قراءات نقدية
مايكل ميوشو: الرحلة والكتابة عن الترحال وأدب الرحلات

بقلم: مايكل ميوشو
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
سافرت إلى نيو أورليانز قادما من لندن، حيث أقيم كل عام لبعض الوقت. وقد سافر معظمكم مسافة ما من منزله وجامعته ليستمع إلى محاضرة سألقيها عن أدب الرحلات. قد يبدو هذا للوهلة الأولى موضوعاً مشكوكاً فيه، أو على الأقل موضوعاً سخيفا لاجتماع رابطة اللغات الحديثة. ولكنني آمل في غضون الساعة القادمة أن أقنعكم بأن السفر، ليس تسلية تافهة ويجب أن نتركها لفقراء شارع بوربون بقبعاتهم الكروية وعلب البيرة التي يشربونها وقمصانهم الغريبة، ولكنه في المصطلحات الأدبية عمل بالغ الأهمية.
أولاً، بطبيعة الحال، يتعين علينا أن نحدد مصطلحاتنا! فوفقاً لبعض المنتقدين والمعترضين، لم يعد الارتحال موجوداً. فقد حلت محله آفة السياحة. ولابد أن نعترف بأن السياحة تأتي في المرتبة الثانية بعد العنصرية أو الاعتداء الجنسي على الأطفال كمؤشر على السلوك غير المقبول سياسياً. قد نعترف بذلك ولكن حتى الآن لم نفعل. فنحن جميعاً نفضل أن نكون رحالة حقيقيين، وليس مجرد سياح، لو كان بوسعنا أن نحقق رغباتنا.
ولكنني أزعم ـ وهذا موضوعي الليلة ـ أن السفر بالمعنى التقليدي لا يزال ممكناً، وعلاوة على ذلك هو مهم للكاتب وبالتالي للقراء. فكما استمر الإيمان الديني لفترة طويلة بعد وفاة الله المزعومة، وكما استمر الكاتب في إنتاج الروايات لفترة طويلة بعد زوال هذا النوع من الأدب الذي أثار الكثير من الجدل، فإن الناس ما زالوا يسافرون حول العالم، ويكررون تمثيل الطقوس التي كان من المفترض أن تندثر منذ عصور. وعلى المستوى الأكثر أهمية، يبدو لي أن الناس يفعلون ذلك من أجل التمتع بما أسماه الشاعر والاس ستيفنز ملذات "التنقل فقط". وربما لأن الثبات يذكرنا بتلك الحقيقة النهائية للحياة ـ أي الموت ـ فإننا نظل حريصين على إثبات أننا ما زلنا على قيد الحياة من خلال التحرك والاحتكاك بزملائنا المسافرين. إذا نظرنا إلى الأمر بموضوعية، يبدو أن العديد منا قد تم تصميمه بشكل طبيعي لاتباع أنماط الهجرة التي تؤدي ليس فقط إلى وجهة معينة، ولكن إلى حالة حيث يظل "الاكتشاف" حقيقة محتملة حتى في الأماكن التي سبقتنا فيها أعداد كبيرة من البشر.
لقد تكهن الدكتور فرويد بأن "جزءاً كبيراً من متعة السفر يكمن في تحقيق هذه الرغبات المبكرة في الهروب من الأسرة وخاصة الأب". وبهذا المعنى، قد ننظر إلى السفر باعتباره عملاً تمردياً، بل وحتى تخريبياً، وجزءاً من عملية تحقيق الذات. فأنا أسافر لتحديد هويتي الوجودية وتأكيدها. أنا أسافر. إذن أنا موجود.
في كتابه الممتع والعميق "الخارج" ، يناقش بول فوسيل السفر وأدب الرحلة بين الحربين العالمية الأولى والثانية. ويركز بشكل أساسي على التجربة البريطانية، ويلاحظ أن الحرب الشاملة أجبرت معظم الناس على البقاء في ديارهم، أو البقاء في المكان الذي أرسلهم إليه الجيش، وتسبب ذلك في عواقب وخيمة على الفنون والآداب الإنكليزية، ناهيك عن المواطنين بشكل عام. ويزعم فوسيل أنه بدون السفر، سنعاني حتمًا من "فقدان السعة، وتدهور الخيال والإمكانات الفكرية وهو يوازي خسارة حرية الجسد". ويبدو أن الكتاب يحتاجون إلى السفر، وحريته، وتحفيزه ليتصلوا بوجهات نظر جديدة ومبتكرة بنفس الطريقة التي يحتاجون بها إلى الهواء، وللمحررين، ولجمهور القراءة.
