قضايا

حاتم حميد محسن: أوجه التشابه والاختلاف بين جان بول سارتر والبير كامو

في البدء كان الوجوديان سارتر وكامو صديقين لكن الاختلافات بينهما أنهت تلك الصداقة. كانت الحياة في اوربا في النصف الاول من القرن العشرين غير مستقرة، تشوبها الحروب والأزمات الاقتصادية والأوبئة. وبسبب ذلك، كان من الصعب تجاهل الشعور بان الانسانية تواجه "أزمات وجودية" الواحدة تلو الاخرى.

احدى الإستجابات الفلسفية لهذا السياق التاريخي كانت الفلسفة الوجودية. هناك مواضيع مشتركة استطلعها "الوجوديون" ولكن هناك ايضا اختلافات هامة بينهم. لم يكن سارتر و كامو استثناءً لأن الاثنين بدءا كصديقين يستفسران عن قضايا متشابهة، لكن الظروف قادتهما في النهاية الى مواقف فلسفية مختلفة.

ماهي الوجودية؟

أفضل فهم للوجودية هي انها ليست حركة فلسفية او تقليد فكري في حد ذاته، وانما كمجموعة من المفكرين يباشرون تحقيقات مشتركة خاصة حول الوجود الانساني. وبينما تعود تلك التحقيقات رجوعا الى الفلسفة الرواقية الهلنستية، ابتدأت الوجودية كإستكشاف لمجموعة من الموضوعات المشتركة في القرن التاسع عشر مع سورن كيركيجارد وفردريك نيتشة . جميع هؤلاء المفكرين متحدون في استكشاف منْ نحن وكيف يجب ان نعيش كرد فعل للاضطراب الحاصل وما يلوح في الافق من قوى تغيير تكتسح اوربا خصيصا اثناء حياة سارتر وكامو في النصف الاول من القرن العشرين.

سيرة جان بول سارتر

وُلد سارتر في باريس وعاش من عام 1905 الى 1980. هو وصف طفولته بـ "الخانقة"، يشعر بالوحدة التامة مع كتب أمضى فيها الكثير من وقته في المنزل، كونه تربّى بمساعدة امه وأجداده بعد موت أبيه. لكنه استمر في متابعة دراسة الفلسفة حاصلا على شهادته من مدرسة الأساتذة العليا في باريس. هو ايضا درس في المانيا حيث اكتشف فينومينولوجيا هسرل وهايدجر التي كان لها تأثيرا كبيرا على فلسفته اللاحقة. أثناء الحرب العالمية الثانية وقع سارتر أسيرا بيد الالمان حيث اعتبر هذا الحدث كمناسبة اخرى للوقوف بعمق على أفكار هايدجر. وعند عودته الى باريس كمواطن متذرعا بسوء حالته الصحية التحق سارتر بحركة المقاومة – وهنا التقى لأول مرة مع البير كامو كونهما في البدء اشتركا بمُثل سياسية، لكنهما افترقا في النهاية مما ادى الى انهاء الصداقة بينهما.

سيرة البير كامو

وُلد البير كامو في الجزائر ومات في فرنسا. هو عاش من عام 1913 الى عام 1960. كلاهما مارسا عدة أدوار في الكتابة كروائيين او كتاب مقالات او كتاب مسرح. عاش كامو في عائلة ضمن طبقة عاملة فقيرة بالضد من اسلوب حياة الطبقة الوسطى لسارتر. هما اشتركا بكونهما تربّيا بواسطة امهما وجدّيهما بعد موت أبويهما. وكرجل بالغ، كانت سمعة كامو كزير نساء ومع انه لا يؤمن بالزواج لكنه تزوج مرتين وعُرف عنه إرتكاب الزنا – في الحقيقة يُعتقد ان احدى زوجاته حاولت الانتحار كنتيجة للاضطراب الذي نتج عن ذلك السلوك.

كان العيش في الجزائر المحتلة من جانب فرنسا تجربة مختلفة جدا لكامو مقارنة بسارتر، وهذا جزئيا قاد الى رؤى سياسية متعارضة – وهو السبب الرئيسي للخلاف بينهما. سارتر دعا الى الشيوعية كشكل مثالي للحكومة وكحل للمشاكل في زمانه، بينما كامو كان مضادا وخصما قويا للشيوعية.

التشابه بين الاثنين

مثلما حصل بالنسبة لاؤلئك الذين اُطلق عليهم "وجوديون"، كان البير كامو في فلسفته مهتما بالوضع المُعاش للكائن البشري. الاتجاه الذي سلكه هو التركيز على العبث، ولهذا يعتبِر البعض فلسفته بـ "فلسفة العبث" بدلا من "وجودية"، الى جانب أسباب اخرى.

الإلحاد، العبث، العدم

كل من سارتر وكامو كانا ملحدين، وهو أساس هام لرؤاهما اللاحقة. كلاهما اتفقا بان هذا منح الكائن البشري حرية راديكالية. لكن، وكما نرى، كامو لم يكن كارها للدين كما هو سارتر. كلاهما اشتركا برؤية علائقية للوجود الانساني، التي هي، ان وجودنا هو بالأساس يُعاش من خلال علاقاتنا مع الآخرين. هذا يمكن ان يقود الى شعور بالاغتراب الذاتي الذي هو ذو إشكالية كبيرة. لكن كما سنرى، هما اختلفا حول نتيجة ذلك. سارتر جادل بان هذه هي الطريقة التي يفهم بها البشر "العدم"، بينما كامو، يرى ان هذه هي الطريقة التي يُدخل بها البشر العبث الى العالم.

بالنسبة لسارتر، "العدمية" هي فجوة اُدخلت بواسطة وعينا الذاتي الى الأشياء في العالم. هذا ما يجعلنا راديكاليا متحررين لأنه يفتح عالم من الإمكانات لرؤية هذا الفرق بين الذات والموضوع. وعينا يُدخل العدمية الى العالم عبر ادراك الامكانات بسبب الطريقة التي نرى بها ان هناك اشياء في العالم واشياء ليست في العالم مع انها ممكنة في وقت ما في المستقبل. هذا ايضا تجسّد في الكيفية التي نرتبط بها مع الآخرين، نحن نرى الاخرين كأشياء لأننا لانستطيع بشكل مباشر الاحساس بذاتيتهم، لكننا نفترض هم ايضا لديهم هذه الذاتية التي تُدخل العدمية والامكانية، ومن ثم الحرية الراديكالية الى موقفهم المعاش.

بالنسبة لكامو، بدلا من العدم، هو يرى ان الكائن البشري يجلب السخافة الى العالم عندما ينفتح لهذه الامكانات، عندما يواجه الكائن البشري العالم بدون أي إله ليوفر المسار والسبب الحتمي، كل ما يبقى لنا هو حقيقة العبث. الحياة لا أصل لها كهدية من الإله، وهكذا، هي فارغة. انها تبدو بلا معنى لأنه لا وجود هناك لمعنى واقعي لأي شيء نقوم به، لذا لكي نستمر بالعيش هو بالضرورة امر "عبثي". نحن نتصل بالعالم وبالآخرين من خلال هذا العبث او السخافة.

التحرر من خلال التشاؤم

بينما بدت كلتا هاتين الرؤيتين متشائمتين، هما بالنهاية قصد بهما انهما محررتان من خلال تأكيدهما المشترك على الحرية الراديكالية، لا وجود هناك لجوهر ثابت لما يمكن ان يكون عليه الانسان، ونحن بالنهاية متحررون لخلق أي نوع من المعنى مهما كان، وبالتالي الحياة التي نريد. "الوجود يسبق الماهية" هذا ما صرح به سارتر. وبالنسبة لكامو، رغم سخافة وجودنا الانساني، هناك ايضا شيء مرضي جدا في العيش مع هذا الواقع – كما في مثاله الشهير في صخرة سيزيف وحيث العقوبة بدفع الصخرة أبديا الى أعلى التل فقط لتنحدر مجددا والعودة الى الصفر، مع ذلك هو لايزال يجد شيئا ذو معنى بالطريقة التي يقبل بها حياته كما تُعاش.

