قراءات نقدية

عدنان حسين أحمد: "حيّ الفزّاعات" وتعدد القراءات النقدية

يمكن قراءة هذا الفيلم وتحليله على مستويين أو أكثر لما يتوفر عليه من بنى جمالية وفنية وتقنية. ومع ذلك فإننا سنتوقف عند مستويين فقط، الأول واقعي، والثاني رمزي. ففي القراءة الواقعية يكشف لنا المخرج حسن علي محمود بأن ميران (عبدال نوري) هو رجل إقطاعي كردي يهيمن على مناطق زراعية واسعة، كما يسيطر على سوق الحبوب في المنطقة، بحيث أن مخازن الحبوب لديه لا تكفي للغلة التي تنتجها مزارعه كل عام، لذلك لجأ إلى استغلال المخازن والغرف الفارغة لدى سكان القرية القريبة من مزارعه كي يحزّن فيها كل ما لديه من حبوب مقابل مبالغ مادية تافهة لا تُذكر سوف يرفضها بعضهم في خطوة أولى للتمرّد عليه والثورة ضده.

حينما يبذر الفلاحون (الأقنان) أراضيه الزراعية الواسعة التي ستهاجمها أسراب من الغربان التي تقتات على هذه البذور شأنها شأن بقية الطيور الموجودة في تلك المضارب القروية المحيطة بمدينة أربيل. فالغراب ضمن المستوى الأول لا يحمل أية دلالة أو رمز للشؤم، لأن المخرج نفسه لم يرد لهذه الدلالة أن تترسخ في ذهن المتلقي. ويبدو أنه من خلال الأبحاث التي أجراها تبيّن له أن الغراب في الصين واليابان وما جاورهما من بلدان أخر يعتبرون الغراب طائراً للحكمة والحب، ولا علاقة له بالشؤم كما هو موجود في ثقافتنا العراقية أو الشرق أوسطية في الأقل، لذلك فإن هذه الغربان الكثيرة التي ستهاجم هذه الأراضي الزراعية بهدف إطعام نفسها لا غير!814 Poster

يطلب ميران من (حمه) وكيله في العمل أو (سركاله) على الأصح أن يبحث معه عن وسيلة لطرد هذه الغربان المهاجمه عن مزارعه فكانت الطريقة الأولى هي نصب كمية كبيرة من الفزّاعات بحيث صارت المزارع حيًا كبيرًا تقطنه الفزّاعات، لكنها لم تُخف أي غراب، بل أن الغربان كانت تتمادى كثيرًا وتقف على رؤوس الفزّاعات وتنقر عيونها. وحينما لم تنفع هذه الطريقة لجأ ميران إلى الضابط المسؤول عن القوات العسكرية الموالية للنظام الدكتاتوري السابق والمتواجدة في مدينة أربيل وطلب منه أن يرسل عدداً من الجنود المدججين بالأسلحة لكي يطلقوا النار على هذه الغربان المهاجمة التي باتت تؤرق الإقطاعي وتقض مضجعه. وبالفعل يأتي الجنود ويطلقون النار على أسراب الغربان العنيدة التي ترفض أن تغادر هذا المكان اللعين. وحينما يعجز الجنود بأسلحتهم النارية الكثيفة عن إيقاف زخم الغربان المهاجمة يستعين ميران بأطفال القرية المجاورة حيث يجمع له رجاله عدداً من الأطفال الذين يضعون حصى في علب معدنية تحدث أصواتاً قوية، لكن هذه الأصوات تذهب سدى ولا تُبعد الغربان عن مزارع هذا الرجل المتجبّر. يتابع الأطفال حمامة كانت موجودة لديهم، وحينما تخترق حاجز الأسلاك الشائكة يطأ أحد الأطفال على لغم فيفارق الحياة، عندها يتأزم الوضع ويثور بعض أفراد القرية التي ثارت من قبل حينما طلب منهم الإقطاعي أن يخلوا له بعض المخازن، وربما كان الرجل الأكثر تمرداً وعناداً هو أحد الشيوخ الكبار هو الشخص الذي وصفه ميران بأنه (نصف رجل) لأنه كان أعرجاً ولا يقوى على السير الحثّيث. لم يفلح حمه في كل محاولاته المستميتة أن يبعد الغربان عن مزارع سيده، كما أنه لا يتورع عن سرقة طعام الأطفال ويستولي على أجور الفلاحين الذين يعملون في مزارع الإقطاعي، وكعقاب سماوي له يدوس حمه على أحد الألغام فتقطع ساقه اليمنى.

تدهم ميران الكوابيس اليلية التي تأخذ شكل الفزّاعات المخيفة التي تحرمه من النوم وتؤرق نهاراته المليئة بالخوف. فالظلم لا يدوم حتى وإن استمر لسنوات عديدة، ولابد للمظلوم أن ينتصر في نهاية المطاف. تتأزم الأوضاع النفسية لميران حينما يبدأ بمشاهدة الفزّاعات في كل مكان من القرية وهي تتحدث في شؤونها الخاصة والعامة وكأنها كائنات بشرية ناطقة فيقرر الإقطاعي مغادرة القرية إلى الأبد مهزوماً مدحورا تلاحقه الفزاعات في حلّه وترحاله.

أما القراءة الرمزية وهي الأقوى والأدق فالإقطاعي هو رمز للسلطة الحاكمة المستبدة التي تتلاعب بمقدرات الناس وتبتزهم وتقود أبناءهم إلى الموت المجاني. بينما يعلب حمه دور السركال أو الوكيل والقائم على أعمال سيده، أما أفراد حمايته فهم الحلقة الضيقة التي تحيط بهذا بهذا المستبد المتجبر الذي أهلك الحرث والنسل وسبّب العديد من الفواجع لعامة الناس. فالمدينة ليست أربيل حسب، وإنما يمكن أن تكون العراق كله ضمن هذه القراءة الرمزية.

تلعب الغربان دوراً مهماً في الفيلم ضمن قراءتنا الرمزية له. فهذا الطائر هو رمز للشؤم تارة، كما يمكن أن يكون أداة عقابية يستعملها الله (جلّ في علاه) في أويقات غضبه، وهي تذكّرنا بالطير الأبابيل التي لا ترمي هنا جنود ميران بحجر من سجّيل وإنما هي تأكل حبوبه التي يبذرها الفلاحون الأقنان في مزارعة الشاسعة. فالطير هنا يأخذ معنى رمزياً مفاده الشؤم أولاً والعقوبة التي ينزلها الله بالمستبدين الظلَمة ثانياً.

لم يكتفِ المخرج بتقنية واحدة، ففضلاً عن الأسلوب الواقعي الذي جسّد فيه النصف الأول من الفيلم، والتقنية الرمزية استعملها على مدار الفيلم أيضاً، إلا أنه لجأ إلى الأسلوب السوريالي (الفنتازي) أو العجائبي حينما بثَّ الحياة في الفزّاعات وجعلها تتحرك وتتكلم وتتصرف مثل بقية الكائنات البشرية وهذا الأمر هو الذي ساهم في تنوع التقنيات والأساليب التي تخللت الفيلم وجعلته يمرُّ مروراً سريعاً وكأننا أمام تحفة بصرية آسرة الجمال.

لا يخفى على المتلقي الذكي أن مخرج الفيلم لم يعوّل كثيراً على الخطاب الأدبي الذي تتوفر عليه القصة السينمائية، وإنما كان همّه وهاجسه الأول هو تقديم فيلم يتوفر على لغة بصرية شديدة الإيحاء، وهذا ما حصل في نهاية المطاف، فليس هناك ثرثرة كلامية، وإنما هناك صور بصرية مدروسة بعناية فائقة.

أكاد أجزم أن فيلم (حيّ الفزّاعات) للمخرج الكردي العراقي حسن علي محمود هو نافذة أمل كبيرة لتحريك عجلة السينما العراقية المتلكئة على الرغم من أن هذا الفيلم يُحيل كثيراً إلى السينما الإيرانية من جهة والسينما التركية من جهة أخرى، وما هذا بمستغرب فكردستان هي المثلث الطبيعي الذي يتوسط العراق وإيران وتركيا، ولابد لمؤثرات هذه الدول أن تصل إلى الفيلم الكردي الذي انطلقت قاطرته على سكّة الإبداع السينمائي، وربما لا نستغرب إن تقدمت هي على السينما العراقية خصوصاً بعد أن أنجز العديد من المخرجين الكرد أفلاماً مهمة باتت تحصد الجوائز في المهرجانات العالمية، والأهم من ذلك أنها باتت تستقطب جمهوراً واسعاً يحترم هذا النوع الرصين من السينما الجادة التي تُعنى بقضايا السواد الأعظم من الناس.

جدير ذكره أنّ حسن علي محمود من مواليد مدينة أربيل، العراق سنة 1968. عمل مخرجًا مساعدًا في أربعة أفلام، وأنتج فيلم "عبور الغبار" للمخرج شوكت أمين كوركي عام 2007. وهو أيضاً المدير الفني لقسم السينما في أربيل. بلغ رصيده خمسة أفلام سينمائية وهي على التوالي: "حيّ الفزاعات" و "شيرين" و "واحد ناقص سبعة"، و "أمريكانو" و "خلف السحاب: تحية للبيشمركة" إضافة إلى المسلسل التاريخي "أديابين".

***

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم