قضايا

ثامر عباس: اتهام موروثنا الأسطوري ومساءلة وعينا التاريخي.. العبرة والاعتبار

من تسنح له فرصة مطالعة موسوعات المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل)، ويسعفه الوعي بالوقوف على مبلغ ما استهلكته تلك الموسوعات من أوقات وجهود، وهو يبحث وينقب في تضاريس الجغرافيا وشعاب التاريخ ومجاهل الوعي للمجتمع الفرنسي، لابد أن يصيبه الذهول وتعتريه الدهشة إزاء القدرة الجبارة لهذا الإنسان الشغوف بتفاصيل الماضي والمتتبع لمسارات التاريخ. للحدّ الذي أفنى ما يقارب ثلثي عمره الزمني حتى يتمكن من انجاز تلك الموسوعات الباذخة في تفاصيلها ومعلوماتها والتي يمكن عدها مفخرة للأمة الفرنسية بامتياز، ليس فقط بالنسبة لموسوعته العلمية المكثفة حول؛ البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد الملك فيليب الثاني التي استغرقت كتابتها (26) سنة، وموسوعته الموسومة؛ الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية التي استغرق انجازها (37) سنة، وموسوعته المعنونة؛ هوية فرنسا التي استغرق إكمالها (24) سنة. هذا بالإضافة الى انجازه كتب أخرى لا تقل أهمية من حيث القيمة المعرفية والمنهجية والتاريخية التي تتضمنها من مثل؛ قواعد لغة الحضارات، على سبيل المثال لا الحصر.

والحال لسنا هنا في وارد الحديث عن انجازات هذا المؤرخ العبقري والإشادة بجهوده العلمية وفتوحاته المعرفية في مجال السرد التاريخي، فهو – على أية حال – أشهر من نار على علم وفي غنى عن كل ما يقال عنه ويشار إليه في خطابات المديح والتقريظ، بقدر ما نروم اتخاذ مواقفه النوعية وتصوراته المبتكرة حيال ماضي بلده (فرنسا) وأحداث تاريخها وسيرورة حضارتها، كدليل على ضرورة التجمّل بالأساليب العلمية والطرائق المعرفية والرؤى الإنسانية، حين يتعلق الأمر باستنطاق مواريث الماضي واستقراء أحداث التاريخ لأي تجربة خاضها المجتمع العراقي بمختلف مكوناته وجماعاته، وتباين ثقافاته وسردياته، واختلاف محطاته وانعطافاته. لا بل أكاد أجزم ان إشكاليات ماضينا وملابسات تاريخنا وعثرات حضارتنا، لا يمكن معرفتها والإحاطة بها، ناهيك عن الزعم بحلها وتجاوز تعقيداتها المستعصية، دون الاستعانة بالتحليلات والمنهجيات التي اعتمدها هذا المؤرخ الفريد، لسبر أغوار ماضينا الغامض وتاريخ الملتبس.

وعلى الرغم من ولع العراقيين المفرط – خاصتهم وعامتهم - في التغني بأمجاد الماضي الزائل والتبجح بانجازات التاريخ الآفل، إلاّ أنه قلما نظر أحدهم الى تلك الأمجاد والانجازات الواقعية والمتخيلة بعين الفحص والتدقيق، لاستجلاء ما نسج حولها من خرافات وأساطير واستنطاق ما لفق عنها من أكاذيب وادعاءات. إذ ما أن يقع نظر الإنسان العراقي سواء أكان دارسا"أو باحثا"أو مهتما"على نص / سرد يتعلق بالماضي أو بالتاريخ، حتى تفيض قريحته بمشاعر الفخر والاعتزاز عما حملته تلك المتون من أحداث ووقائع فائضة بالبطولات ومتخمة بالمناقبيات، دون أن يراع احتمال أن تكون هذه الأخيرة مختلقة أو ملفقة بحكم تدوينها من قبل كيانات أو مؤسسات !. لا بل ان هناك من يسعى متعمدا"الى طمس وتغييب أية حقيقة تاريخية أو واقعة حضارية أو أزمة سياسية، لا يرى فيها ما يتوافق مع قناعاته الذاتية المؤسطرة ومسلماته الشخصية المؤمثلة، التي طالما رسختها في ذاكرته عقود من البيداغوجيات المنمطة والإيديولوجيات المسيسة.

والحال، كيف يتاح لنا الخروج من عنق هذا الخانق التاريخي الذي لم يبرح يحول دوننا وإعادة النظر بأنماط تصوراتنا وأساليب تفكيرنا ومضامين تمثلاتنا ؟!، لاسيما وان معظم مشاكلنا وجلّ إشكالياتنا التي لا تزال ناشطة وفاعلة في معيش علاقاتنا في الوقت الحاضر، ما هي إلاّ نتاج تراكمات جغرافية انتهكت حرمتها وقطعت أوصالها لأكثر من مرة، وتاريخ تم العبث بوقائعه والتلاعب بأحداثه من قبل أكثر من جهة، وذاكرة تم نسخها ومسخها من قبل غزاة طامعين وحكام عابثين لأكثر من جماعة. ولذلك ينبغي علينا الشروع – كمدخل وتمهيد – بدلا"من دوامنا على كيل (الاتهامات) جزافيا "الى مواريثنا الماضية الغامضة، و(مساءلة) وعينا التاريخي الملتبس، من منطلق كونهما يتحملان وزر ما نعاني منه ونكابده حاليا". ينبغي أن نعمد الى فتح كل ما له علاقة بملفات الماضي وسرديات التاريخ وأرشيفات الذاكرة، ليس لمجرد استعراض مضامينها التقليدية المكررة – كما حصل يحصل لحد الآن – تحت يافطة (إعادة كتابة) التاريخ، وإنما لإجراء عمليات تفكيك وتحليل ونقد شاملة وعميقة – قد تستغرق عقود من البحث والتنقيب - لمجمل ما حملته سيرورات التاريخ الوطني؛ سواء على صعيد (التدوين)، أو (الأرخنة)، أو (التمرحل)، أو(المنهج). مع الأخذ بنظر الاعتبار أن عمليات من هذا النوع لن يتم حصاد جهودها بنجاح، دون أن يصار الى تخطي حواجز وموانع ما يسمى ب(المحرمات) الدينية و(الممنوعات) السياسية و(الممانعات) الاجتماعية من جهة، وعلى أن تتوج تلك الأنشطة والفعاليات بامتلاك (وعي) تاريخي ناضج من النمط الذي ينظر الى وقوع الحدث أو حصول الواقعة، كحصيلة بنيوية - جدلية مركبة لمعطيات الجغرافية والتاريخ والدين والحضارة والثقافة والنفسية من جهة أخرى.  

وهنا يقتضينا القول؛ انه لكي يتم حصاد دراساتنا المتكاثرة وبحوثنا المتناسلة – التي نادرا"ما تكون ذات جدوى - عن الأحداث والوقائع المتعلقة بالماضي والمرتبطة بالتاريخ، لا يكفي البحث عن أصولها وخلفياتها في هذا العامل الطبيعي أو ذاك، هذا العنصر الإنساني أو ذاك. كما لا يجدي تقطيع سيروراتها وتفكيك سياقاتها وتعطيل جدلياتها بحجة نشدان الإيجاز في الكتابة والسهولة في العرض، وإنما تقتضي الضرورة العلمية والمنهجية التعاطي الدؤوب والصبور مع كل حدث أو أية واقعة؛ من منطلق كونهما نتاج نسيج متشابك ومترابط ومتخادم من العوامل الطبيعية والعناصر الإنسانية، التي لا ينفك بعضها يؤثر ويتأثر في البعض الأخر على نحو دائم ومستمر.

ولعل من أولى الخطوات الواجب مراعاتها والتقيد بشروطها من لدن جمهرة المؤرخين والباحثين في مواريث الماضي، هي ان إحراز أي تقدم في هذا المجال السوسيولوجي والمعرفي الوعر والشائك، مرهون – قطعا"وفرضا"- بامتلاك الحدّ الأدنى من فضائل (الوعي التاريخي) الذي من دون حيازة ابجدياته المسبقة، لا تعدو البحوث والدراسات سوى ضربا"من العبث الفكري والسفسطة الخطابية. ذلك لأن من خصائص هذا النمط من الوعي الحيلولة دون تأطير رؤى الفاعل الاجتماعي وتحديد تفكيره بمعطيات الراهن الزماني والمعيش المكاني وحسب، بحيث يميل الى موضعة الحدث و / أو الواقعة ضمن نطاق بعد واحد معزول ومفصول، مجردا"إياهما من أية رابطة أو علاقة ببقية الأبعاد الأخرى التي تمنح للظاهرة قيد الدراسة خصوصيتها ومكانتها. أخيرا"، انظروا الى موسوعات المؤرخ العملاق (فرنان برودويل) وتعلموا كيف تسرد مفاعيل التاريخ وتجرد تفاصيل المجتمع.   

***

ثامر عباس – باحث عراقي

في المثقف اليوم