قراءات نقدية

قصي الشيخ عسكر: وقفة عند شعر الشاعر الخصيبي د.عادل الحنظل

كنت قد اطلعت قبل عام أو أكثر على مجموعة للشاعر عادل الحنظل عنوانها (رجاء على شفاه العدم) ثمّ بعد كلّ تلك المدّة رجعت ثانية إلى المجموعة ذاتها لا لأقرأها من باب الاستئناس بل لأقف عندها وقفة طويلة فأسبر غورها وأكشف عن بعض جمالياتها.

هذه المرّة ارتأيت أن أتناول العنوان أوّلا قبل الكتابة عن القصائد الواردة في الديوان.

العنوان يتكوّن من أربع كلمات (رجاء على شفاه العدم) والرباعيّة تتخذ في الفكر العالمي موقعا مهما في الخيال والفلسفة والعلم، والفكر الديني، ففي العلم هناك ثبات في الأرجل الأربعة للكراسي والمناضد، والعمارات والبيوت السكنية، والجهات الأربعة في علم الجغرافية، وفي الدين الإسلامي نجد الكعبة بنيت على أساس رباعي، إن المربع يكوّن الصورة المتكاملة.و تدلّ الكلمة الأولى في المربع على الأمل لكن النهاية تنتهي نهاية حزينة اغترابية .

 وما دمنا بصدد الحديث عن البدايات والنهايات فأتساءل كيف يبدأ الشاعر عادل قصيدته وكيف ينهيها؟

ولكي أوفّر على القارئ وقته أشير إلى ان الشاعر يتخذ أدوات معينة في البداية والنهاية منها :

أن يبدأ بالزمان ويختم القصيدة بالمكان: قصيدة (غريبان) تبدأ بالمطلع التالي:

ينادي عليّ الغروب المودّع دنيا الفناء

فأخلو بأرض جفاها البشر

تحتلّ اللازمة الزمانيّة (الغروب) مطلع القصيدة بكونها فاعلا ترافقها ظاهرة صوتية هي (ينادي= النداء) الغروب لون يدلّ على الشحوب وهو بداية للظلمة، إضافة إلى ذلك ندرك أنّ الغروب بطئ بلونه ودلالاته النفسية التي تبعث الحزن والشجى وتشير إلى الإحباط، أمّا الصوت فهو تجلّ سريع بخاصة النداء يندمج بالغروب فيصبح أداة له (فعل)عندئذ تخف حركة الصوت وتزداد سرعة الغروب.(دنيا) هي أيضا ظاهرة زمانيّة بملاصقتها الفناء الذي هو عنصر زمانيّ، ولكي تتعادل الحال يأتي من بعدُ المكان المتجسّد بالأرض غير أن الأرض لا تعني في هذا الموضع الأرض كلّها، أو كلّ عالمنا، ويغلب على ظنّنا أن الشاعر يشير بهذه المفردة إلى الوطن الذي هجره من باب تسمية الجزء بالكلّ.

أمّا في منتصف القصيدة فيتحوّ الغروب إلى حالة جديدة تشبه الولادة، إنّه يصبح(مساء) أي يوغل في ذاته بحركته البطيئة، والمكان نفسه يرتقي إلى حالة أعلى فيصبح سماء وغيوما بحركة من الأسفل إلى الأعلى معاكسة لحركة الغروب الهابط:

الغروب\ مساء

الأرض \ غيوم

الاغتراب المزدوج بين الحركتين يتنازع الشاعر حتّى يلتقي شجيرة كرز، أمّا التصغير فلا يدلّ على التحقير أو التدليل بل على التفحيم والتهويل، فلا يخطر على بالنا أنّ الموازي للبطل شئ صغير بقدر ماندرك أنّ الشّاعر استوعب التاريخ بشخصيّة عبد الرحمن الداخل حين نجا من الموت وفوجئ بنخلة أمامه استوعبت اغترابه في اللحظة التي أثارت استغرابه:

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة   تناءت بأرض الغرب ن بلد النّخل

فقلت شبيهي في التّغرّب والنوى   وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبة   فمثلك في الإقصاء والمنتآى مثلي

سقتك عوادي المزن من صوبها الذي يسحّ ويستمري السماكين بالوبل

فكلتا الحالتين: عادل\ الداخل تستوحي المطر والشجر بصفتيهما الدالتين على ديمومة الحياة التي لابدّ أن تسوعب حالة الاغتراب بالتوازي مع المكان والزمان، وهي صورة ثابتة، تشبه بالضبط صورة تمثال ننصبه في مركز المدينة، إنّه يصلح للتعبير عن الزمنكان أكثر من التمثال الذي ننصبه على الخطّ السريع أو الأوتستوراد، لأنّ زمنكان الموقع يختلف:

نحن نتطلع في شجرة بالغابة. بجانب النهر ننقش عليها قلوبا..نكتب بنصل حاد أسماءنا وأسماء حبيباتنا، فهو الزمنكان، كما نجده في سياق القصيدة بعد أن تمثّل المكان فيها شجيرة تسير بتناسق زمنكانيّ إلى النهاية، في هذا الترادف المزدوج بيين الزمان والمكان يظهر صوت آخر هو صوت البوم، الصوت كما نعرف حركة، والحركة تستغرق زمانا، هناك في البدء كان النداء من الغروب، وهنا مع الشجرة الثابتة تحول الصوت إلى نعيب :

وألبسها الحزنً بوم يطيل النواح

غدت موئلا صامتا لا يشيع الخبر

لقد استيدل الشاعر الحمام بالبوم .. واستبدل النعيب الذي هو للبوم بالنواح صوت الحمام.إن المكان مثّل الطلل الذي يبكبي عليه الشعراء، فالعاشقون يأتون لكي ينقشوا أسماءهم على شجرة الكرز:

على جذعها حفر المغرمون

قلوبا كواها السَّهر

إنّ شجرة الكرز أصبحت نديم الشاعر فهو يعود إاليها وقتما يشاء حيث تمثّل الوطن البديل لتنتهي القصيدة نهاية مكانيّة بعد أن بدأت بداية زمانيّة:

رمتها سدى بذرة في العراء

وأنكرني موطن لا يصون الوفاء.

أمّا قصيدته التي جاءت بعنوان (ويمضي أوّل الفطام)، فمن العنوان ندرك أنّها بدأت بالزمان:

أجاء الفطام

وذي أنهري

فاض سبعينها

المجئ حركة والفطام سكون في سكون وانقطاع ونظنّ أنّ سنوات القطام السبعين هي عمر الشاعر _أطال الله في عمره- ليأتي بعدئذ المكان يتلاحق بمفرداته المثقلة بالوجع:المرافئ..الظلال...ثدي.. ساق..الكأس.. النخل..الذي يدوم اخضرارا كما يراه من خلال الكأس ويوازي بينه وبين الأماني أي الزممن القريب البعيد لتنتهي القصيدة بعد ذلك بزمان يقابله مكاني في النهاية:

أنا

كالغروب اعتدالا

قبلي شمس

وبعدي هلال

نلاحظ الرباعية المتجلية في النهاية:

1- الالهلال\ مكان

2- شمس \مكان

3 - قبل \ زمان كقوله تعلى لله الأمر من قبل ومن بعد أي قبل الغلبة وبعدها

4 - بعد\ زمان

عندئذ استطاع الشاعر من خلال عنوان مجموعته الرباعي أن يحقق في نهاية قصيدته التوافق بين مفردات أربع خلق منها صوره الجميلة العذبة.

***

قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم