قراءات نقدية

   حيدر عبد الرضا: قراءة في مجموعة "مواسم لحمار الأسفار" لعادل مردان

 من دال فعل التأويل إلى معنى مقصودية المؤول

توطئة: لقد بدت النظرة الاستقرائية إلى العالم من خلال استيهامات الشعر اللغوية (تحليلا ــ تأويلا) حيث تبادلت فيه جملة مخصوصيات انعكاسية الذات عبر مستواها المتشكل من العلامات والنزوعات والتحويرات المنبثقة عن دوافع ذلك الدليل الحسي الكامن في بواطن الشاعر استدلالا ووصفا حاسما لأجواء مواقف وحالات أكثر توكيدا لإشكاليات استبصارات الشاعر الذي غدا يشكل عبر افتراضاته الضمنية في النص الشعري أكثر غورا في زج الدال الذاتوي والموضوعي في منطقة التأويل إلى معنى مقصودية المؤول كمواجهة تقديرية من القارىء إلى فهم وسائل وروابط علاقات الفاعلية الشعرية لإحساسنا الجزئي والكلي كوجها تراكزيا في تقويم رؤى القصيدة المغايرة.

ـــ الإدراك الجمالي في حواس تصورات المكان.

إن القارىء إلى قصائد مجموعة (مواسم لحمار الأسفار) للشاعر المتفرد عادل مردان، لربما يواجه نظاما حسيا خاصا في مراسم توظيف دلالات الأشياء بذلك النوع من الاتزان والأنسجام التخييلي المؤثر، فهو من جهة ما يتعامل مع الممكن التذوقي عبر واصلات رابطة من الوعي الهواجسي المشروط في حيز فواعل منعكسة في الإيحاء والتكثيف والأحساس القدراتي المحكوم بآليات محفزات الأفكار الصياغية الأكثر تدعيما لملكة (الأنا الفردية ؟) وبهذا الأمر جاءتنا أغلب قصائد المجموعة ذات اشارات محمومة بروح خصوصية وحساسية الانتقاء في العلاقة المطروحة بين الشاعر وهواجسه المؤولة:

يومي تَّخذلُهُ الأيام

ما أروعَ التّوحّد

السّواحلُ محبوسةٌ في الحديقة

هي ليس بعيدةً عن الأعماق

أُداعبُ السّطوحَ بفكرةِ التّخلّي

تلك فُرُوضُ المَنْشأ

يا لَلطّاعةِ العمياء.

/ ص13 قصيدة ــ هواجس المنزل ــ

تتكشف دوال هذه الأوضاع الشعرية من خلال وحدات القرائن التقاربية والتي تتصل بفواعل الهواجس المحفورة في قلب الشاعر على إنها جملة تصورات بالمحسوس التماثلي، إذ إن مفاتيح النفاذ إلى هوية التماثلات الأنبعاثية في حركية جادة في ذاتها، طالما إنها في حدود حالة تحول مدعاة في المعادلة واللغة والإيحاء، كحال ما تحمله الجمل الشعرية من ملامح محنة الذات التي تعاين تضاريس الأمكنة في حدود مغامرة لغوية مشحونة باللاوعي واللاجدوى (يومي تخذله الأيام ــ ما أروع التوحد ــ السواحل محبوسة في الحديقة) ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الذات الفاعلة تكرس رؤيتها للمكان والزمن وكينونة الأحوال ضمن أفق مستحضرات استعادية (السواحل = محبوسة = الحديقة) حيث تخضع لمؤثرات المعنى المؤول في المعنى المجسد باللغة والعلاقة الاستدعائية المنكفئة على هاجسها التوحدي. لذا غدت إمكانية التواصل والأندماج ما بين الشاعر والأمكنة، كعلاقة تستنزف ذاتها المنهكة في كيانية وجودية متكونة من رؤية الذات والعالم الخارجي، بوصفهما وعيا حددته الدائرة الكونية لتبلغ محنة الذات الشاعرة ذروتها حيث يصبح الوجود ك (يا للطاعة العمياء ؟) أو (العالم يترنح ثملا ؟) فهناك في مكونات الكينونة الذواتية ثمة تجميع دقيق لعوالم السمة الغالبة على حساسية الشاعر، لذا نجد أغلب العلاقات الدلالية تؤلفها معطيات نفسانية مختلفة في المحور والتركيز والحاصل التحولاتي، لذا ظلت معظم الحالات الحسية رهينة الوسائل التي تصل إلى ملامح البوح كأهمية في إيجاد التفاصيل التي تجسد وضعية الذات في النص.

ــ التشخيصية العدمية وبلاغة خفايا القصد الإيحائي:

يمتد التفكير بالجوهر الدلالي أبعادا مرمزة وعلامات تنأى عن عروض المفردات الشكلية الفجة. نقول لقد أراد عادل مردان في كتابته للقصيدة الانسلاخ عن الأوضاع القاصرة في التحصيل الدلالي والمدلولي، وفي المجرى الذي غدا من خلاله المتن الشعري وكأنه جملة موشورات تجتذب بؤر التفاصيل اللاممنوحة للعيان والمشاهدة، لذا نبدأ مع قصيدة عادل مردان ضمن التقلبات الأحوالية المتقصية لظواهر محسوسة في مجالات الطاقة التركيبية والتوليدية، كي نحصل على ضرورة المعنى الأدق في تماثلات اللغة الشعرية الأكثر جدلا وإذعانا لمغايرة المحتوى والسياق والدليل الشعري:

قَلِقاً يَسْتَشْرِفُ في المَجهُول

مِنْ عَيْنِ الغَريب

إلى مَعْزُوفةِ الأَلَم

ما أبْعَدَ النَّبْع!

ما أبْعَدَ النّبْع!

يا لَلْخَيْبَة !

يا لَلتّناسقِ الهَشّ !.

/ ص16 قصيدة: (ترنيمةُ الألفِ الثّالث)

تبدو قصائد المجموعة (مواسم لحمار الأسفار) قائمة على حركة المفارقة الفنية أو تلك اللغة التهكمية الكامنة في أوجه مرابع الدوال التصويرية الناجزة. أي إن آلية التشخيص للعدم في إرادة المصير، كان قد شخص علتها الشاعر مردان بما يتناسب وحركة ديناميكية قصدية متنامية، ممتدة تتجاوز المستوى الثبوتي في معايير الصورة والصوت والدلالة، لتبقى كعلامات تعجبية في النسق التراتيبي المتمعن في شعرية فضاءات تناقضات الحياة وتعدد أشكالها الزمنية والتقويمية (قلقا يستشرف المصير ــ من عين الغريب ــ إلى معزوفة الألم) فالصور الدوالية ها هنا تأخذ شكلا تدرجيا يرتبط متلاحما وسياق فقدانية الأصول القويمة في المظاهر الوجودية، لذا تتأتى مفردات التعجب والأستفهام الضمنية تمثيلا لغائية ساعية إلى الكشف عن زيف المكرسات الوقائية التي تشكل بذاتها المعنى الأكثر تفارقية وحدود السمو والمثال بالذات الحقيقية (عمن تبحث يا هائم، في عالم الكمامات، عن بلسم الخلود ؟) وبين هذا وذاك وببراعة شعرية ينقل لنا الفاعل الشعري أسمى الدلالات في مشهد الرعب الكوني تأثيرا يولد استنطاقات وانفعالات مرتكزية ذات صورة مطموسة بالعدم والقنوط الأحوالي (يا للرعب، يفضح وجه الأرض).

ـــ النص الشعري معادلا موضوعيا:

إذ كان النص الشعري يصف حالا ما ضمن ممكنات المادة والتخيل والذات والزمان والمكان، إذ بوصف الشعر محفزا من عناصر فنية ولغوية وبلاغية، وظيفتها سياق المعنى الموضوعي والأداء المتنى الذي هو تشكلات إبلاغية بالصورة والمجاز والمعادل الموضوعي الذي يستشرق خصائص الصفات والأفعال من أصولها الصياغية وصولا إلى مستويات إحالية من الوظائف الفواعلية في التسمية والمشار إليه وصفا واستطرادا:

في السّوقِ القديم

إذ ينعتُهُ المألوفون زريبةَ الذباب

تبدأ الملهاة

لحظةَ يَمزحُ الباعة.

