قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قلبي أثقل الشجرة

قراءة رمزية - نفسية في قصيدة الشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة.

في قصيدة "لو تقطفيني الآن قلبي أثقل الشجرة"، يُبحر الشاعر خلدون عماد رحمة في مساحةٍ شائكة من العاطفة الملتبسة، والرغبة المكبوتة، والتوق إلى المعنى المتجاوز للجسد. هي قصيدة تتوسّل الشعر لتفجّر الأسئلة الوجودية، وتخلط بين الطهر والخطيئة، بين الطفولة والاشتهاء، بين الموت والحياة، ضمن بنية دلالية رمزية تُسائل اللغة كما تُسائل الذات.

أولاً: الأسلوب الشاعري بين التوتر والإيحاء.

يحمل النص نَفَساً لغويّاً متوتراً، يُزاوج بين الانسياب الشعري والاندفاع الخطابي:

يقول الشاعر خلدون رحمة: «لو تقطفيني الآنَ / قلبي أثقلَ الشجرةْ».

افتتاحية مشبعة بالتوتر الوجودي: "القطف" هنا فعل مزدوج بين الرغبة في الانفصال والتحرر من عبء الحياة (القلب الثقيل) وبين دعوة للاندماج في الآخر (المُخاطَبة). القلب أثقل من الشجرة، إذن هو لا يحتمل وجوده، بل يعاني في فيزيائية شعورية غامضة؛ القلب بوصفه مركز الكينونة، أصبح عبئاً وجودياً.

تكرار ضمير المخاطب المؤنث يعمّق من الجاذبية الأسلوبية للنص، ويكشف عن حالة تماهٍ شعوري بين الذكورة المستسلمة والأنوثة المشتهاة، لا بوصفها جسداً فقط، بل معنى مضمراً يُفتِّت الحدود بين العاطفة والميتافيزيقا.

ثانياً: البنية الرمزية: من الجسد إلى "معبد الجسد".

القصيدة مشبعة بالرموز ذات الطابع الإيروتيكي الممزوج بالغموض الصوفي يقول: «مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي / ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين».

هنا تتحوّل الأنثى إلى كائن رمزي يتجاوز الواقعة الحسية إلى استدعاء بُنية مقدّسة. العطر الشبقي لا يُثير فحسب، بل "يُلهب رمزاً " في معبد الجسد، أي أنّ الجسد نفسه يتحوّل إلى فضاء طقوسي، مزارٍ للحزن والشهوة معاً. هذا التزاوج بين الألم واللذة يعكس بنية يونغية للنفس: حيث "الأنيموس" الذكوري ينجذب لأنثى داخلية تُعيد تشكيل الرغبة بوصفها بحثاً عن المعنى لا عن المتعة.

ثالثاً: البنية النفسية: التمزّق بين الطفولة والرغبة.

نلحظ في هذا المقطع تصعيداً مثيراً في الحسية الشعرية يقول الشاعر رحمة: «دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي / فامتلأتُ طفولةً».

في قلب المفارقة، يُولد التناقض: "الحليب الناري"؛ رمز أمومي ملتهب، يوحي بالاحتواء والاشتعال معاً. "إبريق الصمت" كناية عن النفس المغلقة، الممتنعة عن القول، وعن تفجّر المعنى. و"الامتلاء بالطفولة" هنا ليس عودة إلى البراءة، بل تشكّل جديد للذات، ولربما تراجع إلى مستوى نفسي مبكّر كآلية دفاع نفسي أمام صدمة الشهوة.

رابعاً: الرمزية والتحرر: الجسد كحقل للمعنى.

القصيدة تتضمّن مفارقات رمزية توحي بتحوّل الجسد من موضوع للرغبة إلى وسيلة لفهم "المعاني" يقول: «هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها»، «زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ / إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !».

العري هنا ليس فاضحاً، بل سريّاً – أي أنه عري يُفصح عن الداخل، عن الحقيقة الباطنية. الأنثى تتحوّل إلى بوابة للمعنى، لا مجرد موضوع للرغبة. هو تحوّل من "شهوة الجسد" إلى "شهوة المعرفة". الموت لا يُخيف، بل يُستدعى بوصفه ذروة للاتحاد العاطفي والمعرفي: حب يصل إلى حد الإلغاء الكلّي للذات.

خامساً: الهجوم على اللغة:

القصيدة كجمرة وجودية: «أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ / أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ: / كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ؟».

الشاعر خلدون رحمة هنا يتمرّد على اللغة، يحاول أن يكتب من موقع الجمر، من الألم الذي لا يحتمل التأجيل. الرؤية تُحترق كي تولد الكلمة. إنها استعارة واضحة عن الكتابة بوصفها محنة، وعن الجسد بوصفه ميداناً للكتابة نفسها. النهد لا يُشتهى فقط، بل يُهاجَم بالأفكار، أي أنّ القصيدة تتحوّل إلى مساحة صراع لا بين جسدين، بل بين فكر وشهوة، بين رؤيا ونار.

سادساً: الثمرة المسمومة: الخطيئة والمعنى.

يقول الشاعر خلدون رحمة: «لا تعودي للبدايةِ / حامض طعم الحكايةِ / والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .».

يتّضح هنا تمثّلٌ واضح لفكرة السقوط، أقرب إلى سردية الخطيئة الأولى. الأنثى/الثمرة تُشير إلى التجربة التي لا يمكن العودة منها بريئاً. الخطاب يُفرغ الحكاية من سذاجتها، ويحوّلها إلى ماضي "حامض الطعم"، فتجربة الشاعر لم تعد طفولة، بل نضج معرفي مؤلم.

سابعاً: الخاتمة: التحوّل الجذري والفكرة المتحرّرة.

يقول: «اقطفيني الآن من جذري / اقطعيني / واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ / كي تتحرّر الفكرةْ .».

في ختام النص، يتحوّل "القطف" إلى طقس خلاص: لا بوصفه نهاية، بل انبثاقاً جديداً. الذات تطلب أن تُقتلع من جذورها – أي من ماضيها، ذاكرتها، وجودها السابق – لتُغرس في أرض الآخر. الفكرة لا تتحرر إلا عبر هذا الاقتلاع، عبر الاحتكاك الجذري بين (الأنا) و(الآخر)، بين المعلوم والمجهول.

خاتمة:

تُعبّر قصيدة خلدون عماد رحمة عن حوار داخليّ عميق بين الغريزة والمعنى، بين العاطفة والفكر، بين الرغبة والمعرفة. تستبطن رموزها في جسد اللغة، وتحوّل الجسد إلى لغة. قصيدة متوترة، مشحونة بالأسئلة لا بالإجابات، تُلهم قارئها لا باكتشاف الحقيقة، بل بالحيرة الخصبة، بالتوتر الخلّاق، بالتأويل المستمر. إنها ليست قصيدة عن الحب أو الجسد، بل عن إمكانية التحرر من المعنى ذاته كي يُولد المعنى.

***

,بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

نص القصيدة:

لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ .

مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين

عطِشتُ من هولِ الغرابةِ

واختفى جسدي

دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً

ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ

هل أنتِ ميّتةٌ ؟

هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها

اقتليني

زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !

سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ

أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟

لا تعودي للبدايةِ

حامض طعم الحكايةِ

والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .

اقطفيني الآن من جذري

اقطعيني

واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ

كي تتحرّر الفكرةْ .

***

في المثقف اليوم