قراءات نقدية

سعد الدغمان: نساء ماهر الخيالي.. تجسيد الحدث الروائي بأسلوب رائع ولغة مبسطة

- احداث الرواية جسدت واقعاً ملموساً و صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)

- اعتماد "ياسين شامل" مفردة (نساء) في عنوانه منحت الرواية أفقاً مفتوحاً لاحدود فيه للتخيل

رواية واقعية مستنبطة من حالة معاشة عكست حال مدينة كبيرة مثل البصرة العراقية بشفافية واضحة تصويراً لما وقع من أحداث، والتي باتت مدينة اشباح مرعبة بعد الاحتلال البريطاني الأخير عام 2003، رسم الكاتب من خلال صفحاته صورة حقيقية لسيطرة المليشيات والخارجين على القانون على زمام الأمور والتمثيل الحكومي الهش فيما بعد، حالة مزرية لم تنتهي، بل لازالت قائمة، أراد منها الكاتب بذكاء يتسم بجمال الأسلوب ومرونة استجابة اللغة للمواقف التي دَاخل(شامل) بعضها البعض في روايته، ليقدم منتجاً روائياً هادفاً أخاله أقرب للرواية السياسية منه إلى عوالم الرواية المتعددة التوصيف. غلفها الفنان (صدام الجميلي) بغلاف جميل مازج فيه ألوان العتمة مع الأحمر الصارخ برداء الإيحاء وتقاسيم ما احتوى المشهد مما يعبر عن تراكمات الحدث وصيرورة التناول الروائي.

العنوان بما حمله من دهشة، والذي جاء به (ياسين شامل) بغرائبية ممتعة أوحى من خلاله إن ما كتب (رواية رومانسية) اعتمد فيها على مخيلة البطل التي شكلت تخيلاته عن علاقات نسائية بحتة أو عن خياله الجامح اتجاه ما يعشق من نساء تتجمع صورهن في مخيلته، دون أن يكون هناك أي ارتباط روحي أو جسدي بينه وتلك النسوة، لكن واقع (نساء ماهر) لم يكن يعتمد على خيالات تتربع على مجمل أحداث الرواية، بل جاءت واقعاً ملموساً شاركت بل صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)، كما شاركت في الرؤية السياسية والتوصيف الذي يحمل نفس المعنى للحقبة السياسية والذي حاول الكاتب أن يزج ما مر فيه عبر تفاصيل العمل المشترك مع (الدكتور حسون بدر).

العنوان كما ذكرنا جاء على جزئين بنى الأول على المبهم، ثم استدرك في الجزء الثاني منه بالدلالة الوصفية (ماهر) وهو اسم علم يدل على شخص ليس على التعيين، أي شخص يحمل هذا الاسم سيكون هو المقصود بالحدث الروائي، إلا أنه وبفطنة رائعة ودقة متناهية في العمل ذهب الكاتب ليورد بذكاء عملية توظيف الدلالة في الحدث فاحال المبهم إلى صورة ناطقة حين وظف التوصيف الدلالي (الخيالي) كصفة ملحقة بالاسم (ماهر).

اعتمد "ياسين شامل" في عنوانه أفقاً مفتوحاً للتخيل (نساء) لاحدود للتصور فيه، مؤكداً أنها أكثر عن (امرأة)، لذلك قدمهن بصيغة الجمع (نساء)، التصور الذي جسده (شامل) في عنوان روايته يمنح القارئ انطباعاً يوحي بأن هناك علاقات مشوهة أو مشبوهة سيضع القارئ يده عليها في متن الرواية وفصولها، إلا أن كاتب الرواية خيب هذا الظن، إلا من واحدة رسمها بطل الرواية (ماهر) مع احدى النساء اللاتي أتى على ذكرهن في الرواية.

البساطة التي حملتها لغة الرواية من أجمل ما يكون، فلا تعقيد أو تعالي في لغة الخطاب، وكأن ياسين شامل قد جاء بروايته بناء على نقاش مستفيض مع كاتب هذه السطور الذي يرفض تعقيدات ما يكتب به الروائيين والنقاد، ويذهيب (لأسلوب التبسيط) في كل ما يتناوله الفن والأدب، فالأدب للجميع مثلما هو الفن، لاطبقية فيهما.

 هناك الكثير من الروايات السياسية التي تخوض في واقع معاش لشعب أو وطن خلال حقبة معينة، تتناول بالسرد ما يدور من أحداث خلال تلك الفترات من التجبر الذي تمارسه الأنظمة السايسية أو قوات الاحتلال اتجاه شعوب تقع تحت طائلة غلوها وقهرها وتسلطها، لكن تلك الروايات أو معظمها (لانريد التعميم) يكتب بأسلوب يصف مايدور على الساحة من أحداث بشكل درامي فني، وتصوير لمشهد ما يحدث، وقد يخلو أسلوب الكاتب الذي يوظف (الوصفي) كمشهد عام لروايته من العاطفة والتخيل، ليس بمعنى أن تكون الرواية ناقصة التكوين أو التشكيل، لا على العكس ربما تأتي رائعة في تضمين ماحدث عبر الوصف، وكأن من يقرأ يأخذه التصور بأن تلك المشاهد الروائية قد عاشها من قبل، وذلك التفاعل دليل نجاح، لكنه يبقى مقتصراً على التفاعل.

الأدب بشكل عام يجسد الحدث السياسي ويؤرخ لمجرياته، وربما يذهب لما في الأدب من وصفية دلالية على تعريف الحدث السياسي وتقريبه للواقع أكثر من مجريات الحدث نفسه أو تعريف شخوصه لما جرى، فالأدب أقرب للجمهور من السياسة بما فيه من عاطفة وخيال واهتمام بمشاعر الجمهور، وتلك عناصر تخلو منها السياسة بشكل عام.

هذا من جانب، أما الأخر فالأدب السياسي شكل من أشكال الأدب العام، وقد كتبت فيه روايات وقصص، كما كتبت مسرحيات وأفلام عبرت عن مراحل سياسية كانت غاية في الدقة والرصانة وأقرب للمتلقي من قصص الخيال والحب والألم والمعاناة. بل أن الكثير من الروايات والأعمال الأدبية لاتخلو من توصيف أو تناول لفترات سياسية محددة أو مطلقة.

أما في (نساء ماهر الخيالي) فقد عشنا التصور والخيال معاً، ورسمنا من تلك الصور التي أفرد ياسين شامل لكل واحدة من نساءه صورة وحدث، ثم عمل على جمعهن في بوتقة تصور واحد أفضى من خلاله إلى تعدد الروئ النفسية والمكانية والشكلية التي فضحت علاقات تلك النسوة بماهر، و تقلبات الخيال التي عمل ماهر على بنائها تجاه كل واحدة من تلك النساء.

أني أغبط ماهر لسعة تلك التخيلات التي رسمها له (ياسين شامل)، وجمع كل النساء اللاتي أشار إليهن من حوله حتى وإن كن في الخيال، فمن ذاك الذي يحظى بجمهرة من النساء في خياله .

هذا الجمع بين الوصف السياسي المبطن لحالة الشارع حينذاك في الرواية، والخيال الذي لف به شكل الرواية بإبداع وإتقان مازج (شامل) من خلاله مابين التشويق والترقب (الترهيب)، ودفع المتلقي ليقف على حد هاجس الخوف مما سيحدث، (ماذا بعد) سؤال بحجم الوطن لم يجد جواباً عند الجميع. استطاع الكاتب أن يصف مكر من تسلط على المدينة عبر(شخصية شهاب) الشاب المراوغ الفوضوي الذي يسعى لاستغلال الفرصة والوثوب على من سواه عبر اقتناص ما يتاح أمامه من منفذ، وتلك ميزة فيمن ظهر أبان الاحتلال ولازال يسود المشهد بدعم (صورة واقعية) نقلها ياسين شامل دعمت من حظوظ روايته ورفعت من درجات مصداقيتها ورصانة الفكرة والتداخل الذي وظفه شامل بالرواية لينجز صورة حقيقة ناتجة عن خيالات ماهر لكنها واقعية.

(عواطف، منار، بيداء، حنان، أوديت، زليخة، عبير، بسمة، خالته شذا، سماح، جوليا، شارون ستون، آن)، كم من اسماء النساء حشرن في تفاصيل الرواية للتشويق، ولكل منهن قصة، ما يعني أن (ياسين شامل) أفرد للدلالة عبر الاسماء، والأمكنة، والأحداث مساحة شاسعة من الرواية بنى من خلالها علاقته مع القارئ لتخيل الصور الدالة على النساء اللواتي جاء ذكرهن كل حسب توصيفاتها في الرواية ومدى العلاقة التي تربط ماهر بكل منهن، كما فتح المجال لتصور الأماكن التي ذكرها (شارع الجزائر)، (سيطرة للجيش البريطاني) (فندق السلطان) قد تكون استعارات فقط لكنها تستخدم للتوظيف الدلالي على الحدث.

فالدلالة حاضرة عند ياسين شامل وبقوة في البناء الدرامي للرواية، وتلك من ضرورات البناء والتوظيف والسرد، استطاع "شامل" أن يكرسها في متن روايته ليقطف ثمرة ما جنى (ترابط الأحداث الذي شكل عمقاً روائياً هادفاً، ظننته في بادئ الأمر عند قرائتي الأولى أن لايحدث فيفقد الرواية (أقصد الترابط) سيرتها وضرورات التشكيل الروائي والإنسجام ما بين الشخوص والأمكنة، إلا أن الكاتب أبدع وليظهر براعته في ما قدم من ترابط أحال المشهد الروائي من خلاله إلى ما يشبه (سمفونية هادئة شفيفة ناعمة) كنعومة نساء ماهر بما أتاح لنا من خيال نعيشه لنكتشف سحر النساء التي ورد ذكرهن في تفاصيل الرواية.

الطابع الوصفي طغى على تفاصيل الرواية، وهذا ليس بخلل فيها على العكس فهو يمنحها سعة التخيل واطلاق العنان لخيال القارئ لأبعد مدى، فالرواية أساساً تعتمد في جل تفاصيلها على الوصف لتشكيل وبناء الحبكة. أراد لها ياسين شامل أن تكون متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثل بعناصر البناء، ناهيك عن أن تناغم المشاهد التي كون منها شكلها العام مع المفردات التي وظفها "شامل" لتظهر فصولها وكأنها لوحة نابعة من الخيال فعلاً، لكنها كانت تعبر عن تجسيد أحداث حقيقة، سجلها الكاتب من خلال الصور الخيالية التي أوردها لتتناسب وحبكة الحدث الذي شكل منه الرواية.

المشهد الأول لرواية "ياسين شامل" (نساء ماهر الخيالي) أظهر فيه بطل الرواية متردد في صفاته، بل قد يذهب القارئ إلى تصور أن البطل مهزوز الشخصية وغير قادر على التصرف أو حتى إتيان فعل مباشر دون أن تكون هناك محاولات أو أن يتلقى المساعدة من الغير، (صورة)، وتلك واضحة لما ظمنه من أفق عبرعنه ب (تضارب أفكاري)

الصورة الثانية في ذلك المشهد، نرى أن ماهر يبحث تراتيب معينة ليبلور أفكاره عبر التضارب الذي عانى منه في التفكير، هذا التناقض يخلق فكرة مشوشة عند المتلقي حول شخصية البطل في الرواية، أحسبها ميزة في الكتابة، فليس كل الروائيين قادرين على خلق ذلك التناقض ثم الخروج منه بصور تخدم التصور القادم للرواية، أو المشهد الذي يلي في تراتيبية متوالية ينشأ عنها المشهد الكلي للحدث فتكون الحبكة.

القدرة على الكتابة بمفهوم الخيال تحتاج ميزات خاصة يستطيع من خلالها الكاتب أن يداخل ما بين إلهام الفكرة والتصورات التي يتطلبها الخيال، للخروج بصورة روائية مقبولة أو ترضي المتلقي على أقل تقدير، إلا أن شامل في روايته استطاع تجاوز تلك الميزة إلى ما هو أبعد منها (الاقناع والتشويق) فعلاً في وصف الخيال الروائي وبناء عقدة الحدث دون أن يدخل النسق الروائي في اشكالية التداخل مابين صورة الخيال وحقيقة الحدث.

ذهب ياسين شامل في روايته (نساء ماهر الخيالي) لتوظيف الخيال من خلال أسلوب مبسط في الطرح ومفردات دالة عميقة المعنى لكنها هادفة، ليقدم للقراء مشاهد سلسة مفهومة لا تعقيد فيها ولا إطالة في المشاهد عبر من خلالها عن الواقع الممزوج بقوة التصور (الخيال).

ذهب لاستخدام الخيال كوسيلة للتعبير عن حقائق عميقة نقلت ماجرى من أحداث حقيقية مازجها الكاتب بقوة الخيال الذي جسده في صفحات الرواية، داعماً عمله بالرمزية التي مثلها الزمان والمكان، كما الشخوص (النساء) اللواتي منحهن أفقاً واسعاً في رمزية الحدث التي استطاع أن يبقي الحقيقة بعيدة شيئا ما عن الواقع الظاهري، ثم ليخرج بها مدوية وليبهر بها قراءه.

كل الخيال الذي رسم به "شامل" مشاهد الرواية قصد من خلاله إثراء ذهنية القارئ وتوسيع مداركه نحو التخيل ونضوج الوعي الفكري عبر ربط الخيال بالحقيقة، وهو ما أراده من فعلياً من خلال تجسيد ماجرى وتصوير الواقع الاجتماعي والفكري الذي نتج بعد ماحدث في المدينة أثر العامل المتغير المتمثل بالاحتلال الذي طرأ على المشهد العام.

إذاً نستطيع القول أن توظيف "المرأة" في المشهد الروائي العام عند ياسين شامل جاء لتوسيع مدارك القارئ، والأخذ بيده نحو استخدام خياله كوسيلة لتوقع الأحداث والتعبير عنها، لما تحمله المرأة من رمزية دلالية في تجسيد الحياة و الواقع المعاش، وهي بما تمثله من مكنون عاطفي وأحاسيس وخصوصية جسدية تغري الجميع على متابعة الحدث دون توقف طالما كان يتعلق بالنساء.

من خلال هذا العمل الرائع الذي قدمه ياسين شامل في روايته بظروفها التي كانت، رسم للرواية بعداً خيالياً بأفق واسع عبر ترك مساحات التَخيل مفتوحة يذهب من خلالها القارئ لتشيكل صوراً عدة لنساء ماهر اللاتي ذكرهن شامل، أو لنساء في مخيلة القارئ نفسه.

لعب ياسين شامل على مساحة العاطفة لدى القارئ، وتلك لعبة صعبة جداً في الأدب من يتمكن منها يمتلك القدرة على سحب المتلقي من يده لاتجاهات ما يريد، وفعلاً استطاع الروائي ياسين شامل أن يأخذني أنا الذي قرأت الرواية بشغف مجبراً بأسلوبه من يدي نحو متاهات الخيال التي أوردها في الرواية، حتى ظننت أن امتلكت من نساء ماهر الكثير فلا شذى غفلت عنها، ولا " آن" روت شغفي، ولا حتى تلك الناعسة الجميلة "سماح" (كما تخيلتها)، وفي زحمة تخيلاتي تلك، عنى لي وجه عواطف وجمالها الذي طغى على الرواية بشكل عارم ثم ضاعت في زحمة الأحداث التي تعاقبت عند شامل، ونسيتها.

قد لاتعني الاسماء شيئاً رغم كثرتها، لكنها تعبر عن حالتين في الرواية، الأولى عدم إتزان تفكير ماهر وتشتت رؤاه، تلك الحالة التي انتجت شروداً في التفكير لديه، وولدت عنده تلك الخيالات.

 الأخرى خوفه من الدخول إلى عالم مختلف يسمع عنه ربما، ولايملك الجرأة لولوجه خوفاً من تبعات ما قد يحدث، سيما وأن ماهر الذي رسم لنا ياسين شامل شخصيته لم يكن ذو تجربة تعينه على ولوج عوالم النساء، وتلك معضلة تضاف وتخلق مساراً للأولى.

جَمِع كل ذلك الخيال الذي وصف به ياسين شامل شخصية البطل في الرواية تعبير عن توظيف الدلالة الرمزية في السرد الروائي، والدلالة بحد ذاتها (توصيف)، فلم يكن القارئ ليعلم من هن نساء ماهر، لو بقيت الحالة التي كتب بها شامل على أنهن (نساء ماهر)، لكن أي نساء هن، لذلك جاء الكاتب بالدلالة الاسمية لتعريفهن دون سواهن.

ذلك التحديد لل (النساء) جعل الرواية أكثر واقعية حتى من خيالات ماهر التي عبرت عنها الرواية بأنها واقع يحكي قصة فترة مريرة مرت على العراق والبصرة خاصة، رغم إنها لم تمر بعد، ما يمنح الرواية صفة الواقعية الدلالية بحق .

امتلك ياسين شامل القدرة الخاصة على تناول الموضوع من زوايا عدة أهمها كان التداخل الروائي السياسي (فترة عصيبة "احتلال")، ثم التاريخي الرمزي (البصرة)، ثم الخيالي الذي جاء بأفضل صوره التي منحت الحياة لاسماء عدة (نساء ماهر) ما جعل القارئ يعيش تلك الأجواء المفعمة المتداخلة فيما بينها، والمنتجة لغرائب الصور الذهنية التي علاها الخيال اللمسي قبل غيره، فقد لمس القراء رقة النساء اللاتي ذكرن في التفاصيل، ويقال (الشيطان يكمن في التفاصيل) التي وظفها شامل باطار درامي رائع.

لم يكرس ياسين شامل الخلط بين الموقف والحالة كصلة تناظر يجسد من خلالها صوره الناطقة بما يحدث، بل لعب على الحركة والخيال المعزز بواقع ما جرى من احداث ليشكل فصوله بروائية رائعة وأسلوب في قمة الجمال فرض علينا شامل بتتابع الأحداث والخيالات أن نكمل الرواية بشغف.. علنا نحضى بخيال من خيالات "ماهر" .

***

سعد الدغمان

في المثقف اليوم