

ينقشون على جلمودِ صخرٍ بِحِنّاء جمرٍ صرخةَ أطلس يحبل بيوم عيد بعيد

سلام

سلام

هي الأيام تداولنا على جبينِ مرايا وجوهٍ قمحيةٍ نظراتٍ وزفيرا في تصعيد

سلام

سلام

ما نحن بعدهم اليوم أمس غدا إلا في انتظار قديمِ وعدٍ ورجعِ موالٍ وترديد

سلام عليكم

ناموا

لنا لقاء

سلام

ما هو بعيد

***

عبد الرحمن بوطيب - المغرب

 

في المثقف اليوم