قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: مونودراما (قمر أحمر) في سماء بغداد

ينطلق العرض من رصد ومعايشة عميقة لواقع مرير مضى، اعاد قراءته وصياغته مؤلف الرواية جمال حيدر واعدها للمسرح جميل الرجه، تمت المعالجة على وفق رؤية المخرج (علي عادل السعيدي) وأداء الممثلة (همسة هادي)
المسرحية ذات الصوت الواحد (مونودراما) هي مسرحية بناء الشخصية المنفردة التي تطرح أفكارها ومشاعرها وتتصارع مع ذاتها و/او مع محيطها الخارجي، ذهبت المعالجة النصية والرؤية الإخراجية في هذا العرض إلى انشطار الشخصية، وعرضت حالات ومواقف لعدة شخصيات تأتلف بين حين وآخر مع بعضها وتعود لتظهر كبنية واحدة هي ذاتها بنية المسرحية، ذلك ان تكوين الشخصية في النص المونودرامي يتماهى مع مكونات المسرحية (الفكرة والحوار والحكاية والجو النفسي) مما يقتضي جهدا اخراجيا وتمثيليا أعلى من تقديم عرض تتواجد فيه عدة شخصيات يؤديها عدد من الممثلين، لأن بناء العرض سيكون موزعا عليهم ويشاركون في تقديم الفكرة وطرح العواطف والانفعالات وصناعة الجو العام، يتطلب عرض المونودراما معادلة ميزانسينية تعتمد على ممثل واحد في التوزيعات الحركية وتصميم وتنفيذ المنظر والتفاعل معه ووضعه في المشهد بما يملأ الفضاء بثراء وحيوية وإشباع بصري.
انطلقت بداية العرض من فضاء ينيره القمر بلونه وتضاريسه الطبيعية، ولكن المكان قاتم وشبه مظلم، تكونت صورة المشهد من حطام ألواح أسطوانية بإيحاء وجود كتابات مسمارية، أو جذوع نخل خاوية وأكياس مواد بناء و مرايا معلقة بحبال ومدرج بثلاث مستويات، يرتفع في المكان ضجيج أصوات محركات ومنبهات السيارات وصافرات قطارات، الشخصية الوحيدة تأتي من اعلى وسط الخشبة وتنزل من مرتفع إلى وسط الوسط، لتبدأ الغناء باللهجة الشعبية العراقية لتقترب من المجتمع الذي تقدم نفسها اليه، وبمرور الزمن يبدو انها من منبثقة من رحم المجتمع وذلك بتكرار اللهجة والخطاب المباشر للجمهور، وعرض الحالات المتعددة فهي تقول: (أنا روح هائمة، بلا بداية او نهاية، هائمة في التيه والألم، احمل في صدري نغما حزينا)
عمل التأليف والإخراج على تشظية الشخصية الواحدة إلى أجزاء من شخصيات متعددة ، وكل شخصية عرضت حالة مكثفة واحدة، أول هذه الحالات هي حالة الشاعر الثمل الذي ينشد شعرا في الطرقات، الحالة الثانية هي المجنون الذي ينطق حكما، ثم الحالة الثالثة: التعرض للاغتصاب ، وبعدها تتصالح مع نفسها لتخاطب الناس المارة / الجمهور الحاضر في القاعة بقولها: (عرفت كل لحظات حزنكم، بكائكم فرحكم ، لقاء على مر السنين … أتحسس خطواتكم كأنكم تركتم أرواحكم هنا) تعود لتجسيد حالة رابعة: الألم من المرض والحزن العشق والدخان والحرائق، ومنها تدخل الشخصية إلى حالة خامسة: الشهيد وأم الشهيد تودع ابنها وسط الدموع والحسرات، تقول عن الشهيد: (لكنني أراه في كل زاوية مظلمة، أراه في كل دمعة تنسكب على هذا التراب، أراه في قمرنا الاحمر) ومن هنا تبدأ نقطة صيرورة القمر الأحمر وكأنها نقطة انطلاق الصراع الدرامي المتصاعد نحو الذروة، بهذا المشهد تمكن الإخراج من تجسير الهوة بين العرض والمتلقي بجمع شتات الحالات الاربعة السابقة التي بدت غير متصلة، وبلورتها في صورة الشهيد وما لها من صدى غاية في الحزن في روح المتلقي.
الحالة السادسة: بائع الكتب الثرثار الذي يستعرض عنوانات كتبه وينادي على المثقفين، دون استجابة منهم، لا احد يشتري كتب، المثقفون غير متواجدين.
وقد تصدى العرض إلى حالات أخرى باللهجة الشعبية العراقية حينا وحينا باللغة العربية الفصحى المحملة بالصور الشعرية، بالغناء والمواويل الشجية، وبفضل هذا التنويع في لغة العرض المنطوقة تخطى الإخراج الرتابة السردية للنص، وجاء التعزيز الدرامي بمساهمة السينوغرافيا في صناعة عرض (قمر أحمر) بفاعلية كبيرة.
المنظر الواحد الكتلة المنظرية شكلت خلفية ثابتة للعرض ولم تتحرك ولم يتم تفعيلها والتعامل معها إلا في بداية العرض ونهايته، في حين تم تفعيل قطعة الأثاث (المصطبة) بصورة ملفتة، فقد تعددت دلالات استخداماتها (للجلوس، الاغتصاب، تابوت الشهيد، منضدة بيع الكتب …) وكذا الحال مع الورد الأحمر ومصباح الموبايل وقطع المرايا المتأرجحة.
تجلت مهارات الممثلة (همسة هادي) في الانتقال بين الحالات الكثيرة بمرونة عاطفية وحركية عالية، وساهمت بوضوح في الإيهام الشعوري، واثارة التفاعل وصنع المزاج العام للعرض، الانتقالات الصوتية من شخصية إلى أخرى، أظهرت قدرات تعبيرية بالصوت والالقاء، ففي مطلع الأداء الصوتي كانت صوتا مرتجفا رقيقا ، وانتقل إلى الخطابية بصوت مرتفع، وبعدها إلى البكائية، لقد تمكنت من تحقيق نقل الصورة الصوتية وتأثيراتها، فضلا عن سرعة تغيير الأزياء في مشهد بائع الكتب، والتعامل مع قبعة إطفاء الحرائق … وغيرها من الاشتغالات التي أظهر قدرات الممثلة التي فقدت شيئا من حضورها في المشهد الأخير الذي تزاحمت فيه تقنيات الخشبة بكثافة إلى جانب مشاهد الداتاشو والمؤثرات الصوتية والضوئية، التي أخذت تركيز المتلقي وجذبته إليها، وتحديدا منظر الانفجارات (انفجار الكرادة عام 2016 خلف أكثر من ثلاثمائة شهيد) وتحول القمر - الثيمة المركزية للعرض - إلى اللون الأحمر، وتسيّدَ الخشبة بصورة صادمة، وتحيط به غيوم حمراء، بالتزامن مع عروض صور وأفلام وثائقية للانفجارات وما تخلفه من خراب وحطام وشهداء وجرحى وعواطف وانفعالات حزن وغضب.
ترجمة الحوارات في المشهد الأخير إلى الانكليزية تعولم رسالة العرض وتسعى إلى تدويل قضيته، ولا يريد القائمون على بقاءها في الإطار المحلي والفضاء الوطني بقدر ما يريدون جعلها قضية انسانية عامة، ومن جهة أخرى قد تبدو زائدة ولا ضرورة لها.
في نهاية العرض، يبرز تساؤل أمام المتلقي: من هي هذه الشخصية التي شاهدها في العرض التي خاطبتنا مرارا بقولها: أيها المارون … أيها المارون .. ؟ اذ لابد من تحديد هويتها التي لم تفصح عنها بوضوح طوال زمن العرض، لتأتي إجابة التحليل: أنها ليست شخصية امرأة، أنها المكان والمدينة والعالم بأجمعه تخاطب المارين بها، تجسدت بملامح وصوت أنثى لإيصال فكرة مفادها: أن هذه الشخصية/المدينة تجلت من عمق المأساة وشهدت وعرضت حالات اهل المدينة كلهم، ثم انصرفت من حيث أتت.
هذه التجربة الثانية للمخرج علي عادل والممثلة همسة هادي مما يجعلهما ثنائيا منسجما متوافقا في ابتكار لغات العروض المونودرامية، ويضاف اليهم الفريق المتكامل من التقنيين والفنيين الذي دعم العرض بالمزيد من العناصر الجمالية.
لابد من الإشارة والإشادة بدعم نقابة الفنانين العراقيين في إنتاج الأعمال الفنية وتعشيقها مع دائرة السينما والمسرح.
ملاحظة عامة: دأبت عروض كثيرة على ادخال الجمهور وسط ظلام القاعة وستارة المسرح مفتوحة وتشغيل المؤثرات الصوتية وغالبا يتواجد الممثل/ون على الخشبة. حتى بات هذا التقليد هو القاعدة والاستثناء هو دخول الجمهور واستقراره في قاعة مضاءة والستارة مسدلة .. حبذا لو تم الرجوع إلى التقليد المسرحي الأصلي، إلا في حالة الضرورة الدرامية.
ملاحظة اخيرة: عرض اي مسرحية ليومين أو ثلاثة ثم ينطفئ، لا يصنع جمهورا، ابسط متطلبات صناعة الجمهور هو استمرار العروض حتى آخر متلقي.
عرضت المسرحية على قاعة مسرح الرشيد في العاصمة بغداد، يومي الأربعاء والخميس ٢٣-٢٤ /٤/ ٢٠٢٥، زمن العرض أربعون دقيقة. انتاج نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب