قضايا
عبد الحليم لوكيلي: العلم بما هو جزئي (1): ابن خلدون نموذجا

عرفت العصور الوسطى تحولات في المنظومة الفكرية والعلمية التي نقلت إليها وفق سياق كوني وحضاري من اليونان عبر جملة من العوامل العملية (الترجمة نموذجا). لذلك، لن نتطرق إلى لحظات كثيرة منه، بقدر ما سنركز على لحظة المفكر العربي الإسلامي عبد الرحمان ابن خلدون (1332م-1406م) المؤسس لعلم "العمران البشري"، نظرا لما طرحه من تصور واقعي وعيني، كان بمثابة البدايات الجنينية للانتقال من العلم بالكلي إلى العلم بالجزئي. لكن قبل ذلك، وجب أن ننظر إلى عنصر هام ساهم في العودة إلى الجزئي والاهتمام به، يتعلق الأمر بالأديان السماوية.
يمكن القول، في هذا الصدد، أنه يعود الفضل للأديان السماوية في ظهور جملة من الشروط ذات البعد النظري التي مكنت من بزوغ مجموعة من المفاهيم التي تعد من أساسيات الحداثة الفكرية[2]. والقصد هنا، يتعلق بظهور العلم الإلهي في مقابل العلم الإنساني، فإذا كان العلم اليوناني أساسا يقوم على ما هو كلي، بمعنى لا معرفة ولا علم حقيقيين إلا بالكليات والماهيات كما هو الحال مع أفلاطون وأرسطو، فإن العلم الإلهي يقوم على ما هو جزئي، إذ الله يعلم إلى جانب علمه المطلق بالكليات، فهو يعلم أيضا جزئيات العالم وخفاياه، ومن تم أصبح الاهتمام بما هو جزئي من الأهمية بمكان، الأمر الذي سمح بمحاولة تحقيق النظرين العلمي والفلسفي العيني. وبذلك، يكون ظهور العلم الإلهي لحظة أساسية ساهمت في بداية انبثاق منظومة فكرية جديدة قوامها لا علم إلى بما هو جزئي، وقد تجلت هذه القاعدة في سياق النظر الفلسفي والعلمي والكلامي وغيره.
في هذا السياق، يمكننا الاتجاه صوب ابن خلدون لنقف في مستويين: مستوى أول؛ يتعلق بعلم التاريخ، ومستوى ثاني؛ يتعلق بعلم العمران البشري. إن الاهتمام بالتاريخ أمر لم يكن مطروحا عند اليونان، حيث كانت القاعدة الأساسية لإدراك الموضوعات تتم وفق رؤية مكانية تحددها ثنائية فوق وتحت، وليس زمانية تحددها ثنائية قبل وبعد. إن الاهتمام بأحوال الناس وأخبارهم الجزئية لهو سياق أخر يقف عند حدود جزئيات العالم وأحواله، لا كلياته. يقول ابن خلدون حول فن التاريخ المطلع على أخبار الناس وأحوالهم الجزئية ما يلي: «أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوق والأغفال، وتتنافس في الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمق لها الأقوال، وتصرف فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق»[3].
يتضح من خلال هذا النص-ونصوص أخرى كثيرة في كتاب المقدمة-أنه أصبح هناك اهتمام بأحوال الناس وعيشهم وجزئياتهم انطلاقا من علم التاريخ، من حيث «هو فن عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية، إذ يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا»[4]. إن المطلع على مثل هذه النصوص التي تحمل خصائصا وطرافة في النظر إلى مجال الواقع العيني وتبيان ملامحه ودراسته في العصر الوسيط، يبين بوضوح ذلك الانتقال من منطق الكليات إلى منطق الجزئيات، وهو أمر ساهم فيه الدين من حيث إن النصوص الدينية على اختلافها تتحدث عما عاشه الأنبياء والرسل ومعجزاتهم وغيرها، وما سيأتي في العالم الآخر، مما يعني استحضار البعد الزمني للموضوع القائم على ثنائية قبل وبعد، وليس ثنائية فوق وتحت المكانية عند اليونان.
الأمر نفسه، ينطبق على العلم الجديد الذي أسسه ابن خلدون، أعني علم "العمران البشري"، إذ هو علم خاص به، ولم يكن موجودا كما يصرح بذلك هو. إنه يختلف عن الخطابة باعتبارها مجالا للأقوال والخطابات، وعن السياسة المدنية باعتبارها مجالا لتدبير المدن بكيفية لا تنفصل والأخلاق تحقيقا للفضيلة والخير الأسمى. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: «وأعلم أن الكلام في هذا الموضوع مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد الكتب المنطقية. فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه»[5].
يختلف علم العمران البشري من حيث موضوعه عن المجالات المذكورة في النص السابق، أي الخطابة والسياسة المدنية، إذ يقول ابن خلدون؛ «فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه. وكأنه علم مستنبط النشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا. فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل»[6]. لكن «الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والمطلب، مثل ما يذكره الحكماء في إثبات النبوة، من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع، ومثلما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وشأن العبارة أخف، ومثلما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للإنساب، مفسد للنوع، وأن القتل أيضا مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المقتضي فساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، وأنها كلها مبنية على العمران، فكان لها النظر فيما يعرض له. وهو ظاهر كلامنا في هذه المسائل الممثلة»[7].
لهذا، يعرف ابن خلدون العمران بعد أن قام بعد جزئيات العلوم والصنائع التي ليست من النوع نفسه، قائلا: «العمران، هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشرة واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش، كما نبينه»[8]. إن ابن خلدون يصف موضوع العلم الذي أبدعه على كونه مجالا للاهتمام بما هو واقعي في حياة الناس من معيش وغيره، سيما وأن الاجتماع الإنساني يعد ضرورة يقتضيها وجود الإنسان في العالم.
هكذا، يتبين مع ابن خلدون –وإن بإيجاز-أنه يسلك مسلكا مخالفا للقدامى (اليونان خصوصا)، إذ يذهب في اتجاه الوقوف عند وقائع عينية بكيفية مفصلة تحدد أخبارهم وخباياهم المعيشية، ومن تم فهو يتناول الواقع كما هو موجود، بغية تبيان ما ينبغي العمل عليه للبحث عن الأفضل، وليس الذهاب في اتجاه تناول الكليات وفق سياسة مدنية تسعى تحقيق الخير والسعادة وغيرها.
***
د. لوكيلي عبدالحليم باحث في الفلسفة – المغرب
.........................
[2] عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص.52.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون. المقدمة. ج 1. تحقيق عبد السلام الشدادي. ط.5. (الدار البيضاء: خزانة ابن خلدون بيت الفنون والعلوم، 2005)، ص. ص. 5-6.
[4] المصدر عينه، ص. 13.
[5] المصدر عينه، ص. 56.
[6] المصدر عينه.
[7] المصدر عينه، ص. 57.
[8] المصدر عينه، ص. 62.