قراءات نقدية
بولص آدم: التحول الداخلي.. قراءة في قصة "مرجان" لقصي الشيخ عسكر

قصي الشيخ عسكر (1951) شاعر وروائي عراقي-دنماركي. وُلد في نهر جاسم بالبصرة، وتخرّج في جامعة البصرة مجازًا في الأدب العربي عام 1973، ثم حصل على الماجستير من جامعة دمشق عام 1986، ودرس اللغتين الإنكليزية والدنماركية في الدنمارك. تنوّعت كتاباته بين الشعر والرواية والدراسات، لكنه في قصة الومضة، أبدع أسلوباً خاصاً يتميز بالاقتصاد اللغوي، والمفارقة الهادئة، والتحوّل الشعوري العميق الذي لا يُعلن، بل يُلمَح.
في قصة "مرجان"، كما في كثير من نصوصه الأخرى، يُكرّس د. قصي الشيخ عسكر جماليات القصة القصيرة جداً القائمة على التكثيف، والمفارقة الداخلية، والتحوّل العاطفي الخفي. لا يعتمد على الحبكة الملتوية ولا على المفاجآت الدراماتيكية، بل يكفيه تفصيل بسيط من الحياة اليومية، يسلّط عليه ضوءًا خافتًا، ثم يتركه يتفاعل داخل وجدان القارئ. إنه من أولئك الكُتّاب الذين يؤمنون أن المفاجأة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من تماسٍ غير متوقَّع مع الداخل: مع الحسّ، والذاكرة، والخذلان، والتعلّق.
نص القصة:
مرجان
بقلم د. قصي الشيخ عسكر – نُشرت بتاريخ: 26 تموز/يوليو 2025 في صحيفة المثقف
قصة ومضة
صداقتي مع مرجان تمتدّ إلى أكثر من عام!
كان يهر إليّ عن بعد
يتمسح بساقي سواء أمشي أم أجلس على أيّة منضدة فارغة أجدها على الرصيف، وحالما يأتي النادل أرمي إليه – قبل أن تمتدّ يدي إلى فمي – بقطع من شطيرة اللحم وكسرة خبز.
يحدث ذلك كلّ يوم تقريبًا
تقرؤ ملامحه جيّدًا فيشيع في نفسي البهجة
حتى إنّي من شدّة إعجابي به سمّيته (مرجان)
صاحب المطعم الطيب ذو الابتسامة الواسعة ارتاح للتسمية وأضاف أنّه لطيف حقًّا لقد طهّر المطعم من الفئران!
ومنذ يومين لم أره
افتقدت مرحه
ومواءه الهادئ وتمسحه بساقي وهو يستقبلني حين آتي لتناول طعامي.
ظننته في الداخل يتابع مطاردة الفئران
وقد صدمت حقًّا حين عرفت فيما بعد أنّ مطعمًا جديدًا افتتح في الشارع القريب الموازي تُقَدَّم فيه وجبات السمك المشوي، وإنّ الرائحة استفزّت مرجان، فرحل إلى هناك!
***
هذه القصة، رغم قصرها الشديد، تمثل نموذجًا مثاليًا لبناء "التحول الداخلي" في قصة ومضة. القط "مرجان" هنا ليس مجرد كائن ثانوي، بل هو رمز لصوتٍ يومي ألفه الراوي. حضور مرجان كان جزءًا من النظام العاطفي للمكان، وعندما يغيب فجأة – بسبب تحوّل في الرغبة – تنفتح في النص مساحة شعورية جديدة: الشعور بالفقد. إن المفارقة المؤلمة تكمن في أن "مرجان" لم يُطرد، لم يُعاقَب، بل هو من قرّر الرحيل، ببساطة، نحو مكان آخر، بدافع الغريزة. ومع ذلك، يترك وراءه فراغًا داخليًا لم يكن الراوي يدرك وجوده.
ومضة عن الحب اليومي الصغير الذي يخونه الواقع ببرود... دون أن يرتكب أحد خطأ.
هذا النمط من التحول العاطفي الصامت يعيدنا إلى نصوص لكُتّاب عالميين اعتمدوا اقتصاد اللغة والتركيز على لحظة واحدة مشحونة بالمعنى. من بينهم ريموند كارفر Raymond Carver في قصته "Little Things" (أشياء صغيرة)، المعروفة أيضًا بعنوانها الأصلي "Popular Mechanics" (الميكانيكا الشعبية)، حيث يتكثف الألم العميق خلف شجار منزلي بسيط، ويُختزل انهيار العلاقة في مشهد تقاسمٍ عنيف للطفل. لا يُصرَّح بالتحوّل، لكنه يتجسد في الصمت، في طريقة التوصيف البارد، وفي النهاية المعلّقة. كما تشبه "مرجان" أيضًا قصة "The Basement Room" (غرفة القبو) لـ جراهام غرين Graham Greene، التي تدور حول صبيّ يكتشف هشاشة عالم الكبار من خلال مشهد خيانة بسيط يغيّر نظرته للعالم. الحدث ليس ضخمًا بحد ذاته، لكنه كافٍ لإحداث شرخ داخلي لا يُمحى. ونجد مثالًا موازيًا عند فرانسيسكو إيسبينوزا Francisco Espinoza في قصته "La Ventana Abierta" (النافذة المفتوحة)، حيث ينتظر صبيّ من نافذته يوميًا شيئًا لا يأتي، حتى تُغلق النافذة ذات يوم، وينتهي النص. لا يُقال شيء كثير، لكن الإغلاق الصامت يحمل دلالة وجودية حاسمة.
في جميع هذه القصص، المفاجأة لا تأتي من الخارج، بل من التغير الشعوري الذي يخلخل التوازن النفسي للشخصية. ويتجلى هذا النهج أيضًا لدى أليس مونرو Alice Munro، في قصتها "Perspective" (وجهة نظر) من مجموعة Dance of the Happy Shades (رقصة الظلال السعيدة)، حيث يتغير منظور البطلة للعالم بهدوء داخلي نتيجة موقف يبدو عاديًا. مونرو، مثل د. قصي، لا تشرح التغيير، بل تتركه يتسرّب عبر الإيماء والفراغات. الحدث لا يهم، بل أثره العاطفي. في "Perspective" كما في "مرجان"، لا ينهار شيء ظاهر، لكن ما يهتز هو البنية الدقيقة للتعلّق، والثقة، والإحساس بالاستمرارية.
قصة "مرجان"، إذًا، ليست عن قط فقط، بل عن الصمت بعد الغياب، عن أنفاس الكائنات التي أحببناها دون وعي، ثم تركتنا دون وداع. ومع أن التحول الداخلي لا يُصرَّح به، فإن القارئ يشعر بانزياح في الوجدان، كأنه خسر شيئًا. هذا النوع من الكتابة لا يحتاج إلى ضجيج، ولا إلى مفاتيح تفسير، بل يترك المجال مفتوحًا للتأويل، ويمنح الأدب وظيفته النبيلة: ملامسة الإنسان من الداخل.
إن قصي الشيخ عسكر، في "مرجان"، يقدم درسًا نقيًا في فن قصة الومضة، يؤكد فيه أن قوة الأدب لا تقاس بعدد الصفحات، بل بما تُحدثه في النفس من أثر. وفي اقتصاده الشديد، وفي مراهنته على اللحظة، وعلى التفاصيل العابرة، يضع نفسه في حوار عميق مع كبار كتّاب القصة في العالم.
***
بولص آدم