قراءات نقدية
نهال غرايبة: قراءة في المجموعة القصصية "تفاصيل" لجمعة شنب

تعد مجموعة القصص "تفاصيل" لجمعة شنب والصادرة عن دار العائدون للنشر لعام 2022، نافذة على عوالم إنسانية متنوعة، تتناول موضوعات مثل الفقر المدقع والأحلام المؤجلة، والحب الضائع واليأس القاتل. يستعرض شنب بعمق شخصياته التي غالباً ما تكون مهمشة ومنسية، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لظروفها وآلامها المستترة.
ضمت المختارات قصص منتخبة من خمس مجموعات هي نتاج تجربة شنب في القصة القصيرة والقصيرة جدًا، إضافة إلى قصص لم تنشر في مجموعة بعد، أي أنها تنشر للمرة الأولى. ويقول المحرر الأول لسلسلة المختارات "لعل هذه المختارات تفتح الباب واسعًا على عالم واحد ممتد ومتعدد، منذ البدايات حتى اليوم، فيقرأ من يريد "تفاصيل" هذه التجربة، بعناصرها الأساسية، وسِماتها الأبرز، فاجتماع هذا العدد وهذا التعدد يتيح قراءة لا تتيحها قراءة المجموعات منفردةً، بل يبرز هنا المؤتلف والمختلف، الواقعي والفانتازي، السوداوي مقابل بعض ثقوب الأمل وبواباته ربما"، لافتا الى "أنها قصص مدهشة بتفاصيلها ولغتها التي تقترب من لغة الشعر. وليست هذه سوى ملامح من عالم جمعة شنب الثري والعجيب، هنا، والآن!".
عالم شنب القصصي
عالم شنب الأدبي ليس عالماً مثالياً، بل يعكس واقعنا الصعب بكل تناقضاته وصراعاته. يتناول شنب في كتاباته حياة البسطاء والمكافحين، هؤلاء الذين لم يحظوا بفرصة الظهور في الصفحات الأولى من الحياة. يمنحهم صوتاً مميزاً، ويجعل القارئ ينظر إليهم بنظرة مختلفة، نظرة تقدّر إنسانيتهم رغم كل التحديات التي يواجهونها.
لغة مكثفة وموحية
يستخدم شنب لغة مكثفة وموحية تختزل الكثير من المعاني بكلمات قليلة. يصف المشاهد بدقة ويترك مساحة للتفكير. كلماته ليست مجرد حروف، بل صور حية تنبض بالحياة.
شخصيات لا تُنسى
الشخصيات التي تعرضها أعمال شنب هي شخصيات لا تُنسى وتظل عالقة في الذاكرة، فهي ليست مجرد أسماء عابرة، بل تمثل نماذج إنسانية واقعية. نتفاعل معها ونتفهم دوافعها، ونشاركها مشاعرها من حزن وفرح. يكتب شنب عن هذه الشخصيات بحب واحترام، بدون إصدار أحكام عليهم، مما يتيح لنا كقراء حرية تقييمهم واتخاذ القرارات بشأنهم.
قضايا إنسانية
يتناول شنب في كتاباته قضايا إنسانية متنوعة، مثل الفقر، واليأس، والحب، والوحدة. يعبر عنها بصدق وشجاعة، ولا يتجنب الخوض في المواضيع الحساسة. لا تقتصر قصصه على التسلية فحسب، بل تهدف إلى تحفيز التفكير ودعوة للتغيير.
"تفاصيل" هي أكثر من مجرد مجموعة قصصية
"تفاصيل" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي رحلة في العوالم الإنسانية، صرخة ضد الظلم واليأس، واحتفاء بالإنسان البسيط. تدعونا لنرى الجمال في التفاصيل والأمل في الأوقات الصعبة.
بعض الملاحظات:
- تصوير واقعي: يسلط العمل الضوء على الواقع بشفافية، حتى وإن كان مؤلماً.
- وضوح اللغة: تتميز اللغة بالبساطة والوضوح، مما يسهل التواصل مع القارئ.
- العمق الفكري: تحمل القصص دلالات ومعاني عميقة تدعو للتأمل والتفكير.
- تأثير الشخصيات: تظل الشخصيات عالقة في الأذهان بفضل واقعيتها وبُعدها الإنساني.
تحليل موجز لإحدى قصص المجموعة (عمارة تحت الحجر)
بعد قراءة القصة استمالني أسلوب الكاتب وبراعته في استخدامه سيكولوجية الحجر.... وقد حفّزتني لكتابة تحليل بسيط لهذه القصة الجميلة التي أعلم واعتقد أنني لن أفيها حقها في التحليل... هذه محاولتي الأولى في هذا المجال... وآمل أن تروق لصاحب النص لأنه يعد من أكبر وأفضل كتّاب القصة القصيرة.
عمارة تحت الحجر، تأتي تحت تصنيف أدب العزلة الذي من خلاله يوظف المؤلف مصطلح العزلة الذي يعد محفزًا سيكولوجيًا لإنتاج نموذج توصيفي، ووصفي للتعبير والبوح، كما أنه يخلق نوعًا من الصدمة الشعورية تضطرب من خلالها الصورة النمطية لدى المتلقي سواء على مستوى الوعي أو التفكير، وبالتالي يؤدي إلى إرباك في معتقداته الوجدانية والعقلية فتفتح له المجال للتأمل والتأويل.
في هذه القصة يوظف جمعة شنب سيكولوجية الحجر وما له من تأثيرات، فالحجر يولّد لدى الإنسان شحنات انفعالية يصعب التحكم بها، فتتولّد عنها أعراض نفسية مثل الخوف والقلق واضطراب المزاج واضطراب النوم.
جمعة شنب في مجموعاته القصصية يبحث عن العوالم الداخلية للإنسان، ودائم الإفراط في الخيال إلى حد لا يقبله العقل، وهو ما أطلق عليه الدكتور محمد القواسمة في إحدى ندوات جمعية النقاد الأردنيين، مصطلح الاستحالية، فهو الإفراط بالخيال، وكذلك عدم إمكانية وجود الشيء أو حدوث الفعل على أرض الواقع.
تلتقي هذه القصة مع بعض قصصه في مجموعته (قهوة رديئة) مثل قصته (محكمة) و(خلاص)، وكذلك تتوافق مع ما كتبه في تصدير مجموعته بنت الحرام "إن عليّ أن أفعل شيئاً حيال هذا السكون المقيت، كأن أقوم عن الكرسيّ، وأخبر الجدار أني غير مرتاح لانتصابه في وجهي طوال الوقت.. عليّ أن أهمس في أذنه: إنه إن لم ينصرف، فسأنصرف أنا"؛ فالتصدير كان حالة استشراف مستقبلي، وتطابق لما نعيشه الآن من حجر إجباري.
بالنسبة لكريم حاله حال أي شخص محجور عليه، ولقد بدت آثار الحجر النفسية تظهر لديه، فقد تولد عنده شحنة انفعالية قوية اتجاه ليلى ومنشوراتها العديدة، ولم يستطع التحكم بنفسه والتقليل من هذه الشحنة، فجال في خاطره أن قتل ليلى هو الحل الوحيد للتخلص من سماجتها ومن منشوراتها البذيئة، وكذلك رسائلها المتكررة. وإن استخدام الرقم (11) له دلالاته النفسية فتكرار الرقم واحد يعزز نظامًا عصبيًا شديد الحساسية، وكذلك يرتبط بالخيانة وبالجانب الجنائي، وهذا ما تنبه له القارئ من خلال سرد الأحداث وما يجول في خاطر كريم من جريمة قتل ليلى.
ولو أتينا القصة من باب الفوضى، والتي تعبّر عن موقف الإنسان من الوجود ومن الآخر ومن ذاته، نجد أنها تمثلت في سرد المؤلف للأحداث، وتنقله بين الماضي والحاضر، والعودة إلى ماضي كريم منذ الطفولة وما عاناه من قسوة والدته ووالده، وتأثير ذلك عليه في الحاضر، حيث إن الكوابيس تلاحقه وتجثم على صدره ليستيقظ لاهثا يستنشق الهواء بقوة، فأحداث القصة الفوضوية صنعت لدى المتلقي نوعًا من فوضى المشاعر تعاطف مع كريم على الرغم من تفكيره بالقتل، وكره ليلى على الرغم من أنها الضحية. بالرغم من أن ليلى أيضًا تعد ضحية لهذا الحجر، وقد تولدت أيضا لديها شحنات انفعالية، وما منشوراتها سوى تنفيس عن ضغطها النفسي، وربما أرادت التسلح ببعض القيم الإيجابية مثل التكافل الاجتماعي والتضامن والتعاطف، للتخفيف من تلك الشحنات الانفعالية، لذلك تواصلت بكثرة مع سكان العمارة.
وما أن ينتهي القارئ من القصة حتى يصدم بالنهاية التي جاءت على غير المتوقع، فقد كسر المؤلف أفق توقع المتلقي بموت كريم مختنقًا، فقلب الموازين الاجتهادية، محدثًا تشويشًا لوعيه الذي كان ينتظر إلقاء القبض على كريم بسبب جريمة قتل بشعة، ليفاجأ بوجوده مقتولًا خنقًا.
وتبقى الأسئلة معلّقة في ذهن القارئ: هل قتل أحدهم كريم؟ أم قتلته كوابيسه التي كانت تراوده؟
نهاية غير متوقعة، ومفتوحة التأويل، أعدتها سيكولوجيا الحجر... ويبقى السؤال معلّقًا: لماذا مات كريم وعاشت ليلى؟
أخيرًا "تفاصيل" هي إضافة قيمة للأدب العربي، وهي شهادة على موهبة جمعة شنب وتمكنه من أدواته، أتمنى له المزيد من التألق والإبداع.
***
د. نهال عبد الله غرايبة