قضايا
مصطفى غلمان: الْعَمَى الْمَعْرِفِيّ.. حِينَ يَسْطَعُ الضَّوْءُ فَيَحْجُبُ الرُّؤْيَةَ
(العقل البشري يستطيع أن يتجاوز حدوده ظاهريًا، لكنه يضلّ حين يفعل ذلك دون نقد)... كانط
(المعرفة ليست مجرد بناء عقلي، بل هي تموضع جسدي للعقل داخل العالم)... مرلوبونتي
لم يعد الجهل، في الفلسفة المعاصرة مجرّد نقيض للمعرفة، بل غدا بنية إبستمولوجية قائمة على سوء الفهم، وعلى غياب الوعي بالجهل نفسه. فمنذ سقراط الذي جعل من الاعتراف بعدم المعرفة أولى خطوات الحكمة، ميز الفكر الفلسفي بين جهل بسيط يعترف صاحبه بالقصور، وجهل مركّب يتوهّم فيه الإنسان أنه عالم، بينما هو غارق في تمثلات زائفة للمعرفة.
في مستوى كهذا، يتحول الجهل من وضع معرفي إلى مأزق وجودي. فليس الإنسان جاهلًا فحسب، بل هو غافل عن جهله، وهذه الدرجة من العمى المعرفي هي ما يجعل الأفراد، بل والمجتمعات أكثر عرضة للخطأ، وأكثر استعدادًا لإعلاء الوهم إلى مرتبة الحقيقة.
وإذا كانت الحداثة قد وعدت بالتحرر من الجهل عبر العلم والتقنية، فإنها أنتجت أشكالًا جديدة من الجهل. جهلًا تتكفل التقنية نفسها بصناعته، لأنه لا يقوم على نقص في المعطيات، بل على فرط في تدفقها، وعلى إيهام الإنسان بأنه يمتلك المعرفة لمجرد أنه يلامس واجهاتها الرقمية. هنا يظهر ما يشبه "الجهل الرقمي المركّب"، حيث تزداد الثقة الذاتية بازدياد الأدوات، ويقلّ الوعي بازدياد الاعتماد عليها.
فالجهل لا يُفهم إلا داخل حقل المعرفة، كما أن المعرفة لا تكتمل إلا بوعيها بحدودها. هذا ما شدّد عليه كانط حين جعل من "حدود العقل" شرطًا لفهم إمكاناته، ثم عمّقه كارل بوبر بإقراره أن قابلية الخطأ هي جوهر الموقف العلمي. فالمعرفة ليست حالة رسوخ، بل حركة يقظة بين الشكّ والاختبار والتصحيح. أمّا حين تتوقف عن مساءلة ذاتها، فإنها تنقلب إلى أيديولوجيا: نظام مغلق يبرّر ذاته ذاتيًا ويحوّل معتقداته إلى حتميات.
من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تأسيس إبستمولوجيا نقدية تجعل من المعرفة فعلًا إنسانيًا لا تقنية صمّاء، وتفصل بين التفكير والتقليد، وبين الفهم والاستهلاك. نحن بحاجة إلى عقل يدرك أنه محدود، وإلى فكر يمارس الشكّ باعتباره منهجًا للحماية من الوهم، لا كحالة عدميّة.
إن "الجهل الواعي"، أي إدراك المرء لجوانب ما يجهله، ليس نقيضًا للمعرفة، بل شرطها الأول. فمن لا يعرف حدود معرفته، يظلّ عرضة للتحول إلى مجرّد مستهلك للأفكار، لا إلى صانع لها. والإبستمولوجيا الجديدة التي يحتاجها العالم اليوم ليست تلك التي تَعِد بحقيقة كاملة، بل التي توفّر أدوات دائمة للتساؤل، للحفر في المعنى، ولتفكيك ما يبدو بديهيًا.
ليست خطورة الجهل في غيابه، بل في قدرته على التسرّب إلى أنماط التفكير اليومية دون أن يعلن عن نفسه. فمجتمع المعرفة الحقيقي ليس من يملك أكبر قدر من المعلومات، بل من يمتلك القدرة على تحويل هذه المعلومات إلى وعي نقدي. ولذلك، فإن المعركة المعرفية الكبرى للإنسان المعاصر ليست بين الجهل والمعرفة، بل بين الوهم والحقيقة. بين منطق الاستهلاك ومنطق الفهم. بين إنسان يفكر كي يوسّع أفق وجوده، وإنسان توقف عن السؤال فصار أسيرًا لما يُملى عليه.
إن المعرفة التي لا تنتج سؤالًا ليست معرفة حيّة، والجهل الذي لا يُفضي إلى وعي حدوده يتحوّل إلى استعمار صامت للعقل. هكذا يصبح مستقبل الفكر مرهونًا بقدرتنا على التمييز بين ما نعرفه حقًا، وما نظن أننا نعرفه.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان






