قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: قراءة في عرض مسرحية (دفتر توفير)
الموجهة للأطفال وحيرة الفئة العمرية
عرضت على مسرح المنصور مسرحية (دفتر توفير) تأليف رحيم العراقي، إخراج حسين علي هارف، يبوح عنوان العرض (دفتر توفير) بفكرته الأساسية، إذ يحتاج المتلقي الطفل للوضوح مع الأخذ بالاعتبار قدرة العرض على التشويق والإثارة دون قول كل شيء دفعة واحدة، لقد تصدى العرض لظاهرة الإسراف والتبذير المنتشرة في بعض أوساط المجتمع (بالألعاب والمصروفات والمشتريات) وذلك من خلال تقديم فكرة التوفير.
عمد التأليف والإخراج إلى إظهار شخصية الجني (شبيك لبيك) من البرميل الساكن في يمين أسفل خشبة المسرح في المشهد الأول لغرض تلبية الطلبات الكثيرة للولد المشاكس (منذر) إلا أنه يرضى بالقليل بعد أن يُعِده الجني بإحضار كيك ولوازم عيد ميلاده، يبدأ المشهد الثاني بحفلة عيد ميلاد (منذر) ويثار تساؤل من قبل الأب والأم: من الذي جاء بلوازم الاحتفال في الوقت الذي يفتقرون فيه للمال؟ لخيب توقع (منذر) الذي وعده الجني بتوفير متطلبات الحفل، ولتكون المفاجأة عندما تخبرهم ابنتهم (زينة) بأنها وفرت مبلغا من مصروفاتها اليومية في حصالة ونظمت حفل ميلاد اخوها، ليخرج الاب بنتيجة مفادها: ابنتنا زينة مدبرة وليست مبذرة. ومن هذه النقطة تبدأ عملية نسج حبكة العرض وانطلاق احداثه الدرامية، اذ يقرر (منذر) منافسة اخته (زينة) في تنظيم حفل ميلادها بعد يومين بأفضل مما فعلت هي، وذلك بإحضار ساحر إلى جانب الهدايا الثمينة.
وجه العرض عدة نصائح ومقولات مباشرة إلى الجمهور، تناوب على إلقائها أفراد العائلة (الاب والأم وزينة ومنذر) وذلك بقرائتها من دفتر كتبت فيه زينة ملاحظات مدرسية، محور النصائح والمقولات عن توفير النقود وتقنين المصروفات، وانحصرت منطقة ادائها على وسط وسط الخشبة ومقدمتها، وان معظم الأحداث والحوارات قدمت في المنطقة نفسها بصورة لافتة للانتباه، يقود موضوع التوفير الأب إلى سرد حكاية عدم امتلاكه المال الكافي ويعزو الأمر إلى أن المطر لم ينزل بكمية كافية هذا العام ليسقي مزروعات البستان وبالنتيجة لم تثمر شيئاً، وبناء على هذا تحرض الأم عن بيع الأرض أو تجريفها وبيعها قطع ارض سكنية مع التنويه ان الخسارة ستكون فقدان جمال الطبيعة ونقاء البيئة، لأنها ستخلو من النباتات، موضوع الأرض والمزروعات ثانوي ولكنه مهم لتعرف المتلقي بأهمية الأرض والزراعة مع الابتعاد عن مداخلة التجريف وتحويل الارض الزراعية إلى سكنية. بعدها يعود العرض إلى الشخصيّة المحورية الجني (شبيك لبيك) حين يعاتبه (منذر) بعدم الإيفاء بإحضار كيك ميلاده، يرد الجني بأن (زينة) سبقته بفعل ذلك، يطلب منذر تحضير لوازم ميلاد اخته بأبهى صورة وان يكون الجني ضيف الحفلة وان يقوم بألعاب سحرية، ينتهي لقاء منذر والجني بوعود كثيرة ويعود الجني إلى مقره في البرميل، يسمع صوت قوي يخبر الجني بزوال السحر عنه وأنه سيعود انساناً ويتجرد من قواه الخارقة ويستعرض أسباب تحويله إلى جني لمدة ألف عام، وهي حكاية ثانوية اخرى، ويبدو أن ثنائي التأليف/والإخراج استند إلى شغف الأطفال بعمر ٦-٨ سنوات بعالم الحكايات الخيالية التي تحفل بشخصيات خارقة لا وجود لها في الحياة الواقعية، ولكن هذا الشغف يبدأ بالتلاشي في المراحل العمرية اللاحقة.
يفي الجني بوعده وينظم حفل ميلاد زينة وينسحب، تدخل العائلة، مفاجأة سعيدة، يغني الجميع، يشترط (منذر) ان يقطع الكيك قبل حضور والد صديقه الساحر الذي يحضر بالتوقيت المناسب ليقدم الألعاب السحرية المدهشة إلى جانب تضمينها مفارقات كوميدية، ويمنح عملات معدنية قديمة هديةً لزينة التي تعجب بها ويقدم معلومة مهمة للمتلقي (العراقيون أول من أوجد وتداول النقود في العالم …) وتُسرد الكثير من المعلومات المباشرة عن العملات وأهمية التوفير من قبل الأم والأب بإسهاب طويل، يقرر الأب والأم إكمال الحفل بقطع كيك الميلاد، يحاول (الجني) تأجيل الأمر لئلا ينكشف امره، ولكن الأب يقرر إطفاء الشموع وانطلاق الموسيقى لتكتشف (زينة) ان الكيك لست حقيقيا وأنه مصنوعة من مادة (الفلين) يصدم الجميع، ويخيب أملهم بولدهم منذر الذي يعاتب (الجني/شبيك لبيك) بحرقة تجعله يعترف أنه ليس جني ولا ساحر، ويحكي لهم حكاية تحوله إلى جني ثم عودته الى إنسان بعد ألف عام، وأنه لم يعد يمتلك أية قوى خارقة، وهي معلومات تكرر للمتلقي مرة ثانية، تقدم زينة الشكر للجني ولأخيها (منذر) لنواياهم الطيبة، يقدم الأب هدية (دفتر توفير) لزينة، يخرج الجني/ الإنسان دفترا كبيرا يحتوي مقولات الفلاسفة عن التوفير. التي ربما كانت بعض الأسماء والمقولات ثقيلة على اسماع المتلقين الصغار.
تبدأ حكاية ثانوية ثالثة ساندة لفكرة التوفير عندما يكتشف الأب عشرات المكالمات الفائتة في جهاز الهاتف النقال، يطلب فيها بعض التجار شراء العملات الأثرية منه بمبالغ طائلة، لقد وفر الاب هذه العملات فزادت قيمتها، لم ينوه المؤلف لهواية الأب بجمع العملات الأثرية سابقا، ولكن امرها يتعلق بصورة غير مباشرة بفكرة (التوفير) ينتهي العرض بموافقة الأب على عمل (شبيك لبيك) معه في البستان بصفة حارس او فلاح على أن يستخرج لنفسه دفتر توفير لأنه مشروع ناجح. وبهذا تختتم الفكرة المركزية للعرض بالتأكيد على اهمية التوفير وهي فكرة تنسجم مع الأطفال بعمر التاسعة وما بعدها، ذلك لان التوفير يتعلق بتبلور مفهوم (الملكية) الذي لم ينضج بعد لدى أطفال ما دون التاسعة. لكن هذا لا يعني مطلقا عدم السعي لإفهام الأطفال معنى وأهمية التوفير بجميع الأعمار، لأن لا وجود لفصل حاد وقاطع بين مدركات فئات الطفولة العمرية وان التداخل بين مختلف المراحل العمرية نفسيا وعقليا يجمع عليه الكثير من النفسانيين.
مؤشرات:
- كتبت حوارات كثيرة بصيغة السجع مما جعل أسلوب الإلقاء مميز بالتنغيم المحبب، كما في حوار الجني مع نفسه: (يبدو أنه غادر المكان، وتركني حيران، ماذا افعل الان …. فيخيب امل زينة، وتكون حفلتها حزينة، ويفضح منذر امري، ويكشف سري، لا … يجب نجاحي، فتكتمل فرحتي بإطلاق سراحي) هذا إلى جانب الأغاني والموسيقى التي أطرت العرض بروح احتفالية تماهى مع أجواءها المتلقي الصغير.