/ ص19 قصيدة: (موسمُ لحمارِ الأسفار)

تهيمن على آليات البنيات الدوالية ثمة مستويات من الموضوعة المعادلة في المؤشر والتأشير الأسلوبي، لذا جاءتنا إمكانية المتن المقطعي البنائي على هيئة مشاهد ولقطات وكأنها الصور المعكوسة في مقادير صيغة المنظور ومستويات تشكلات المعنى. فالشاعر مردان ينفتح في نصه حول ذلك الزمن الأحوالي لدال (الحمار) وهو الدال بأبعاده الإحالية في الأداء وقصدية إيحاءات الموضوعة. فلو دققنا في عتبة التصدير العنواني المركزي لوجدنا ثمة موحيات معادلة في مكونات التعادل التفارقي، ويقدر مثل هذا التوظيف على أنه رمزية مساحة العوامل والإجراء الإيحائي، امتدادا نحو مكونات بلاغة الخطاب ومساحة توقعاته الأحداثية، لذا فإن جملة (في السوق القديم) تشكل بذاتها منظومة مكانية متعددة الصور والتمركزات للأنا والهو، لتتوالى متتالية الدوال مجالا معدلا لإضاءة مسرح الذات الفاعلة وموجهاتها العلاماتية (إذ ينعته المألوفون زربية الذباب؟) وتحضر مألوفية المكان والزمن والذوات لتتلبس روح المكان المعاش عبر موجودات واقعية تؤلف مناخا يحكي قصة الذات المحالة إلى مجموعة وحدات شعرية ذات مراحل مشهدية تعبق بإشارات المعادل الموضوعي وتؤنسن آنوية دال (الحمار) بأكثر من سمة صراعية:

طريقٌ شائكةٌ بين النّخيل

لا أرغبُ في الحقائب

هل أنا

حمارُ الأسفار؟.؟ ص21

وينتقي مردان البؤرة الآنوية للعامل الأحوالي في لحظات أكثر غورا في المعادل الضمائري بوصفه الهوية الأمتثالية التي ارادها مردان أن تتلبس لبوس (الممول التعادلي) كي تتطلع وترتقب الذات المتكلمة أخيرا عبر مدى حدود استيعابها لذلك الانموذج المفارق الذي أراده الشاعر فاعلا معادلا في الكون الشعري لقصيدته اللقطاتية.

ــ تعليق القراءة:

تعد المفارقة عاملا تشكيليا في آليات الخطاب الشعري، لأنها تشحن التخيل باللغة فتجدد حيوات المفاجأة والإدهاش والإبهار.. أقول أن قصائد مجموعة (مواسم لحمار الأسفار) شعرية مثقلة في تشعبات لعبة اللغة الإيحائية القصدية، لذا فإن بواعث دوالها تمتحن زمن المنظومة القرائية الفعلية نحو مدى تخييلي مفارق ومعادل:

بعد عقدٍ سأنتمي للمسنّين

لكنّني أكرهُ كآبتَهم

عندها سأصفّقُ لظلّي كثيراً.

/ص92 قصيدة: (ليست هي الخاتمة)

هكذا تتعمق درجات الفعل الشعري لدى (عادل مردان) شعرية تكسر أفق التوقع لتحل محلها شعرية المفارقة عندما تسهم اللغة في شحن الصورة والمشهد بطاقة تتجاوز فضاء القيد الشعري، بلوغا نحو مستوى أعمق وأجدى من تضاريس فعل التأويل إلى معنى مقصودية المؤول كحالة تنصرف إلى أعماق اللعبة الشعرية المضافة بدلالات أحوالية زمنية لا حدود لها. وعلى هذا النحو تبقى قصائد مجموعة المبدع المتفرد (عادل مردان) موضع بحثنا تجربة شعرية حقيقية تتفاعل مع عوالم الآنوية للأشياء تفاعلا ذا حساسية مراوغة تتأبى على الاقتناص القرائي العابر والإسقاطي، فالقصيدة لدى مجموعة الشاعر وعوالمه الشعرية الأخرى هي الارتقاء بالمقولة الشعرية إلى حيز كينونة جوهر القول والأداة والأدوات والمخيلة القابلة إلى أن تجد فيها المؤولات طاقات دلالية كثيفة وجوهرية في الأنموذج والتلقي وحساسية الرؤية التشكيلية الفاعلة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم