قراءات نقدية
عبد الجبار نوري: هاجس ثيمة الحارة في رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ !؟
ثمة سؤال يفرض نفسه منذ سنة 1988 سنة حصول الأديب الروائي نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهي الجائزة اليتيمة في مصر القيمية والمعرفية وكما يقال مصر أم الدنيا، ولم تتكرر وتحصل لأديب قبلهُ أوبعده !
لماذا مُنح نجيب جائزة نوبل؟
- مُنح محفوظ الجائزة بأستحقاقاتهِ العلمية والمنطقية والموضوعية بمهنية أحترافية واقعية تشهد لهُ غزارة نتاجاته المعرفية والقيمية الناطقة بالأنسنة.
-لم يعد نجيب محفوظ كاتباً متميزاًعميق الصلة بمجتمعهِ بقضاياه وتحولاتهِ بل أصبح عظيماً بنظر العديد من أعمدة الأدب والثقافة الأنسانية على مساحة كوكبنا الجميل وحيث الأعلام العالمي الذي أقتحم (عالم نجيب محفوظ) بمانشيست جريدة اللومانتيي ألواسعة الأنتشار} الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي والتي دعتهُ في ثمانينات القرن الماضي قائلة: {صباح الخير يا ملك الرواية }!؟
- إن كتابة الرواية فن من فنون الكتابة تضاف لها الموهبة ولا تتوقف على هذه الأسس فقد أضاف لها نجيب محفوظ التجديد خصوصا شخصنتهُ المعصرنة.
- فهو العزيز في زمن الجدب صاغ للأدب العربي والعالمي مفهوم الحداثة ببراعة فائقة بناءً ومادة وتكنولوجية مع مقاربات في التطور الجمعي السوسيولوجي للوصول إلى أعادة بناء الأنسان المصري الحداثوي بأقحامهِ في العولمة الرقمية الحديثة ويجعل لهُ رافعة واحدة هو: (التعليم).
- وحصل محفوظ على كاريزمية واسعة ومدهشة محلية وأقليمية وعالمية بسر كسب اليمين والوسط واليسار والقديم والحديث.
- تمكن من فك شفرة كارل ماركس في التغييربتفهمهِ الفلسفي العميق لضرورة ظهور "الشعوربثقافة الوعي والأدراك" بتردي الوضع الطبقي أولاً ثُمَ السير الطوعي الثوري في سكة الألف ميل للوصول بمصر إلى مصافي العالم المتحضر وتوازيها.
- فقد شغل ذكرهُ الأمة الأدبية والثقافية بعالمهِ الروائي والحكاواتي المتسم بسيمياء رموزهِ وشفراتهِ المراوغة والتي غدتْ نسغها الصاعد للسفر التراثي لعصرنا الحاضر بهيئة طوفان معرفي ثر وثري لا ينضب من الأعمال الرصينة ذات الشفافية العالية الصاعدة لسفر الأمة الثقافي.
- ولآن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التأريخي والقصصي الشعبية والواقعية، ولآن عالم محفوظ يضمُ بين جنباتهِ عدة مدارس في آنٍ واحد فهو ينحومن الواقعية النقدية إلى الواقعية الوجودية ثُمَ إلى الواقعية الأشتراكية أضافة إلى تزويق الرواية بجماليات السريالية.
- فهو متحف موسوعي يجمع أتجاهات النقد الأدبي التأريخية والبنيوية كما تحتوي رواية "أولاد حارتنا" بالذات على مفارقات تظهر ما بين التنوع والتكرار والتضارب وتناقض الأضداد فهوقدم لنا نموذج فكري حديث مختوم عولمة وحداثة والذي سماهُ الناقد الراحل الدكتور الطبيب حسين سرمك حسن بنقد النقد.
- وجدتُ ثيمات الأنسنة والكفائة الأدبية في جميع رواياته خاصة أولاد حارتنا والحرافيش ومقارباته من الأنسان المصري وهو يطحن بماكنة الصراع الطبقي.
- تمكن من أن يجعل من الكلمات (كائن حي) عجز الأدباء المعاصرون مجاراتهِ.
- أكد في روايته أولاد حارتنا (ثيمة الحارة)التي توازي جغرافية العالم ولكنها الحقيقة تدور الأحداث بدراميتها الموجعة على أرض الكنانة مصر أم الدنيا.
- فهو كاتب البرجوازية الصغيرة والفقيرة المعدمة التي تكافح لأجل البقاء ولآجل أثبات وجودها وهو أكثر فهماً للطبقة الوسطى وأقدرهم تعبيراً عن مشاكلها وكشف واقعها الطبقي بملاحظة حركة التأريخ التطورية الحتمية، فهو {ديمقراطي تقدمي في مجتمع شرقي غيبي.
ملخص القصة
تبدأ ببطل الرواية (الجبلاوي) كان شخصاً عنيفاً صلباً متسلطاً ومزواجا لهُ الكثير من النساء – وهنا عقدة الرواية في أحتدام الجدل بين الأوساط الدينية بأن محفوظ يقصد بالجبلاوي الذات الألهية لذا كفروا الكاتب ومنعوا نشر الرواية، وتعرض لحادثة أغتيالٍ فاشلة في 14 تموز1994 من جانب أنصار التيار الديني المتطرف.
وحسب أعتقادي الفكري وقراءاتي المتعددة للرواية وفي أزمنة مختلفة: أرى أن محفوظ يقصد بالبطل رمزيا بالحكومات المستبدة الذين حكموا مصر الفراعنة والمماليك والأتراك والأسرة الفاروقية وعساكر أنقلاب تموز، أما الأخوة عباس وجليل ورضوان – عدا أدريس – يمثلون الطبقة الضعيفة والمستلبة في المجتمع المصري. أنتهج فيها أسلوباً رمزياً يختلف عن أسلوبه الواقعي، فهو ينحو في هذه الرواية جاهداً على أبرازالقيم الأنسانية التي نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية، ونظرية العقد الأجتماعي لروسو وربما أعتبرتْهُ نقداً مبطناً لبعض ممارسات عساكر الثورة والنظام الأجتماعي الذي كان قائماً.
وعلى العموم كانت أكثرجدلاً من حيث المضمون بين الأوساط الدينية بالذات، حاول الكاتب أن يصوّرالرواية بعرض تراجيدي مأساوي للفقراء والمعدمين ومدى الظلم الذي لحق بهم وبالبشرية عموماً منذ طرد آدم من الجنة وحتى اليوم حيث الأشرار يعيثون فساداً في الأرض ويستبدون ويستعبدون الضعفاء وقد غلقوا أبواب الأمل أمام الطبقات المسحوقة أن تتمتع من نصيبها في الحياة.
سلط ضوءاً على العبودية والقهر مبيناً وبجرأة فائقة حركة التأريخ في الصراع الطبقي للمجتمع المصري الذي يعيش الخوف والجوع ووضوح الفروق الطبقية بشكل مذهل ورهيب، ووضحها محفوظ ببراعة بليغة وهو يحرك خيوط شخوص الرواية في توزيع الأرث من قبل رب الأسرة بصورةٍ غير عادلة تكتنفها الأنتقائية والأزدواجية والتحيّزْ والتعسف بأعطاء الحظ الأوفر ل (أدهم) والذي يقصد به آدم وحرمان (أدريس) الذي يقصد به أبليس، وبهذه الرمزية وهي الصفة المتعارف عليها عند الحكومات المستبدة، وهي أدانة للنظم الشمولية والدكتاتورية.