- تصدى الممثلون احيانا الى إثارة الجمهور لإظهار مهارات أدائية جاذبة امتعت المتلقي - لاسيما العاب الممثل هاشم سلمان - وبالوقت ذاته أبعدت العرض عن التركيز على فكرته الاساسية.
- الإكثار من التوجه المباشر للجمهور بالنصيحة وطرح الأسئلة والطلب منهم ترديد بعض العبارات معهم ذي حدين، الحد الأول: دفع المتلقي الصغير إلى المشاركة في العرض ورفع نسبة التفاعل . الحد الثاني: صعوبة استعادة الهدوء ورجوع المتلقي إلى أجواء العرض وأحداثه الدرامية.
ثمة ثلاث مؤشرات دالة على ضرورة الاستمرار بتقديم العروض المسرحية:
- تبشر ظاهرة الجهات الداعمة لإنتاج العروض المسرحية بالمزيد من الابداع وتدعو الفنانين لمواصلة مسيرة عطائهم. إذ قدم عرض مسرحية (دفتر توفير) الاتحاد العراقي لفناني الدمى بالتعاون مع المصرف الأهلي.
- توقيت العرض في العاشرة صباحا يتناسب مع مواعيد دوام التلاميذ في رياض الأطفال والمدارس، مما أدى إلى حضور أعداد احتشدت بها القاعة، وهذا يدل وجود جمهور كبير ومتفاعل.
- وجود مسرح وقاعة مجهزة بكل ما يلزم للعرض المسرحي (مسرح المنصور) في موقع حيوي من العاصمة بغداد (ساحة الاحتفالات) هذا فضلا عن وجود مجموعة كبيرة من الفنانين الحريصين على العمل في مسرح الطفل بكل جوانبه وعناصره (التأليف والإخراج والتقنيات والتمثيل)
قُدِم العرض ليوم واحد (الاثنين 18/ تشرين الثاني/ 2024) وانطفأ، وفي هذا تقليص كبير لمساحة عرض يستحق الاستمرار طويلا ليسجل حضوره الفني ولتوفير متعة المشاهدة للمزيد من الأطفال/الجمهور. يمكن تسمية العروض التي تقدم ليوم او يومين بعروض الشمعة في حين العروض التي تستمر ويستمر الطلب عليها يمكن تسميتها بالعروض المتوهجة، وان ما يجعل العرض شمعة سريعة الانطفاء ثلاث أسباب رئيسية:
- التزام بعض الممثلين والفنيين بأعمال أخرى.
- أسباب إدارية مثل حجز قاعة المسرح لعروض أخرى.
- ما يمكن أن تفعله الجهات الرقابية، ومن يمكنهم إعاقة استمرار العرض. مع الإشارة إلى أن العروض الموجهة للأطفال نادرا ما تنطفئ بفعل السبب الرقابي.
ملاحظة:
ثمة ضرورة لدعوة المعنيين بالطفولة والطفل من مختصين بعلم نفس وعلم اجتماع الطفل والنقاد والمشتغلين بحقل الطفولة وعدد من الإعلاميين لحضور عرض قبل انطلاق العرض لجمهور الأطفال لسماع آرائهم وملاحظاتهم والتحاور معهم والافادة منهم، ومما يلاحظ في العروض الموجهة للأطفال ضعف حضور المعنيين بمسرح الطفل وأدب الطفل والإعلام والصحافة.
عاش الأطفال يوما استثنائيا مع عرض (دفتر توفير) كسرت فيه رتابة اليوم العادي في المدرسة والبيت، وسيبقى في ذاكرتهم، وتنمو ذائقتهم، لان مسرحية الأطفال (دفتر توفير) أسهمت بصورة رائعة في إعداد متلقي المستقبل.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب