قضايا
الحسين بوخرطة: الهندسة والتاريخانية
الكتابة في موضوع الحداثة بالنسبة لمجتمعات الجنوب صعبة ومعقدة للغاية لكون شعوبها لم تمارسها بالعمق المطلوب بسبب خضوعها للاستعمار، وبالتالي لم تتمكن من مراكمة ما يكفي من مقومات التحديث بتفاعلاتها اليومية، ومن إضفاء النجاعة والفاعلية المطلوبة على محاولاتها لتأهيل هياكلها المؤسساتية والمجتمعية بالمنطق الذي يفضي على أوضاعها المتطورة ميزة "مجتمعات الحداثة".
كما هو معلوم، أساس الحداثة مرتبط أشد الارتباط بمفهوم النفعية، أو مفهوم المصلحة كما هو معروف في الفقه القديم الذي يعتبر البراغماتية المشروعة القيمة الأولى لتجسيد العقلانية المرسخة لقيم نماء وسعادة الشعوب بوتيرة مسترسلة في الزمن، أي المصلحة الجماعية وليست الفردية الأنانية. القيمة الثانية التي تستوجب العمل على تجسيدها في واقع الشعوب تتجلى في مردودية تحقيق الربط الوثيق بين النظرية والواقع أو بين إنتاج الأفكار يوميا والعمل المتوازي لتفعيلها ميدانيا، أي ترجمة الأفكار والإبداعات إلى تصاميم هندسية وأفعال على أساس تحقيق التراكم في المجالين النظري والتطبيقي من خلال الصقل اليومي للدرابة اليدوية والاحتراف في الاستعانة بالآلات الحديثة الميكانيكية والتكنولوجية. في هذا الصدد، وبشهادة كبار المفكرين العالميين، الدفاع الموضوعي المبرر للدكتور والمفكر المغربي عبد الله العروي على التاريخانية أكسب مشروعه الريادة على مستوى تاريخ إنتاج الأفكار كونيا في العصر الحديث، وحوله إلى مرجع لكل الشعوب الشبيهة بالشعب المغربي الطامحة لتحقيق نهضتها بعيدا عن آفة الهدر الزمني المنهكة.
في نفس السياق، أكد التاريخ البشري أن المجتمعات المؤسساتية (المنظمة) التي لم تدخر أدنى جهد لتحقيق ارتقاء قطاع الهندسة قد تمكنت من تحويل قيم الحداثة المنتجة إلى مصدر غذاء دائم لشروط الرقي والازدهار، ومن تم إلى عقيدة ثقافية راسخة ومتكاملة لتحقيق ديمومة ارتقاء حياة الأفراد والجماعات روحيا وماديا، جاعلة من الفاعل المنتج ركن من أركان الإيمان بالمستقبل.
واعتبار لما أبرزته الدولة المغربية من مقومات حضارية ذات خصوصية في السعي لترسيخ قيم الحداثة بالمنطق السالف الذكر، سأتطرق فيما يلي لبعض المحاور التي استهوتني فكريا في مشروع الدكتور عبد الله العروي بأبعاده الفكرية والعملية. لقد خصص هذا العلامة الوقت الكافي لبلورته بمنهجية جذابة. لقد راكم الكتابات والمحاضرات واللقاءات الإعلامية والمناظرات...، إلى درجة أصبح هذا المشروع في نهاية المطاف منتوجا متكاملا ودليلا جد موضوعي من الناحيتين النظرية والتطبيقية. مشروع العروي يعتبر اليوم من المشاريع البارزة في مجال التنمية. إنه زاخر بالمقومات الكفيلة بتيسير مرور الدول العربية والمغاربية الإسلامية إلى حياة الحداثة بمزاياها وترسيخ متطلباتها وأسسها على المدى المتوسط والبعيد.
الحداثة يجب أن تكون مشروع الدولة بالمغرب
بالنسبة للعروي، يجب المراهنة على الدولة الوطنية لتحديث وعقلنة المجتمع. عرف المغرب منطق الزعامة التاريخية كما عرفته الدول الريادية في مجال التنمية والتحديث الثقافي (ماوتسي تونغ في الصين، أتاتورك في تركيا، غاندي في الهند، لينين في روسيا،....). ثم مر من محطات عرفت أحداثا صعبة لتجديد وبناء كيان الدولة ومأسسته.
إن الوضعية التي عاشها العروي بالمغرب جعلته يستنتج أن الدولة في تطورها وفي سياساتها العامة كانت دائما أكثر تقدما من المجتمع. لقد ارتقى دورها التاريخي إلى أن تحولت إلى محور للتطورات ورفع التحديات. لقد لعبت دور التأسيس منذ زمن الأدارسة. هي التي كونت النواة الاجتماعية ترابيا (الأسرة، التعاونية، الحزب، النقابة، ...)، وطورت المؤسسات إلى أن أصبحت الأقوى تواجدا والأقدر بنية على التغيير. هي تعلم تمام العلم أن نظام تعليمها المستقل تم القضاء عليه أثناء الحماية الفرنسية، وأن تجربة المدارس الحرة جاءت متأخرة. إنها اليوم الراعية الأولى لهذا القطاع الحيوي، وتتحمل المسؤولية الجسيمة لتذليل الصعوبات المعرقلة لإدخاله بشكل نهائي في منطق الحداثة. الدولة هي القوة المؤثرة وصاحبة السلطة والقرار والمخاطب الوحيد في مسار التقدم في بناء نسق وطني للحداثة كما عرفناها أعلاه، والذي يجب أن يلعب فيه القطاع الهندسي (المادة الرمادية مصدر التصاميم التطبيقية وخطط التفعيل الميداني) دورا محوريا.
الدور الجديد للمثقف بالمغرب
بالنسبة لعبد الله العروي، المثقف لم يلعب الأدوار المطلوبة في حياة المجتمع المغربي، فانعكس ذلك على المهندس في مجال الفعل التنموي (ضعف الثقافة السياسية). شاعت تمثلات مغرضة صنفت المثقف في خانة المعاكس للسلطة. لقد لعب أكثر أدوار المقاومة والمعارضة متأثرا بعادات معاكسته للمستعمر. لقد تحول إلى فاعل معادي للنظام القائم. تأثر بالإرث الفرنسي الذي جعل المثقفين في فرنسا معادين للدولة مخالفين في ذلك منطق التفاعل المثمر بين السلطة والمثقفين السائد في بريطانيا وأمريكا. منطق الصراع ساهم بشكل واضح في تغييب نسبي لدور الحداثة في الفعل العمومي وحتى في تفاعلات القطاع الخاص.
أمام هذا التشخيص العقلاني الصريح، استوعبت المؤسسات الرسمية والمجتمع الرسائل المشفرة. شاع الاقتناع للتوجه إلى الدولة لكونها تمثل السلطة الجماعية المفوضة الراعية لمصلحة الأمة. لقد تقرر الدخول بحكمة في تجديد الثقافة بالشكل الذي ييسر اندثار مفهوم الولاء للتراث أو التقليد في النهار كما كان قديما. بالنسبة للزعيم أو المشير يقول العروي، المطلوب منه ليس هو التقليد، بل البحث عن طرق المصلحة أو المنفعة (تجربة الإصلاح الديني والتجديد القانوني المغربيين رائدين عربيا وجنوبا).
ملفات التحديات المطروحة اليوم على طاولة المسؤولين عن الشأن العام وعلى المثقف العارف تتجلى في الدفاع عن منطق جديد قد يستدعي الاضطرار إلى الدعوة للتخلي مؤقتا عن بعض التقاليد بدون أن يعني ذلك التنكر لها. التقاليد، يقول العروي، موجودة في المجتمع، ويجب التعايش معها بعقلانية، بدون أن تتحول إلى قيمة مسيطرة على كل القيم الأخرى. الخطر يتجلى في نزعة التعميم. وهنا لا مناص من تقوية الإرادة السياسية لتوثيق الصلة بين التنظير والهندسة التفعيلية. التقليد يمكن أن يستمر على مستوى الأسرة أو العائلة، ويجب أن يكون مصدرا للحماس. الفرد يمكن أن يبتهج يوميا من خلال العودة إلى مرقده ليلا ليختلي بنفسه ويفكر في تراثه وحضارته وخصوصية تاريخ بلاده، لكن مباشرة بعد سطوع شمس النهار، عليه الاعتكاف على الإنتاج وتفعيل الأفكار وتنمية خبرته العلمية والتكنولوجية ودرابته اليدوية والعقلية.
الوضع الاقتصادي والمالي ينبني على الابتكار والتجديد والمراهنة على التجربة وتراكم الاختراعات. وهنا يتموضع المهندس بخططه ومخططاته كوساطة بين العلوم النظرية والإجراءات التطبيقية. وتزداد جسامة مسؤولية المهندس كلما تقدمت العلوم والتكنولوجيا وغزوها لكل مجالات الحياة المهنية والاجتماعية. إنها التطورات العقلانية التي جعلت من الحداثة مجرد تجربة (وليست قيمة يجب التشبث بها) ظهرت في التاريخ وأعطت نتائج مذهلة. اعتنقتها حضارات أخرى غير غربية كالصين وروسيا والهند وتركيا واكتسبت بذلك القوة والنفوذ والرفاهية بدون أن تضحي بهويات مجتمعاتها. لقد أقرت التجارب المتطلعة لتحقيق النهضة أن الحداثة والأصالة لهما مجالين مختلفين يستدعيان التفريق بين الشعور والسياسة. فضاء الأولى هو السياسات العامة والمجتمع والمصلحة الجماعية، والثانية مرتبطة بمجال الشعور، بحيث يتم الحديث عن أصالة الفرنسي، وأصالة الياباني، وأصالة البريطاني ... بالرغم من كونهم يستثمرون الغالي والنفيس في مجال الحداثة. هذه الأخيرة مرتبطة بالعلاقات مع المكونات الخارجية التي لا تشاركنا قيمنا وحنيننا إلى الماضي. الغوص في مجالي الحداثة والأصالة بعقلانية يعطي للخصوصية الثقافية طابع التطور والتفوق. الياباني مثلا يعيش خارج البيت كأمريكي وداخله كياباني بدون أن ينفصل عن ذاته وهويته التاريخية.
تماشيا مع ما سبق، نجد أن هناك اعتراف عام لدى المراقبين دوليا أن المغرب يحاول أن يكون جزءا من العالم بتراثه، مفرقا بين خصوصيته الوجدانية ومجالات معاملاته التجارية والتصنيعية والمالية.
المغرب وفكرة القطيعة المنهجية مع التراث
الدولة المغربية القيادية للتغيير تستحضر بوضوح استنتاجات عبد الله العروي. بالنهار على المواطن المغربي أن يجد نفسه مضطرا للانفصال عن التراث منغمسا كليا في فضاء الإنتاج وقيم الحداثة، ثم يعود إلى التراث باحثا عن السكينة والذات متمسكا بدوام تحقيق التفوق وتراكم خبراته وطاقاته الإنتاجية.
حاجة السياسة إلى الحداثة
في كتابه "من ديوان السياسة" قال العروي: في ظل الأمّية، السياسة طاغية ومنحطة. في ظل الديمقراطية، مجال السياسة ضيق وقيمتها عالية. فالديمقراطية تحرّر السياسة، تنقذها من كل ما ليس منها. فتصبح الرياضة رياضة والفن فن، وكذلك العمل والفلسفة… أما إذا طغت السياسة على الكلّ، جرت الكلّ معها إلى الحضيض. فالعلاقة بين الديمقراطية والإبداع أعمق مما يتصوّر. وهنا كذلك جسد العروي بكلامه قوة مكانة المهندس في ترسيخ القيم السياسية بمنطق تنموي ونهضوي (تذوق المجتمع لانعكاسات السياسة في حياته).
أمام هذا التحليل، يتبادر إلى الذهن وكأن العروي يوجه الكلام لبعض دعاة ما بعد الحداثة من المثقفين المغاربة. لقد ادعوا ضرورة تجاوز الحداثة المفقودة عندهم وهذا في حد ذاته حديث غير مسؤول وغير معقول. يقول العروي كذلك، نقرأ اليوم كتبا تنتقد الحداثة، ونعتمد عليها للقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة .... وهذا دليل على أن المثقف عندنا يعيش في عالمين منفصلين يواجه يوميا مظاهر التخلف واللامعقول، وهي كلها تدل على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألم منها ويتشكى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين الروايات والمقروآت، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم ...فهل هذا معقول؟ هل نعيش فعلا في مجتمع متقدم؟ هل يحق لنا التصرف مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها وتشبعوا بها. هل يصح لنا هذا الادعاء؟
في مثل هذه السياقات السياسية تضيق هوامش الفعل أمام المهندس، فتتحول السياسة إلى خطابة بعيدة كل البعد عن الواقع، فتختنق الإيديولوجيات بفعل طلاق القول مع الفعل، وتتراكم الخطط التصاميم الهندسية الواعدة على الرفوف ولا تفعل إلا الضعيفة منها).
التاريخ والفلسفة
ويمكن أن نقول إجمالا، أن التاريخانية كما يشرحها العروي تعتمد على أربعة مبادئ هي تباعا:
- ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل).
- وحدة الخط التاريخي (الماضي نحو المستقبل).
- إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس).
- ايجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن).
في نفس الآن، عندما يستحضر العروي تاريخ حياته تبرز العبارة المدوية "الحقيقة أنني مشيت دوما على قدمين، التاريخ والفلسفة". الانفصال المؤقت عن التراث لن يقضي إلى القطيعة النهائية. استحضر علال الفاسي وعبد الله كنون فرضية عدم عودة العروي إلى التراث عندما قرر استكمال تعليمه الأكاديمي بالسوربون بفرنسا، لكنه عاد مؤرخا وفيلسوفا من العيار الثقيل. عاد مؤمنا أن التاريخ القديم يحتاج إلى تأويل للتأويل وإنتاج تأويلات جديدة تتماشى وإكراهات الزمن والجغرافيا. النص القرآني بالنسبة له هو الباقي، والتأويلات صالحة لزمانها وتصب في مصلحة المسلمين الأحياء، والنبوة انتهت، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن تأويله هو الصحيح، لأن ذلك يعتبر نبوة جديدة.
خلاصة
استحضارا لمشروع العروي المتكامل، يتضح بجلاء أن تطوير عقيدة ربط إنتاج الأفكار الإبداعية في كل المجالات بالواقع والممارسة اليومية المنتجة للمنفعة والمصلحة يجب أن يكون من أولوية أولويات الدولة. وهذا الأمر يتطلب خطة واضحة لتمكين الهندسة من استرجاع وهجها وأدوارها التاريخية. المغرب، بارتباطاته الوثيقة بالفكر الأندلسي، جعل المغاربة يرضعون من ثدي أمهاتهم المنطق الحداثي الذي يجمع بين الذخائر الفكرية والفلسفية لكل من ابن خلدون وابن رشد وابن حزم وابن عربي .... المغاربة واعون أن المنطق الظاهري مرتبط بالإيمانيات والعبادات والربانيات، ومجال التأويل يستمد مقوماته من المصلحة الجماعية أو العامة. إثارة الخلط بين الدين والسياسة يذكرنا بتقابل واقع تأخر المسيحية البيزنطية وتقدم الإمبراطورية الرومانية. سلطة البابا غربا بقيت دينية منذ القدم وبعيدة عن السلطة الدنيوية.
فإذا كانت السلفية بالمغرب تختلف عن السلفية بالمشرق بسبب التركيبة الاجتماعية والتجربة التاريخية، فإن قيم الحداثة تحتاج إلى تقوية مكانة المهندس في الدولة والمجتمع.
***
الحسين بوخرطة