قراءات نقدية

أحمد الشيخاوي: سردية حمْل الماء على معنيَيْن في رواية" المنسيون بين ماءين"

بنظير هذه السردية المغرقة في خطاب الفوضوية البانية، تبصم الروائية البحرينية ليلى المطوّع، كصوت واعد في المشهد الإبداعي العربي، ملامح منجزها السردي المتشابك الأهداف والحمولات والرؤى والمتون، والذي انتقت له عتبة: المنسيون بين ماءين.

وهو عمل صادر عن دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية، والواقع في434صفحة من القطع المتوسط، والمتجزئ إلى فصول نجردها بشكلها التصاعدي:

سليمة، ما حدث لناديا، وأد الماءين، سيرة عين لم تدرك أمومتها إلا مؤخرا، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الأولى، ناديا، إيا ناصر، ناديا، ناديا، إيا ناصر، ناديا، سيرة عين اسمها حوز والعناق الأبدي، ناديا، سيرة السكاكين ما بين مد وجزر، سيرة الذنب/ يابسة اغتصبت، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الثانية، ناديا، يعقوب، ناديا، سيرة حالة متواطئة مع الإله خنقت بالرمال، ناديا، أدبيات أهل الجزر، الواقعة الرابعة، ناديا، درويش، ناديا، درويش، سيرة نورس يبحث عن بحره، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الخامسة، ناديا.. شيء يسردني، أيوب، ناديا، ناديا، سيرة"ثامار"/ غل النخيل ونخلة فاقدة للذاكرة، حراس النخلة، نادية مع حراس النخلة، سيرة ماء منحسر قبل كل شيء، ناديا تروي عن تداخل الذاكرتين، ناديا، سيرة البحر، نادياــ ثامرا، ما جاء في البيان بعد غرق الجزية، نادياـ ثامارا.

إنه ومن دون هذه الجدولة، ليتوه المتلقي، في غمرة ازدحام الشخصيات، وزئبقية الأحداث، كون شخصية ناديا، هنا، الأكثر استحواذا، وفق ما يتناسب وحضور هذه الثمرة، أو الفلذة، التي هي من إفراز صراح الأجيال، في عكس ذاكرتين الأولى لتمجيد ماضوية البطولات، وشحذ طقوسها، أما الثانية فهي للمحو والتمرد على جغرافية الجنائزي وزمكانية مكابدات الأنثوي، بدرجة أولى.

إذ ما بين الوجه المعهود للمائيات، والوجه الآخر لها، أي داخل إطار لعبة تحريك الشخصيات في مسارات تضارب المصائر، وعلى نحو ينم عن تمكن السارد، تُرسم آفاق التوازي في معنيي الماء.

تقول الراوية:

{صرّ طرفة على أسنانه غيظا لما رآها تهلل، واندفع بسيفه نحو المبعوث. تشابك الرجلان بالسيوف والعيون ترقب. القادم من الشمال، رجل عنترة، لا يهزم، قوي. بضربة أسقط سيف طرفة، وأصابه في كتفه إصابة بليغة، فصاح مخفيا ألمه بكبرياء لا يهزم حين أدرك الموت وهو على ركبتيه:" أفصدني". فشقّه المبعوث. طشّت دماؤه، صرخت الخرنق التي أتت على عجالة راكبة فرسها:" طرفة.'". اتسعت عيناه، سقط على الأرض يلفظ أنفاسه. ساد سكون تام. رأته، رأت سليمة الموت فوق رأسه، حركتها قطعت الصمت من هول الفاجعة. ركضت متجهة إليه، تماسكت الخرنق وجرت خلفها تمنعها، ولكن الحزن عرقلها، فسقطت على التراب ويدها ممتدة إلى سليمة، لعلها تمسك طرف جلبابها. كشفت سليمة عن أعلى جسدها، شاقة جلبابها، مظهرة أوشاما تمتد من العنق، وتتسع باتساع بطنها المكور المخفي عن الأعين، قفزت على جسده، وهي تشد سلسلة الفضة قبل أن تقطعها ليحل العهد، ويسقط لثامها كاشفا عن حسن ملامحها. يغالب النظر إليها ولا يقوى على الحركة لمنعها، وخصمه ينظف سيفه من الدماء. في كل قفزة تقف ناظرة إليه، تتأكد من شهقات الموت، والخرنق تتلوى على الأرض باكية تصرخ شاتمة إياها، ولكن سليمة ظلت تهلل فرحا، وتقفز على الجسد يمينا ويسارا، حتى اصطبغت قدماها، من وطئها، بدمه الشريف. انبرت تحاول منعها، تشدها من ذراعيها، فتتعاركان، وتسقطان على التراب. قوة جبارة تنتاب سليمة، إنها غريزة الأمومة، صراع لأجل جنينها، ليرى النور، فتدفع الخرنق التي تتشبث بقدمها، واصطبغت يدها بدم شقيقها.}(1).

إنها صفحات النسيان، نسيان الكائن المبتلى بشتى صنوف الوباء الوجودي، بل وتناسيه، في سياق ثقافة أصولية متجذرة ومغذية للصوت الرجولي، والراعي لنعرات الفحولة، ما استدعى هذا الزخم، والتكثيف من إيقاعات الشبقي، ولكن... من غير خلاعة مبالغ فيها، مشوشة ومشوهة للمنحى المعماري الإيروسي، في صيانة البعدين: التيمي والفني على حد سواء، بل والاتكالية على كامل هذه الجندرية، عبر الاحتفاء بمفهوميتها، على نحو فلكلوري ومجاني.

وراء كل ذلك، تأتي الأمومة كي تفتح نافذة أمل في عتمة الذات والحياة وجغرافيات شح الماء.

الأمومة وحدها صانعة المعجزات في أدغال هذه السردية الطاعنة بخلفيات الأزمة الهوياتية والإنسانية، تناوبا على أنساق الموروث والتاريخ ومعطيات الطبيعة، وفق تمذهب غرائبي يأخذ بالجوارح، ويستفز الوعي والذائقة، إلى حد بعيد.

تقول كذلك:

{هناك شيء يسردني

تنهض. هي الآن وسط البحر. تشعر بشيء يظهر أسفلها. كما تفعل السلحفاة حين تخدعنا. فنظن أنها اليابسة. ولكنها كانت فعلا يابسة. ينحسر عنها الماء. تبين قمتها. رملها مبتل. تضم ركبتيها. تجلس على القمة. أما الماء فيتراجع كاشفا عن مساحات من الجزيرة. الشمس ترتفع على انحساره. تنتصف في السماء. هنا تشعر بقلق يتصاعد. بشيء لا يهدأ. ولا يسكن. تحفر بيدها الأرض. تغرس ساقها. تذرو التراب. يتشنّج جسدها. ينتصب ظهرها. وترتفع عن الأرض. تشعر أنها تطول. تثبت قدميها بشكل أكبر، وتطول. تطول. شعرها يتمدد. يهتز جسدها هزة أخيرة قبل أن تغيب.

تنهض على الصوت المخيف يسألها: " من الذي عكس نفسه لترى ما لا يُرى؟ّ".

موج البحر يداعبها. مثبتة لا تقوى على الحركة. تميل بصعوبة. يعيد سؤاله. تشعر بحاجة ملحة إلى الميل على مائه. فتميل. هناك على مائه ترى انعكاسها. تشهق خائفة.. إنها نخلة.}(2).

 وإذن... بهذه التراكيمة للأفعال الممتدة في الزمن، والنافذة في شرايين دوراته السرمدية، تأخذ التعبيرية مسارها، منبثقة من موقف تقديم القرابين البشرية تبركا بالنبع، وفضّا لبكارة اليابسة، كي تجود بالماء، مثلما يجود الرحم الأنثوي.

من هنا، ذلكم التلاقي أو التقاطع ما بين معنيين للماء في رمزيته وقداسته وجبروته.

أمعنت الروائية في التأصيل لثقافة وجودية تربط الكائن البشري بكائن طبيعي غامض ومتستر على جملة من الأسرار، كما أنه مُغر بمقامرات مصادقته واكتشاف عوالمه.

ختاما، يمكننا التأكيد على أن الروائية البحرينية ليلى المطوّع، أبدعت وأمتعت في بسط فلسفة خاصة بانتظارات الكائن العربي المنقمع والمكبوت والمطعون في هويته وانتمائه، من هذا البعبع الذي اسمه بحر، في هروبنا المخملي منه وإليه، رابطين مصائرنا بثورته تارة، وتعقله واتزانه تارة أخرى.

إنه جنون المغامرة، بما يجعل الكائن يُسقط على البحر، والماء، عموما، من حيواته وتخشب راهنيته، والعكس بالعكس تماما.

بحيث تدور أحداث الرواية وتدور، ثم تعود لتربطنا بمفهوم الأمومة، في انكفاء ملزم بدوال ما قد يقلب كؤوس وجودنا المعتل والمنقوص، فيشرعها على جود المائيات في موسوعية معانيها.

إنه انتماء ضاغط، جاذب إلى رحاب النوراني، بما قد يتحقق له انفصال الكائن عن اضطهاداته النزوية، والترفع عن بهيميته، لصالح ما يصقل الروح ويمنح الخلاص الذاتي والكوني، في النهاية.

انتماء طوعي للمائيات في تلبّس معنيين.

تقول الراوية ملخصة مسيرة بحر سردي كامل:

"خلال بحثي كنت أنسل الخيوط، أفتش عن الجذور، التصقت بالأرض من دون علم ووعي. خيط مني وخيط منها، الأرض والماء.

عرفت الأرض، عرفت البحر. أجنحتي قوية، ولكن لا هجرة أفردها لأجلها وأطير.

أنا الطائر الحزين، كلما قل الماء، بان الحزن على وجهي.".

بهذا تطرز مبدعة من طينة ليلى المطوع سيرة تأليهها للبحر، وتترنم ملء الشفة بقداسة ولذاذة الانتماء إلى الماء، مجبرا إيانا، على حمله حملا وجوديا هوياتيا في معنيين، تماما، مثلما سبق وأكدنا.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

(1) مقتطف من فصل" سليمة"، صفحة27/28.

(2) مقتطف من فصل" نادياــ ثامارا"، صفحة428.

أنظر رواية" المنسيون بين ماءين"، منشورات دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية.

في المثقف اليوم