قضايا

محمد سيف: الانتباه يقتل الاحتمالات!

في عالَم تقتضي طبيعتُه أن يتشظّى فيه تركيزنا، تتضاءل معه نتائجُنا، فتتبلور تضاريس حياتنا وفقا لذلك، ومتى ما انكفأتَ على جانب منها دون آخر، أصاب حياتَك ضمورٌ يشلّ تلك الأطراف المهمَلة، فتغدو مَسْخا لا ينهض نموذجا يُعاش.

ورغم ذاك، خليقٌ بنا أن ننتقي بعنايةِ الضَّنين بوقته وجهده، ما نوليه طاقة انتباهنا، فليس كل شيء يستحق، مهما بدا برّاقا، ولا شيء في الحياة تتعذّر بدائله، مهما بدا نادرا، كل ما يتطلبه الأمر هو ألّا نفتأ نفتّش ونقيّم ونراجع ونختبر ما نُؤْثره بانتباهنا دونًا عن البقية.

في عالم الاقتصاد يُتداوَل مفهوم (Apportunity Cost) تكلفة الفرصة البديلة، وهي تمثل الخيارات البديلة التي تضحّي بها لدى اختيارك خيارا ما، والخطورة تكمن حين تتعلق التكلفة ببؤرة انتباهنا (Apportunity Cost of Attention) فعلى سبيل التمثيل حين نهتم بتفصيل هامشي لحدث ما، ونستغرق الوقت في التفكير فيه، فنحن بهذا الفعل - شئنا أم أبينا - ننحّي احتمالات لا متناهية من مواطن الاهتمام الكبرى لذلك الحدث بَلْه الأحداث الأخرى المهمة، والتي من الوارد جدا أن تخلق مسارات متعددة حُبْلى بالكثير من الفرص والنتائج، وهذا ينسحب على مختلف أوجه حياتنا، فالساعة التي نقضيها في التفكير بموقف عصيب مضى، كان من الممكن أن تكون ساعة للقاء الأحبة والانخراط في أنشطة عدة تعود علينا بالنفع.

إنّ الانتباه هو رأس مالنا الحقيقي، ورصيدنا الذي نوزّعه على الزمن لحظة بلحظة، حتى مواقع التواصل الاجتماعي يكمن سرّها في تنافسها المحموم فيمَن إشعاراته تجذب انتباهنا أكثر، ومَن محتواه يستحوذ على جلّ انتباهنا، ومَن تقنياته النفسية تخطب ودّ انتباهنا وتخطفه أكثر مما سواه، كتقنية التعزيز الإيجابي المتقطّع (Intermittent Positive  Reinforcement) والتي تعرّضنا خوارزميا لمحتوى مهم لنا بشكل متقطع؛ مما يحفز الدماغ على طلب المزيد، فتجد الإبهام تلقائيا مرر (الرِّيل) الواحد تلو الآخر في تطبيق الأنستغرام مثلا، فما تجده في نفسك من اندفاع عند رؤية إشعارات تطبيق ما، ما هو إلا مؤشر دقيق على نوعية مصارف انتباهك وكيفية استنزافه.

لا جدالَ أنّ الانتباه صوب أمر أما يفتح بابا واسعا من الاحتمالات، وكل احتمال منها ينفتح كذلك على احتمالاته الخاصة به، في سلسلة احتمالات لا تنقضي، ولكن مع كل احتمال نستبعد - حُكمًا - ما عداه من الاحتمالات، وهنا تأتي خطورة الانتباه، فهو في وجهه الآخر يَئِدُ الاحتمالات الأخرى الممكنة ويقصيها، وهذه الاحتمالات المُقصاة هي الثمن الباهظ الذي ندفعه كل مرة نُعير انتباهَنا شيئا ما؛ وعليه فينبغي ألّا تغرّنا النتائج الطيبة الناتجة مما نهبُه انتباهَنا، على حساب النتائج المحتمَلة للخيارات الأخرى، إذْ لا تخلو زاوية من زوايا الحياة من جانب مضيء، وهذا لا يعني أن غيرها من الجوانب يسكنه ظلام دامس، بل واردٌ جدا أن يكون أكثر وضاءةً وإشراقا، فإثبات الخيرية في قرار لا ينفيه عن غيره.

لأنّ الانتباه موردٌ محدود؛ فلا بد أن نضعه في موضعه اللائق به، فلسنا في بحبوحة من الانتباه نُبَعزِقه يَمنة ويَسرة كالغارف من بحر، ولأن التجارب الجديدة حاجة ملحّة وليس ترفا كماليا، فالانتباه الذي يسوغ صرفه في مرحلة العشرينيات لن يكون هُوَ هُوَ في مرحلة الأربعينيات، فكلما تقدّمنا في العمر، كان تصحيح المسارات أشقّ إن لم يكن أقرب للمُحال في بعضها، فما نرخي الحبل إزاءَه في باكورة العمر من إشغال الانتباه به، لن يحمل التبعات نفسها كمًا ونوعًا حين يزدحم الجبين بالتقاطيع، ويصبح الوقت أكثر نفاسة وقداسة من أنْ نحرم أنفسنا من احتمالات لحساب انتباه عابر لا طائل جوهري منه.

في الوقت الذي يضع امرؤ ما جُلّ انتباهه في شراء إكسسوارات لسيارته، يصبّ آخر انتباهه في كيفية بدء الاستثمار في أسهم شركة تيسلا، وحين ينشئ أحدنا علاقات مجتمعية سطحية، مبنية على المجاملات المتصنّعة والتنازلات غير المسؤولة، يركز آخرُ انتباهه على بناء شبكة نفوذ متينة، أساسها المصلحة المشتركة في قطاع واعد إنْ ماديا وإنْ معنويا، وفيما يقامر أحدهم بانتباهه في لعب دور الضحية، يستثمر غيره انتباهه في صنع مسارات خروج، وعندما يستنفد الساذج انتباهه في التعاطي مع تفصيل صغير على هامش الحياة، يراهن آخر بانتباهه في نقلة محورية تُهدي حياته ولادة جديدة، وحين يتعمد الفاشل صرف انتباهه في هندسة ألوان من المكائد ضد الآخرين، ينهض انتباه غيره مخلصا في كيفية خدمة مجتمعه، وهكذا بإمكاننا أن نتنبّأ بعمق الشخص وإنتاجه من خلال ما يشغل انتباهه، وهو معيار دقيق حدّ الذهول.

وإنه لَـمِنَ الجيد في كل مرة نقبض على انتباهنا متلبّسا بأمر ما أن نحاكمه بأسئلةٍ من قبيل: هل هذا الأمر يستحق اهتمامي فعلا؟ هل أنا مدركٌ الكّم الهائل من الاحتمالات التي سأضحي بها مقابل هذا الأمر؟ آلدوافع التي تقود اهتمامي هذا حقيقية أم مجرد ردة فعل أم أنها لدوافع دون الأَولى؟ منذ متى وأنا أصرف انتباهي لهذا؟ هل العوائد التي التي جنيتها من انتباهي حتى الآن تعادل ما صرفته من انتباه؟ ماذا لو كان هذا الأمر ليس جديرا باهتمامي، فما هي البدائل المتاحة الأخرى؟ على حساب ماذا ومَن بالضبط هذا الانتباه الحالي؟ في هذه المرحلة العمرية، ما هي أهم الجوانب الواجب توجيه الانتباه إليها؟ ماذا خسرت حتى الآن من انتباهي على هذا الأمر؟ ماهو الأمر الذي صرفت انتباهي عنه ثم عدت له مجددا، وما مسببات ذلك؟ إن نَسَق هذه الأسئلة من شأنها أن تقدم لك بوصلة دقيقة لخطواتك القادمة وميزانا دقيقا لخطواتك الراهنة، فبالسؤال تتعرّى الحقائق عن طبقاتها من الوهم والارتجال، كل ما تحتاجه جلسةُ الأسئلة من هذا النوع جرعة زائدة من الشجاعة في إلغاء الانتباه لأمر مهما قدُم عهده، وجرعة أخرى من الحكمة في اختيار البديل وتوقيته.

لا أريد أن يُفهم من كلامي أني أدعو إلى حياة جافة جامدة جادة، تلك التي لا يزاحم تفاصيلها إلا العميق وذو العائد المُجدي، حياةٌ تأنف من الترفيه وتَربأ بنفسها عن المتعة، ولا تتسع مساحتها لاختيارات نروّح بها عن نفوسنا، ونقطف فيها جماليات الحياة المبعثرة على تُخوم أزقّة عمرنا، وتفتح أفواهنا لتندّ منها ضحكات على توافهَ هنا وهناك.

وإنما الغاية - كل الغاية - هو أن أسترعي انتباهك إلى حقيقة أنه في كل مرة تصرف انتباهك في شيء، علاقة، شخص، هدف، مُعطى، فإنك حتمًا في المقابل تلغي احتمالية بقية الأشياء والعلاقات والأشخاص والأهداف والمعطيات، وعلى هذا المِنوال قِسْ، ولا يوجد شيء - مهما كان عظيما وجميلا وبديعا ونفيسا - إلا واستبعدتَ بالتركيز عليه ما عداه، فإذا كان ذلك كذلك، اجعله جديرا بانتباهك، مستحقا لحُظوتك، خليقا بأولوياتك، والعمر قصير، فقدّس مواضع انتباهك؛ لأنه كل ماتملك! فهذه الضفيرة المفهومية حين تتدلى من رؤوس العمر ندرك ضرورتها وخطورتها في آن، فمَنْحُ الانتباه للشيء يقتل احتمالات غيره!

***

محمـــد سيـــف

في المثقف اليوم