قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: إينانا المعاصرة.. قراءة نفس-رمزية لقصيدة

الأديبة عفاف عمورة (إينانا.. سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ)

تحمل قصيدة "إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ" للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة طاقةً رمزيةً كثيفة، تتجلّى من خلال استدعاء الرمز الأسطوري لإينانا، آلهة الحياة والخصب والموت، والانبعاث في الميثولوجيا السومرية. هذا الاستدعاء لا يُقصد به مجرد إحالة جمالية، بل ينبثق من عمق نفسي وشعوري يجعل من القصيدة رحلة وجودية داخل الذات الأنثوية المعذّبة والمنبعثة في آن. تنتمي هذه القراءة إلى المنهج النفساني الرمزي، مستندةً إلى مفاهيم كارل غوستاف يونغ، لا سيما "الذات"، "الأنيموس"، "الظل"، و"الرحلة التحولية".

المحور الأول: إينانا كرمز أرشيتيبي — تجلّي الأنوثة الكونية:

في اللاوعي الجمعي بحسب كارل غوستاف يونغ، تمثل الآلهات الإناث (كإينانا، عشتار، ديميتير، إيزيس...) صورة الأنيما، وهي الأنثى الداخلية الموجودة في نفس الرجل، كما تمثّل الأنوثة الكونية الخلّاقة في وعي المرأة. تقول في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ، وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،"

هنا نرصد حركة إينانا من الركود إلى النهوض، من الظلام إلى النور، وهي سمة أساسية في بنية "الرحلة البطولية" الأنثوية. إينانا ليست مجازاً للمرأة، بل المرأة بوصفها أسطورة، قادرة على التجدّد من تحت ركام الألم والخيانة والزمن،والقهر السياسي والعسكري المدمّر، وهو ما يرسّخ حضورها كرمز للذات المتمرّدة على الاستلاب.

المحور الثاني: الرحلة إلى العمق — النزول إلى الظل والموت الرمزي:

يحدّثنا كارل غوستاف يونغ عن أهمية مواجهة "الظل"، أي الجانب المظلم من النفس، في سبيل تحقيق التكامل النفسي. تظهر هذه الرحلة في القصيدة:

 "مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات، واجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف، وتعودينَ منهُ مكلّلةً بأكاليلِ البقاء."

إنها رحلة التحوّل الداخلي، حيث تنزل البطلة إلى عتمة الذات، تواجه موتاً رمزياً، لكنها تعود — كما في الأسطورة — محمّلةً بوعي جديد، ببذور الولادة التالية. في هذا السياق، يُقرأ الموت لا كفناء بل كمرحلة من مراحل النضج النفسي، وفقاً لما يؤكده يونغ: "لا يُمكن للإنسان أن يصبح مستنيراً بتخيّل صور النور، بل عبر جعل الظلمة واعية".

المحور الثالث: الحبّ كقوة شافية — الأيروس الإلهي لا الغريزي:

في مقابل العنف والانكسار، تتمركز الأنثى في القصيدة كينبوع حبّ غير مشروط ، تقول: "تُحبّينَ لا كالبشرِ، بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها، وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر."

الحبّ هنا ليس فعلاً شخصياً بل كوسمولوجياً، ينتمي إلى دائرة الأيروس المقدّس في فكر  كارل غوستاف يونغ، حيث يصبح الحبّ قوة شافية، طاقة تدمج الأضداد: الحنوّ والغضب، الجسد والروح، الموت والحياة. بهذا الحبّ، تُضمّد الشاعرة الجراح الجمعية، وتحوّل الأنثى إلى كاهنة/مُعالجة، لا مجرد حبيبة.

المحور الرابع: اللغة بوصفها مسكن الأنثى وصوتها، تقول :

 "تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها، وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق."

هنا تتحوّل اللغة إلى امتداد للكيان الأنثوي. ليست الكتابة ترفاً، بل وسيلة للبقاء، ولإعادة كتابة الزمن/القدر. وفقاً ليونغ، تصبح اللغة إحدى وسائل تحقيق "الذات" وتفريغ اللاوعي. الكتابة الشعرية، إذاً، تُشكّل هنا طقساَ طهورياً، وتحريراً من الصمت والجُرح.

المحور الخامس: حضور الوطن والمنفى — البعد الجماعي للذات الأنثوية. تقول الشاعرة عفاف عمورة : "تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب، وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ شهوةَ العودةِ إلى الحياة."

تُجسّد إينانا المعاصرة هنا الأنثى اللاجئة/المنفية، الحاملة لذاكرة الوطن السليب والحنين لكل ذرة تراب فيه وهو فلسطين من البحر إلى النهر ، لكن من موقع منيع لا هش. في هذا البُعد، تتقاطع الذات الأنثوية مع الهوية الجماعية الفلسطينية، فتُصبح المرأة هنا حاملًا للذاكرة، ومعادلاً للوطن المسلوب، بل ومحفّزاً على استرداده.

خاتمة: إينانا الجديدة — بين الأسطورة والتحقّق النفسي.

في قصيدة عفاف عمورة، لا تظهر إينانا بوصفها تمثالًا أسطورياً جامداً، بل كطاقة رمزية متحرّكة، تتلبّس الذات الأنثوية المعاصرة، لتقدّم من خلالها مشروعاً للنهضة النفسية والوجودية. تُصبح الأنثى بذلك رمزاً للحياة وسط الموت، وللمعنى وسط الفراغ، وللنور وسط الظلمة.

إنها القصيدة التي تُعيد للرمز الأسطوري حياته، وتمنحه جسداً نابضاً، ينهض من تحت أنقاض الحروب والخذلان، ويُعلن: "أنا البداية التي لا تنطفئ".

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

إينانا... سيدةُ البداياتِ التي لا تنطفئ

مثلُ إينانا، تنهضينَ من سُباتِ الليلِ،

وتنفضينَ عن كاهلكِ غبارَ الأزمنةِ الخائنة،

تسيرينَ بثوبِ النورِ،

فتنحني لكِ الجهاتُ،

وتُشرِقُ في خطاكِ معالمُ البدايات.

*

كأنكِ دعاءُ الأمهاتِ في المهاجر،

أو دمعةُ العاشقِ حينَ يضيعُ الوطن،

كأنكِ البُشرى التي تهمسُ بها النجومُ

لقلبِ الأرضِ المتعبِ.

*

تُحيينَ ما ماتَ من القصائدِ،

وتنثرينَ على قلوبِ الذاهلينَ

عبقَ الدهشةِ الأولى،

كأنكِ نارٌ أوقدها العشاقُ

في معابدِ الانتظار،

تُضيئينَ بها ليالي الغيابِ

وتُطهّرينَ بها جُرحَ الصمتِ.

*

حينَ تسقطُ المدنُ،

وتخفتُ في الشرايينِ أنفاسُ الانتماء،

تكونينَ الحنينَ الذي لا يُنسى،

والصوتَ الذي يُعيدُ للهويةِ معناها.

أنتِ يا ابنةَ الفجرِ،

من رَشّت على ترابِ الوجودِ

ندى البدايات.

*

تُحبّينَ لا كالبشرِ،

بل كما تُحبُّ الأرضُ مطرَها،

وكما يعشقُ القمرُ انسكابَهُ في البحر.

تُحبينَ بحنوِّ السكينة،

وبغضبِ الأعاصير،

وتُضمّدينَ بالقبلِ ما مزّقتهُ الحروبُ في الأرواح.

*

تسكنينَ الحرفَ كما تسكنُ الروحُ جسدَها،

وتَكتبينَ الزمانَ بأناملِ الإشراق،

تمشينَ فوقَ جراحِنا

كأنكِ نشيدٌ لا يُنسى،

وكأنكِ وعدٌ لا يُخلف.

*

مثلُ إينانا، تنزلينَ إلى ظلماتِ الذات،

تواجهينَ الموتَ دونَ ارتجاف،

وتعودينَ منهُ

مكلّلةً بأكاليلِ البقاء.

*

أنتِ القصيدةُ التي لم تُكتبْ بعد،

والأُمنيةُ التي تأبى أن تموت.

تُقيمينَ فينا كما يقيمُ الوطنُ في دمِ الغريب،

وتُوقظينَ في قلوبِ المرهقينَ

شهوةَ العودةِ إلى الحياة.

*

أنتِ، مثلُ إينانا،

سيدةُ النهاياتِ التي تبدأ،

وملكةُ البداياتِ التي لا تنطفئ،

سِرُّ الحياةِ حينَ تُنسى،

ونبضُها حينَ تُطفأُ القلوب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم