قراءات نقدية

عباس محمد عمارة: المراهقة الشعرية في تجربة الهايكو

عند الشاعر عِذاب الركابي

مقدّمة: حين يُطلّ علينا الشاعر عِذاب الركابي بكتاباته في الهايكو، فإننا لا نواجه تجربة مكتملة البنيان، بل طورًا قلقًا، متوتّرًا، يتحرك بين التأسيس والانفعال، بين الانبهار بالشكل الياباني والاحتياج إلى هوية عربية داخلية.

تجربة الركابي – بوصفها من أوائل محاولات الهايكو العربي – تشبه في كثير من سماتها مرحلة المراهقة الشعرية؛ لا على سبيل الانتقاص، بل بوصف المراهقة مرحلة من التحوّل، الصراع، والبحث عن الذات.

هذا المقال يتقصّى ملامح تلك المراهقة من حيث اللغة، الشكل، الرؤية، والفلسفة، مع محاولة استجلاء لحظات القوة والضعف، التجريب والانفعال، وطرح السؤال: هل شكّلت تجربة الركابي تأسيسًا واعيًا، أم عبورًا قلقًا نحو نضج لم يتحقق بعد؟

أولًا: الهايكو العربي بوصفه مراهقة جمالية

الهايكو، بوصفه جنسًا أدبيًا يابانيًا، يتمحور حول اللحظة العابرة، الحدس التأملي، والاقتصاد اللغوي الصارم.

تجربة الركابي تعكس هذا الانبهار بالشكل، الذي لم يكن يُحسن بعد احتواء روحه:

يُبقي على الزهرة والمطر والعصفور…

لكنه يُقحم “الوجدان العربي” من حيث لم يكن في الأصل.

وهنا تتجلّى سمة المراهقة: الاقتباس غير المشبع، التبني الانفعالي، والانتقال من الحرفي إلى الشعوري دون ضبط.

تجربة الركابي بدت وكأنها تقول: “أريد أن أكتب هايكوًا، لكن بطريقتي!”

وهذه “الطريقة” لم تكن، في كثير من الأحيان، نابعة من وعي بل من رغبة في إثبات التميّز – سمة مراهقة بامتياز.

ثانيًا: الانفعال وتضخم الذات في هايكو الطبيعة

يصرّح الركابي مرارًا بأن قصيدة الهايكو هي “قصيدة الطبيعة”، وأن الشاعر ينبغي أن يُمحى ليترك للطبيعة أن “تكتب نفسها”.

لكن المفارقة أن قصائده تفيض بذات شعورية مترعة بالحزن، الأمل، الغياب، الأسى، والعاشق:

بلاغة:

لن أنسى ما حييت نظرة تلك الوردة؛

لن أنسى ما حييت ثقة قطرة الندى بنفسها؛

لن أنسى ما حييت بلاغة الألم!!

(المصدر: ديوان “العصافير ليست من سلالة الرياح”، 2017)

فالقول بـ”الغياب” يقابله “تضخم حضور الذات”، والحديث عن “الطبيعة كناطقة” يُقابله شاعر يملي على الزهرة أن تحزن، وعلى العصفور أن ينوح، وعلى الخريف أن يستقيل. بهذا، تتحول تجربة الهايكو إلى مسرح إسقاط ذاتي، حيث تُحمل الطبيعة حمولة وجدانية لم تعهدها في السياق الياباني.

ثالثًا: توتّر الهوية بين الياباني والعربي

المراهقة ليست فقط مرحلة انفعالية، بل أيضًا مرحلة أزمة هوية. هايكو الركابي يتأرجح بين الانتماء إلى الشكل الياباني من حيث التركيب والاقتصاد، وبين الرغبة في إضفاء روح عربية عليه.

وداع:

خطواتُنا

غمغمة على أوتار قيثار بعيد

(المصدر: صحيفة روناهي – “بداية الهايكو العربي – 3”)

الصور هنا تحمل بلاغة عربية مشحونة بالعاطفة والتكرار والاستعارة. وهكذا تتحوّل التجربة إلى مراهقة هوية: لا هي هايكو خالص ولا هي ومضة شعرية عربية صافية بل نصوص مترددة، متحوّلة، غير مستقرة على شكل واحد أو روح ثابتة.

رابعًا: غياب المرجعية الكونية وتجاهل الاتجاهات الحديثة

يستند الركابي في تنظيره إلى تصوّر ضيّق للهايكو بوصفه “قصيدة الطبيعة الخالصة”، كما يتجلى لدى ناتسومه سوسيكي (1867–1916)، أحد أبرز شعراء وروائيي اليابان.

هذه الرؤية التأملية، حيث الطبيعة نقيض الذات، تعود إلى بداية القرن العشرين. لكن الركابي، في تنظيره، تجاهل مسارات تطور الهايكو الياباني والعالمي، والتي تشمل:

الاتجاهات اليابانية:

الهايكو الحرّ: كسر بنية 5–7–5 وتخلّى عن “الكيغو”، وبرز فيه شعراء مثل تانيدا سانتوكا وأوزاكي هوساي.

هايكو المدينة: انزياح من الطبيعة نحو حياة الشارع، الأضواء، العزلة الحضرية.

الاتجاهات العالمية:

عزرا باوند (Ezra Pound): قصيدته “In a Station of the Metro” (1913) تُعد ترجمة رمزية للهايكو في لحظة حضرية.

جاك كيرواك (Jack Kerouac): ابتكر “الهايكو الأمريكي” المرتبط بالروح البوهيمية، المدينة، والصمت الداخلي.

بانيا ناتسويشي (Ban’ya Natsuishi): دعا إلى “الهايكو الكوني”، متحرر من المركزية اليابانية، منفتح على السياسة، الهجرة، الحرب.

هذه الاتجاهات كلها وغيرها لم يُشر إليها الركابي، ما يجعل تجربته متمركزة على لحظة كلاسيكية واحدة، دون استيعاب لتاريخها الديناميكي.

فإصراره على الطبيعة وحدها لا يُعد وفاءً للشكل، بل نكوصًا عن الإمكانيات الأحدث التي تتيح للهايكو أن يكون صوتًا عالميًا، لا قُطريًا فقط.

خامسًا: التنظير بوصفه مراهقة سلطوية

من سمات المراهقة أيضًا الإفراط في التنظير لتبرير الممارسة.

يكتب الركابي كثيرًا في الدفاع عن “طهارة” الهايكو، ويحذّر من أدلجته، ويهاجم “الآخرين” الذين لا يفهمونه.

لكن هذا الخطاب يكشف قلقًا داخليًا، إذ يتّخذ صيغة سلطوية مراهقة:

- يقصي الآخر

- يحيط نفسه بهالة تنظيرية

- ينتج نصوصًا تناقض خطابه (كما في هايكو “وطن”):

وطن:

كم يلزمك من الكذب

كي تنام،

ليلةٌ ثلجية،

في سرير الوطن.

(المصدر: صحيفة روناهي، 2021)

هكذا، تتحوّل الممارسة إلى محكمة رمزية: من يكتب كما أكتب، فهو هايكوي؛ ومن يختلف، فهو خارج الإطار.

خاتمة

إنّ تجربة عِذاب الركابي في الهايكو، من منظور المراهقة الشعرية، تجربة حيوية وقلقة في آن:

تمتلئ بالتجريب والانفعال

تتأرجح بين الاقتباس والصناعة

تبحث عن هوية وتتنكّر لها في الوقت نفسه

تؤسس وهي تهدم

تتكلم عن الصمت وهي تفيض بالكلام

وإذا كان الشعراء المراهقون – كما يقول رامبو – هم من “يخترعون المستقبل”،

فلعل الركابي قد فتح الباب لاكتمالات قادمة لم يكن هو معنيًا أن ينجزها، بقدر ما هي مسؤولية القادمين من بعده.

***

عباس محمد عمارة

 

في المثقف اليوم