وأنهُ لم ينتقص من الدين ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل هو أستعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية على مساحة جغرافية مصر والعالم العربي، وما كانت حكاية (عرفة) في نهاية الرواية والتي رسم له شخصية معرفية وموسوعية لكي يجلب أنتباه القاريء والمتلقي بأن رافعة التغيير تكمن في (التعليم والمعرفة القيمية) الذي يمثله (عرفه) وجعل العلم البلسم الشافي والطريق القويم ألى " أولاد الحارة " في النهوض من كبوتهم، ولعل أهم شاهد على عدم تعرضه للأديان وبالذات الدين الأسلامي هو ما جاء في الصفحة 583 من الرواية (---الدين الذي هو منبع قيم الخير والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا).
وكان يرى أن الدين قد أُستغلّ ووظّف توظيفاً خاطئاً أدى ألى شقاء الأنسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى والفتوحات الأسلامية في القرون الماضية وتعسف الدولتين الأموية والعباسية وعبث ولصوصية الدين الراديكالي بعد 2003.
وأعتقد بأن أتهام محفوظ بالزندقة والألحاد هو محض أفتراء على الرجل حسداً وغيرة لنجوميته الأدبية المتألقة وهو الأديب العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل في الأداب ونتاجاته الثرة التي وصلت ألى أكثر من خمسين بين روايات وقصص وبحوث ونقد، وسوف أفند بطلان هذا الأتهام الظالم بأن محفوظ في مجمل سير الرواية آمن بموت جبلاوي، وهل تموت الآلهة؟؟؟وكذا بطله العلامة (عرفه) مات وفنى كجسد وبقيت معارفه شاخصة ألى الأبد، وهنا أتكأ محفوظ على ركيزتين في أحترام الثوابت الدينية وهما { الخلود لله والموت والفناء للبشر وركيزة العلم }، وثم أصطفاف أعداء الرجل من رجال الدين والأزهريين والمد الأخواني ووعاظ السلاطين وجماعة الوفد وعساكر الثورة البورجوازية ورجال الحقبة الملكية التي عاصرها الكاتب والذين أخضعوا مصر للمستعمر، وهو الذي سفّه آراء من أعتقد ويعتقد أن الأمور سوف تتغيّرْبعد ثورة 1952 معلناً حقيقة تأريخية (أن صنماً هُدم ليبنى صنماً آخر أو بعبارة أدق ذهب الظالم وبقي الظلم) وعرض بشكلٍ جزئي سلبيات نظرية الحق الألهي في فرض عبودية بطل الرواية الجبلاوي على أسرته وهي رموز تشبيهية لدكتاتوريات حكام العرب قديما وحديثا، وأن تشبيهات الكاتب لشخوص الرواية بالرموز الدينية قد خدم النص والفكرة التي أنشيء من أجلها المتن.
أخيراً/ لقد آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم وأن يلقوا بالتخلف والجهل والأنقياد والعبودية بعيداً، هذه هي الروح التي تبنتها الرواية " أولاد حارتنا " فهو لم يدعو للحرب بل للحوار والسلم لذا أنهُ أستحق جائزة نوبل.
وأن الرواية تبشر بيومٍ يستطيع فيه الأنسان أن ينتصر على السلطة الغاشمة وأدواتها الفتوات والبلطجية وعاظ السلاطين والجهل وكانت آخر كلمات الرواية والتي حركت مشاعري وأحاسيسي من الأعماق { --- لكن الناس تحملوا البغي ولاذوا بالصبر وأستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضرّ بهم العنف قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار
***
عبد الجبار نوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
حزيران 2024
.........................
هوامش البحث
- جبرا أبراهيم جبرا – الأسطورة والرمز – ترجمة – بغداد 1973 ص 258 -نت
-سليمان الشطي – الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ- الكويت 1976 ص29
- لويس عوض – دراسات في النقد والأدب – القاهرة ص 345 – ص346
- احمد ابراهيم الهواري - مصادر نقد الرواية في الادب العربي الحديث – القاهرة 1979.
- ادور الخراط – عالم نجيب محفوظ –مجلة المجلة 1963 – ص 37