الاختلافات بين الاثنين

اذا كان سارتر سمح بلقب "وجودي"، فان كامو رفض ذلك لأن فلسفته صُنفت كثيرا كـ "فلسفة عبث". وهكذا، كان هناك انقسام هام بين فلسفتهما وخصيصا في رؤاهما السياسية . هناك أحداث معينة خلقت هذا الانشطار. أحد هذه الأحداث كان نشر كامو لكتابه (المتمرد) حيث انه استطلع فيه رؤيته باننا يجب ان نركز على الحاضر ونؤكد على اللاعنف ونفتح حوارا بدلا من مستقبل طوباوي دعا له سارتر. كمناصر للشيوعية، سارتر سعى للجمع بين الوجودية و الماركسية والتي اعتبرها وبشكل متناقض الى حد ما ليست حتمية وانما تعبر بشكل افضل عن الموقف الجماعي المعاش للبشر في ذلك الوقت.

فهم سارتر الانسان في ان يكون متحرر راديكاليا، والذي يتناقض مع الرؤية الماركسية الغائية للمستقبل الحتمي. هو شارك الرؤية الماركسية بان الافراد كانوا ممتنعين ومخنوقين حيث حدد المجتمع ما هي حريتهم الطبيعية الكاملة. كجماعة، ادت الراسمالية الى "نحن" و "هم" كـ "اشياء" مضطهدة و"اشخاص" مضطهدين. لكن، لأننا أحرار حقا، نحن نستطيع ايضا ان نأتي مجتمعين كجماعة لنثور ضد هذا ونتحرر جماعيا – "لا أحد حر مالم يكن الجميع احرارا" حسب سارتر.

أهمية سارتر وكامو في تاريخ الفلسفة

رغم ان هذه الاختلافات بين سارتر وكامو ورغم الانتقادات العامة التي يمكن ان تُثار ضدهما، هما خلقا مساهمات هامة لتاريخ الفلسفة. عندما توفي سارتر عام 1980، كان هناك أكثر من 50 ألف مشارك في مراسم الجنازة. وبصرف النظر عن مدى اطّلاع أحد في الفلسفة، سمع العديد من الناس باسم سارتر. في عام 1964 مُنح جائزة نوبل في الادب لكنه رفضها انسجاما مع رؤاه غير التقليدية، ككاتب قال انه لا يرغب ان يكون "مؤسسة".

بينما البير كامو قبل ذلك، هو قبل جائزة نوبل في الادب قبل عام 1957 – وهو أصغر كاتب فرنسي يُمنح الجائزة. توفي كامو عام 1960 في حادث سيارة والذي كان ايضا مرتبط بشكل غريب برؤيته للطبيعة العبثية للانسان. حريتنا هي شيء ما متناقض بالنسبة لكامو، انها تبدو وهماً، لكن رؤية هذا كشيء ما محرر، يجلب الحرية مجددا بالطريقة التي نستجيب بها . نحن يجب ان نعيش الحياة في اللحظة بأكبر ما يمكن، لأننا لا نعرف أبدا متى نموت.

بشكل عام جرى انتقاد الوجودية باعتبارها غير تحليلية وتركز كثيرا على العواطف والجانب المظلم من التجربة الانسانية. لكن الوجوديين كانوا في ردود أفعالهم ضد الظروف الحديثة التي رأوها تثق كثيرا بالعلم، مجادلين ان العلم لا يمكنه ان يفهم تماما التجربة الانسانية. العلم أذل موقفنا المعاش عبر تحويلنا الى أشياء وهو الموقف الذي أراد الوجوديون عكسه. ما لا يمكن انكاره هو التأثير العميق للفكر الوجودي ليس فقط على الفلسفات اللاحقة وانما ايضا على علم النفس والادب والفن.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم