قضايا

هدى لحكيم بناني: السخرية في زمن الأزمات.. تفريغ نفسي أم مقاومة ناعمة؟

في أزمنة الشدة، حين تشتد الأزمات وتخنق الأمل، يتوقّع المرء أن تلوذ المجتمعات بالصمت أو الحزن أو الانكسار. لكن ما يحدث في الواقع، وعلى نحو يكاد يكون نمطيًا، هو أن السخرية تخرج إلى السطح كأول استجابة، لا بوصفها انحرافًا عن السياق، بل كجزء منه. تُطلق النكات، تُصاغ الميمات، وتتحوّل الفواجع إلى مادة تهكم رقمي يتداولها الناس كما لو أنهم يتقاسمون مأدبة يومية من المفارقات السوداء.

هذه الظاهرة، التي تبدو في ظاهرها تسلية أو تخفيفًا من وقع الأزمة، تستبطن في عمقها آليات نفسية واجتماعية معقّدة. فالسخرية، وفق التحليل النفسي، ليست مجرد طريقة للتعامل مع الألم، بل تُعد من آليات الدفاع المتقدمة التي يمارسها الإنسان حين لا يجد في الواقع ما يوازي حاجته للفهم أو الأمان. فرويد اعتبر النكتة تمرينًا لاشعوريًا على الإفراج عن رغبات أو مشاعر مكبوتة، ووسيلة لتجاوز الرقابة الذاتية أو الخارجية. في لحظات الأزمة، حيث السيطرة على الواقع معدومة، تصبح السخرية لغة بديلة للتنفيس، تمنح الفرد – ولو بشكل زائف – وهم السيطرة، أو على الأقل: إمكانية التعبير دون انهيار.

لكن السخرية لا تقف عند حدود النفس الفردية، بل هي فعل اجتماعي بامتياز. إنها لغة خطاب بديل، غير مباشر، يستخدمه المهمّشون للقول دون أن يُحاسَبوا، وللتعبير من خارج سلطة اللغة الرسمية. في سياقات القمع، وفي لحظات الحرب أو الكوارث، تصبح النكتة أداة نقد لاذعة، تنزع القداسة عن الرموز، وتسخر من السلطة، وتخلق نوعًا من المقاومة الناعمة التي يصعب قمعها. فمن يضحك على الجلاد، يُفقده هالته؛ ومن يهزأ بالخوف، يُقلّل من سطوته.

غير أن المفارقة تكمن في أن السخرية، في لحظة ما، قد تتحوّل إلى آلية تهرّب أكثر منها مقاومة. فكما أن الضحك يحرر، يمكنه أن يخدّر. وكما يفضح التهكم زيف الخطاب، يمكنه أن يُسكن الألم في قشرة من المزاح الساخر. في هذا السياق، قد نجد مجتمعات بأكملها تمارس السخرية اليومية على أزماتها، بينما تتراجع قدرتها الفعلية على الفعل أو التغيير. تتحول السخرية إلى شكل من أشكال التكيّف السلبي، تُنتِج الرضا عن المأساة بدل التمرد عليها. والأسوأ من ذلك، حين توظّف الأنظمة ذاتها هذا النوع من الخطاب لإفراغ الحنق الشعبي من أي مضمون تغييري، بتشجيع التنفيس بدل النقد.

لقد لعبت الرقمنة دورًا مضاعفًا في تعميم هذا النمط من السخرية، وجعلته ظاهرة عابرة للحدود. فأصبح "الميم" أداة نقد سياسي واجتماعي، تتداولها الشعوب كأنها بيان يومي للهم العام. تتكرر النكتة ذاتها بلغات ولهجات مختلفة، لتصبح أداة تواصل عالمي جديد بين المهمّشين والمتعبين والمقهورين. غير أن هذه السخرية الرقمية، رغم انتشارها السريع، قد تفتقد في كثير من الأحيان للعمق أو الهدف. فهي ليست دومًا تعبيرًا عن وعي جمعي بقدر ما هي تفريغ لحظي في بحر من المحتوى المتقلب.

وفي السياق العربي، يبدو حضور السخرية مضاعفًا؛ لا لفرط الفرح، بل لأن الألم فادح والمداخل العقلانية للتغيير محدودة. فتتحوّل النكتة إلى وسيلة بوح، ويغدو التهكم على الواقع جزءًا من مقاومته. ومع ذلك، علينا أن نحذر من السقوط في فخ التهكم المزمن الذي يُميت الإحساس، ويجعل الكارثة مشهدًا عاديًا يثير الضحك لا الغضب.

إن السخرية، في جوهرها، مرآة. تعكس وعيًا جمعيًا مأزومًا، لكنها لا تُنتج بالضرورة مشروعًا للتحرر. ولذا، فإن المعضلة ليست في وجود السخرية، بل في غياب ما يقابلها من فعل. لا بأس أن نضحك على الألم، لكن الخطر كل الخطر، أن نكتفي بالضحك. فما بين التهكم والجمود، خيط رفيع يفصل بين وعي ساخر يسائل الواقع، وسخرية عقيمة تُطبع معه. إن زمن الأزمات، في النهاية، هو أيضًا زمن الأسئلة. والسخرية التي لا تُفضي إلى سؤال، قد تكون مجرد طريقة أخرى للصمت.

***

د. هدى لحكيم بناني

في المثقف اليوم