إن بقية الناس، سواء أدركنا ذلك بوعي أو بدون وعي، يتوقون أيضاً إلى السفر وما يمثله. ومن يشكك يذكرنا بعدد الأنظمة الشمولية التي تحظر السفر أو تقصره على النخبة المتميزة ــ كل ذلك في محاولة للسيطرة على المواطنين، ولتعميم الجهل والتستر على ما يجري في العالم. تاريخياً، من خلال تقييد حرية الحركة، سعى الطغاة إلى تعزيز الاعتقاد بأن الوطن أرض مقدسة، وأن الأراضي والشعوب الأجنبية محرمة، إن لم تكن شيطانية تماماً.
قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً، افترض روبرت بايرون، مؤلف كتاب "الطريق إلى أوكسيانا"، والذي يعتبره أغلب النقاد أعظم كتاب سفر باللغة الإنجليزية، أن تجاوزات الاستعمار البريطاني وإخفاقاته ترجع إلى "الحد من السفر أو السفر الذي لا يبدع". وعلى الهامش، ومع بعض التردد في الابتعاد عن الأدب إلى السياسة، أتساءل عما إذا كان من الممكن قول الشيء نفسه عن مشاكل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. هل يمكن أن تكون هذه المشاكل راجعة، جزئياً على الأقل، إلى الجهل العام بتلك الأماكن والشعوب، وعاداتهم وثقافتهم ودينهم؟ أرجوكم لا تعتبروا هذا تصريحاً حزبياً. فاللوم يقع على الجميع. إن سماع رئيسنا يشير إلى مساحات كبيرة من العالم باعتبارها محوراً للشر قد يجعل بعضنا يحتج. ولكن على الطرف الآخر من الطيف السياسي، هناك رجال ينبغي لأحكامهم أن تجعلنا أيضاً نرتجف. إنني أتذكر دان راذير وهو يشير في بداية الحرب في أفغانستان إلى تحالف الشمال باعتبار "أنه شعب مستقل محبا للحرية". ولكن بعد أن سافرت بنفسي إلى ذلك الجزء من العالم، فإنني هنا لأخبركم أن حلفاءنا في الشمال، مثلهم في ذلك كمثل العديد من حلفائنا الآخرين في أفغانستان، هم في الأساس أمراء حرب وتجار مخدرات وبلطجية. وقبل سنوات من تحول انتباهنا إلى أفغانستان، استولى التحالف الشمالي على السلطة في كابول، الأمر الذي كان له عواقب كارثية على سكانها. وعلى النقيض من ذلك، كان ينظر إلى طالبان في البداية باعتبارهم إصلاحيين حقيقيين، بل وحتى منقذين، ولذلك قادوا التحالف الشمالي إلى وادٍ بعيد في أقصى شمال شرق البلاد. وفي ظل التشبث بالوهم القائل بأن عدو عدوي هو صديقي بالضرورة، أعادت الولايات المتحدة الحياة إلى التحالف الشمالي، إلى جانب العديد من أمراء الحرب الآخرين، ورحبت بهم في حملتها ضد طالبان والقاعدة. والآن لم يعد لدينا أي وسيلة لكبح جماح تجاوزات إخواننا في السلاح والذين نشك فيهم.
يكفينا ما سلف من حديث عن الجغرافيا السياسية، وآرائي حولها، وعن تجاربي في آسيا الوسطى. وسأعود إلى موضوعنا. أولاً أود أن أنوه ببول فوسيل الذي كتب في كتابه " السفر في الخارج" يقول: "الرحلة هو عمل. ومن الناحية اللغوية، فإن المرتحل هو من يعاني من المشقة، وهي كلمة مشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية "تريباليوم"، وهي أداة تعذيب تتألف من ثلاثة أوتاد مصنوعة لضرب الجسم. وقبل ظهور السياحة، كان السفر يُنظَر إليه باعتباره أشبه بالدراسة، وكان يُنظَر إلى ثماره على أنها زينة للعقل واستنباط الأحكام". ومن المؤكد أن شيئاً من هذا لا يزال ينطبق على هذا الموضوع. فكر في كل هؤلاء الطلاب الجامعيين الذين يقضون سنواتهم الجامعية في الخارج. فكر في الرحالة الذين يأخذون سنة للتجول في جنوب شرق آسيا. فكر في السيدات والسادة الشجعان الذين ينضمون إلى رحلات ليندبلاد في القارة القطبية الجنوبية أو جزر غالاباغوس. إنهم يسافرون إلى حد كبير من أجل التعلم والتطور واكتساب المعرفة الحديثة. وينطبق نفس الشيء على كتاب القصص الخيالية والقصص غير الخيالية. فبالنسبة لهم، يمثل الطريق المفتوح فصلاً دراسياً ومهرباً في الوقت نفسه، ومحاولة للالتفاف حول الصفحة الفارغة ومحاولة لاستكشاف ما لا يمكن فهمه.
صحيح أن هناك أمثلة أقل إيجابية عن السفر. فقد كان هناك دوماً نوع من أنواع معاداة السفر. وفيها لا يذهب الناس إلى أي مكان ويكتفون بأخذ معتقداتهم وافتراضاتهم بعد جولة بالسيارة. وهناك نوع من الكتابة عن السفر يشبه في الحقيقة الكتابة الإرشادية التي تركز على ما يطلق عليه أهل المهنة "الخدمة" والتي تتألف في الغالب من تسجيل ما إذا كانت الملاءات في الفندق رقيقة أو ما إذا كان الخس في المطعم طازجا. ولكن هذا ليس نوع السفر أو الكتابة عن السفر الذي أتحدث عنه اليوم. لا، أنا أحاول إثبات أن السفر الكلاسيكي لا يزال موجوداً وأن أفضل أشكال الكتابة عنه يندرج تحت شكل مهم من أشكال الأدب. وعلاوة على ذلك، أود أن أعتقد أن السفر هو الأساس أو الميتا نص في العديد من النصوص التي لا نربطها عادة بالسفر.
في الشهر الماضي، أثناء قيادتي السيارة من باريس إلى البندقية، صادفت العدد الصادر في أيلول من مجلة هاربر والذي يتناول هذه القضية بشكل مباشر. كان عنوان المقال الذي كتبه نيكولاس ديلبانكو هو "في أي مكان خارج هذا العالم: لماذا كل الكتابة هي كتابة عن السفر". يقدم ديلبانكو حجة مقنعة، أو على الأقل استفزازية، عندما يزعم أن "القاسم المشترك بين الأوديسة ورحلة الحاج ، وحكايات كانتربري والكوميديا الإلهية ـ ناهيك عن دون كيخوتة وموبي ديك أو فاوست ـ في التقاليد الأدبية الغربية هو الحركة شبه الدائمة". ويزعم أن الكتب الأكثر رسوخاً هي الكتب الاستكشافية. إنها رحلات استكشافية تقدم للقراء أحداثاً ورؤى غير مسبوقة، وعالماً من العجائب، وما أسماه عزرا باوند "الأخبار التي تبقى أخباراً". إن أعظم المؤلفين هم في واقع الأمر كتاب رحلات؛ فهم يؤكدون أنني كنت هناك، وشهدت ذلك، ثم عدت لأروي القصة، وأنني لم أقرأ أي شيء من هذا العالم.
قبل سنوات، وكما لو كان يتوقع ديلبانكو، أشار بول فوسيل إلى أن الأدب والسفر كانا متداخلين على الدوام. ولاحظ أن لغة السفر ولغة النقد الأدبي تتقاطعان. ففي كلتا الحالتين نتحدث عن الانطلاق، والبدء، والانتقال، والالتفاف أو الانحراف، والعودة إلى الوراء والتعامل مع الأحداث أو مسار وجهات النظر المختلفة. ثم نقيس المسافات بالكيلومترات، تماماً كما نتحدث عن الشعر، وكثيراً ما نسمع العلماء يناقشون النصوص بمصطلحات تذكرنا بوصف المناظر الطبيعية. إنهم يتحدثون عن الأحداث الصاعدة، والجسور السردية، والأقواس الدرامية، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك.
وأخيرًا، حيث يلاحظ ديلبانكو أن كل الكتابة هي كتابة سفر، يبذل فوسيل قصارى جهده لإثبات كيف أن فقرات معينة من كتابات السفر المفضلة تحمل السمات المميزة لأنواع أدبية معينة. على سبيل المثال، تشترك هذه الفقرات بكثير من الأمور مع الحكايات الطائشة والمذكرات الشخصية. وفي تفسير رائع بشكل خاص لكتاب بايرون " الطريق إلى أوكسيانا "، يصف الكتاب بأنه "الأرض القاحلة" لكتابة الرحلات، فهو مثل إليوت، بنى كتابه على شذرات من المحادثات والإشارات الأدبية والاقتباسات ولغة هوميروس، وما إلى ذلك.
والآن أتمنى ألا أبدو جاحداً، بعد أن استعنت بفوسيل وديلبانكو لتأكيد كلامي حين يتطلب ذلك، إذا عارضتهما. فالرجلان يقفان إلى جانب الهراطقة الذين يزعمون أن السفر الحقيقي لم يعد موجوداً. ويقول ديلبانكو إن وفاة ويلفريد ثيسيغر كانت بمثابة "ناقوس الخطر بالنسبة للمتجولين على انفراد" ـ بالنسبة للسفر باعتباره مشقة واستكشافاً. ولكن قبل خمسة عشر عاماً أزعجت ثيسيغر وكثيرين من معجبيه عندما انتقدت سيرته الذاتية "حياة اخترتها" في صحيفة نيويورك تايمز لأنها شوهت تجاربه وبالغت في المبالغة في دراماتيكيتها. ومثله كمثل العديد من أشهر الرحالة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان ثيسيغر نادراً ما يسافر بمفرده. ويكتب بأسلوب أناني، وهو ما أدى إلى ترويج الانطباع الخاطئ بأنه كان فرداً معزولا يتجول في البرية القاحلة، ويكافح بموارد محدودة، ولا يستمد قوته إلا من شجاعته الشخصية وعزيمته القوية. ولكن في واقع الأمر، كان ثيسيغر يحظى بدعم مالي من حشد من الموالين الأثرياء ومن الجمعية الجغرافية الملكية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه كان يرافقه ويحميه في كثير من الأحيان مئات الجنود من الجيش البريطاني. ولم تأخذه أي من رحلاته الاستكشافية إلى أراضٍ مجهولة أو غير مأهولة. ولم يكتشف مكاناً قط. بل كان يزور فقط الناس الذين عاشوا طويلاً في المكان الذي اختار السفر إليه، وما كانت بعض أشهر رحلاته في الصومال والحبشة لتنجح أبداً لو لم يصادر الإمدادات من القرى المحلية ـ أو يسرقها ـ ويطالب بتوفير المأوى تحت تهديد السلاح، ويرغم المئات من السكان المحليين على العمل بصفة حمالين وكشافة وحرس شخصي. إن حقيقة أن هذا النوع من السفر لم يعد ممكناً، في رأيي، ليس أمراً مؤسفاً، بل ينبغي الاحتفال به إلى جانب نهاية كل أشكال العنصرية والاستعمار الفاضح.
وبينما يندب فوسيل رحيل المستكشفين الأبطال، فإنه يندد أيضاً بما يتصوره من تجانس في العالم، والطريقة التي أصبحت بها مدن بأكملها ومناطق نائية سابقا قابلة للتبادل وآمنة للأم والأب والصديق والأخت. ويزعم أن تصميم المطارات أصبح "لغة دولية منتشرة في كل مكان". ويسخر قائلاً: "أقرب ما يمكن للمرء أن يستعيد به تجربة السفر اليوم بالمعنى القديم هو قيادة سيارة قديمة بإطارات مهترئة فيها عبر رومانيا أو أفغانستان دون حجز فندقي والاكتفاء باللهجة الفرنسية المخزية".
لا يسعني للرد على هذا إلا أن أقول السيد فوسيل إنه عليه أن يقوم بالمزيد من الجولات. فكما علمت أنه في الشتاء الماضي كانت بانكوك مزدحمة وملوثة وغير جذابة مثل مدينة ليفريك، ولكن هناك مناطق من تايلاند لا تقل عن الربع الخالي بالفراغ والفوضى. وفي كمبوديا شعرت بالحزن الشديد حين رأيت أن سيام ريب، المدينة التابعة لأنجكور وات، تفتخر الآن بفنادق تبدو أنعا نسخة مصغرة من لاس فيجاس، ولكن المشي لمسافة قصيرة في أي اتجاه يجعل المرء متصلا بحياة لم تتغير كثيراً منذ قرون. أو أن المشي لمسافة قصيرة على الطريق الخطأ في أنجكور وات يؤدي إلى الموت ـ حيث لا تزال العديد من المناطق مزروعة بالألغام التي خلفها الخمير الحمر. عندما كنت في لاوس، في العاصمة السابقة لوانج برابانج، كنت أستمتع بإقامة في فندق خمس نجوم، وكنت أستمتع بالمفارقات الجميلة من حولي ـ الرهبان ذوي الثياب الزعفرانية في مقاهي الإنترنت، والسائحين الأستراليين الذين يُعرفون محلياً باسم "مينكي تو"، أو براز السلاحف، بسبب عاداتهم غير الصحية. وهناك مرآب في القصر الملكي السابق يعرض بفخر سيارتين من طراز فورد إدسل وزورق سريع بطول خمسة عشر قدماً له محرك خارجي من طراز إيفينرود، وكلها هدايا من الولايات المتحدة. ولكن عندما حاولت اللحاق بالحافلة إلى العاصمة الجديدة فيينتيان، اكتشفت أن الخدمة قد توقفت لأن قطاع الطرق أغلقوا الطريق. وقبل أسابيع قليلة قاموا بسرقة وقتل حافلة محملة بالمسافرين. وفجأة أدركت أن ميستاه كورتز ربما لم يمت بعد، وأن هناك على بعد أميال قليلة من أفخم الفنادق ما يكفي من الرعب ليفكر به أي كاتب ويقلق أي قارئ ويتحداه.
هناك مناطق محظورة ومناطق غير مستكشفة حتى في المدن الأوروبية التي تم رسم خرائطها بشكل جيد. في فالنسيا بإسبانيا، علمت مؤخرًا أن هناك حيًا يسكنه بالكامل تقريبًا مهاجرون أفارقة تم منع الشرطة ومكاتب البريد وغيرها من الخدمات البلدية من دخوله. أعلنت الحكومة الإسبانية ببساطة أن هذا الحي شديد الخطورة. باختصار، إنه مكان يحتاج إلى بيرتون وسبيك لاستكشافه وتحليله.
ودول بأكملها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والجنوبية تندرج ضمن الفئة نفسها. فهي غير معروفة إلى حد كبير، ونادراً ما يزورها أحد، وغير مريحة إلى درجة غير عادية، ومهددة تماماً كما كانت صحراء دانييل عندما عبرها ويلفريد ثيسيغر في ثلاثينات القرن العشرين. وربما تعطينا الطائرات وشبكة سي إن إن والإنترنت الوهم بأن أي مكان في العالم لا يمكن الوصول إليه أو استكشافه أو فحصه. ولكن الجزائر ربما كانت على مدى عشر سنوات بمثابة الجانب المظلم من القمر، ولقد حولت قسوة الحكومة غير المنتخبة والإرهابيين الإسلاميين ذلك البلد إلى قلب الظلام حيث قُتِل عشرات الآلاف من الناس مع أنهم على بعد ساعة طيران فقط من روما أو نيس.
لو كان غراهام غرين لا يزال على قيد الحياة، لكان قد وجد ليبيريا غريبة وغير معروفة على الخريطة ـ وأكثر عدائية مما كانت عليه عندما ذهب إلى هناك وكتب "رحلة بلا خرائط". وإذا عاد إلى مقاطعة تشياباس في المكسيك، قد لا يخطئ الناس في افتراض أن القليل قد تغير منذ كتب "الطرق الخارجة على القانون" . أطفال عراة ببطون منتفخة، وبالغون يعانون من سوء التغذية والملاريا، ومواجهة عنيفة وتوتر بين الهنود والجيش، والغموض الأخلاقي الذي أصبح السمة المميزة لجرينلاند. ورغم أسباب مختلفة، ورغم التكنولوجيا الجديدة ـ أو ربما بسببها ـ فإن هذه الأماكن أصبحت أكثر اضطراباً من أي وقت مضى. ولابد أن أؤكد أكثر من أي وقت مضى على أنني أطالب بزيارة وكتابة روايات عن شجاعة غرين وقدرته على الغضب وصدقه الجريء.
وأما فيما يتعلق بكون المطارات كلها متشابهة، فإنني أتساءل عما إذا كان فوسيل قد سافر على متن طائرة، كما فعلت في السنوات الأخيرة، إلى دار السلام أو زنجبار أو طشقند.
إنني أشعر، وربما تشعر أنت أيضاً، بنبرة من التوسل الخاص والمصلحة الشخصية التي تسيطر على هذا الخطاب الأكاديمي الذي يتسم بالموضوعية المطلقة. وكان ينبغي لي أن أعترف في وقت مبكر بأن من الصعب عليّ أن أتبنى موقفاً خاصا بشأن السفر وكتابة الرحلات وعلاقتها بالأدب. ففي نهاية المطاف، بدأت مسيرتي المهنية برواية بعنوان " رجل يتحرك "، والتي استوحيت فيها سطوراً من قصيدة " غيدنغ الصغير" للشاعر تي إس إليوت.
"لن نتوقف عن الاستكشاف،
ونهاية كل استكشافاتنا
ستكون الوصول إلى نقطة البداية،
والتعرف على المكان لأول مرة."
كانت رواية "الرجل المتحرك" حكاية طريفة عن رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة إلى أدغال المكسيك. وفي عصر رواية " الراكب السهل"، أعتقد أنه كان من الممكن أن نقول إنها رواية معادية للطريق. ولكنها بالتأكيد لم تقنعني بالبقاء في المنزل. وبدلاً من ذلك، سافرت بنفسي على الطريق، وعلى مدى السنوات الأربع والثلاثين الماضية عشت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والمغرب وإنكلترا، وسافرت من طرف إفريقيا إلى الطرف الآخر، وقضيت بعض الوقت في عشرات الدول الإسلامية، وتجولت في الكتلة السوفييتية السابقة وآسيا الوسطى، بل وأمضيت بضع سنوات في تكساس، أحد أكثر الأماكن نأيا وغرابة وإثارة للاهتمام ثقافيًا وإرباكًا من كل البلدان التي زرتها. كما أعتبر أن أعظم شرف لي أن أصبح عضوًا في تلك المنظمة الأدبية المتناقضة - معهد تكساس للآداب.
إلى جانب الصور الفوتوغرافية، وأميال الطيران المتكررة، والأمراض المختلفة، وتجارب المستشفى غير السارة، واللقاءات التي لا تنسى مع مسؤولي إنفاذ القانون المحليين، كانت إحدى النتائج الهامة لكل هذه الرحلات هي 16 كتابًا، يرتبط العديد منها بشكل مباشر بمسار رحلتي.
والآن، في سن الحادية والستين، ما زلت أتنقل من مكان إلى آخر، وما زلت لا أمتلك منزلاً أو أثاثاً، ولا أقضي أكثر من بضعة أشهر في مكان واحد. وتظل الحركة والسفر والأماكن البعيدة والاقتلاع من الجذور والاغتراب، من الموضوعات الرئيسية في أعمالي الروائية. وفي السنوات العشرين الماضية أيضاً كتبت بضع مئات من المقالات التي تتناول أماكن أجنبية. ولا أستطيع أن أسمي هذه المقالات أعمالاً روائية بالمعنى التقليدي. فهي بالتأكيد لا تقدم الكثير من الخدمات. بل إنها تحاول استحضار مكان ما وإظهار الراوي ـ أي أنا ـ وهو يمر عبر أماكن وتجارب جديدة. وهي تُروى دائماً تقريباً بضمير المتكلم، وتستخدم مجموعة من الأدوات الروائية ـ الحوار والمشاهد الدرامية والحوادث الكوميدية والمفارقة. وهو أمر منطقي لأنني اعتبرتها بدائل للقصة القصيرة. وعندما تقلص سوق القصص القصيرة إلى حد فقدان الأهمية، قررت التوقف عن كتابة القصص للمجلات الأدبية التي تدفع القليل أو لا تدفع شيئاً، ويقرأها قِلة من الناس أو لا يقرأها أحد. بدلاً من ذلك، كتبت للمجلات والصحف التي أرسلتني إلى أماكن مثيرة للاهتمام، ودفعت الفواتير، وتركتني حرا لإعادة تدوير التجارب في خيالي.
لذا، نعم، هذا الموضوع قريب وعزيز عليّ ويشكل جزءًا لا يتجزأ من عملي. وعلى الرغم من تحذيراتي البسيطة بشأن ديلبانكو وفوسيل، فإنني أتفق معهما جدا. فكل كتابة هي كتابة سفر ــ حتى لو كانت الرحلة بالكامل إلى داخل تلافيف ومتاهات العقل الغامضة، أو حتى لو كانت استكشافًا حميما للجسد. وكما قال دي إتش لورانس ذات يوم لبرتراند راسل: "إن أعظم تجربة في حياة كل رجل هي مغامرته مع المرأة".
إنني أتفق أيضاً مع مارك شورر الذي قال عن دي إتش لورانس إن شخصياته "تكتشف هويتها من خلال استجابتها للمكان". أو بكلمات لورانس آخر ـ لورانس داريل ـ أعتقد أننا "جميعاً أبناء مناظرنا الطبيعية". لقد حاولت في كتاباتي أن أظهر ليس فقط من نحن وماذا نحن. فنحن نتشكل من خلال المكان الذي نتواجد فيه. والمكان يؤثر علينا تماماً كما تفعل الأحداث والأشخاص، فنصبح ـ أو نمتلك القدرة على أن نصبح ـ شخصاً مختلفاً في بيئة مختلفة.
إنني أزعم أن السفر بالنسبة لي هو نوع من الكتابة، أو نص بديل، أو مسودة أولية. وهو ليس مجرد وسيلة للهروب، كما قال غراهام غرين، أو وسيلة لجمع المواد أو محاربة الملل. بل إنه فعل إبداعي حيث يصبح العالم صفحة فارغة وأنا القلم الذي يخط خطوطاً متكررة عبر المناظر الطبيعية. والهدف في كل حالة هو نفسه ـ البصيرة، والفرح، والبهجة، والخبرة الحية، والإثارة البصرية، والمتعة الحسية والاكتشاف. إنه أكثر أماناً من الكحول، وأرخص من الهيروين، إنه طريقتي، بأسلوب آرثر رامبو، لتشويش حواسي بشكل منهجي، وفتح نفسي أمام الجديد وغير المتوقع.
ولكنني لا أريد أن أترك انطباعاً بأنني مجرد متعلم شغوف، أو شخص يتعلم بنفسه في طائرة أو سيارة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن السفر من أجل التعليم له تقليد طويل ومحمود. ولكن بصراحة، على الأقل في البداية، فإن الجهل له مزايا بالنسبة للروائي. فأنا شخصياً أحب الذهاب إلى أماكن لا أتحدث لغتها، ولا أعرف فيها أحداً، ولا أعرف طريقي، ولا أعاني من أوهام بأنني أتحكم في كل شيء. وفي حالة من الارتباك، وحتى الخوف، أشعر بالحيوية واليقظة على نحو لم أشعر به قط في بيتي. وفجأة تعود كل حواسي إلى الوعي، وأستطيع أن أرى وأسمع وأشم ـ وبعد ذلك إذا حالفني الحظ، أستطيع أن أكتب.
إن الصفحات السوداء والمساحات الفارغة على الخريطة، بالنسبة لي، هي نفس الشيء إلى حد كبير. فأنا أتوق دوماً إلى الوصول إلى حقيقة اللغز الذي أعمل باستمرار على صياغته. ورغم أن أياً من الرغبتين لا يمكن تفسيره بالكامل، فإنني أعلم أن السبب الذي يدفعني إلى الكتابة يشترك إلى حد كبير في أسباب سفري، تماماً كما أن الطريقة التي أتبعها في القيام بكلا الأمرين يمكن التعبير عنها بشكل أفضل في سطر كتبه ثيودور روثكي ويقول فيه: "أتعلم بالذهاب إلى مكان يتعين علي الذهاب إليه".
***
ترجمة صالح الرزوق / مع الاستعانة ببرامج الذكاء الصناعي.
.......................
*كلمة ألقيت في مؤتمر الجمعية التشريعية لمنطقة جنوب وسط نيو أورليانز عام 2004.
* مايكل ميوشو Michael Mewshaw روائي أمريكي وكاتب أدب رحلات.