قضايا

حميدة القحطاني: التسامي بالحب

هكذا تفعل بنا بعض المقالات والكتابات حين نقرأها قراءة دقيقة. قرأت مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الأخيرة، فشعرت كأنها كتبت لي أنا فقط، إذ رسمت لي معاني الحب الأصلية، وشرحت لي خارطة الوصول للسكينة والسمو والارتقاء. هذه المقالة أعطتني وصفة بكلمات قليلة مكثفة، تشير إلى أن حياة القلب وسلامته تكمن في الحب فـ "الحب يوقد جذوة الضوء في القلب، القلب الذي يعيش الحب لا يدركه الوهن، ولا ينهكه تقدم العمر "، حسب تعبير الرفاعي في مقالته المنشورة في جريدة الصباح البغدادية، يوم الأربعاء الماضي 13-11-2024، بعنوان: "يترجم القلب كلمات الحُبّ بمعنى واحد".

قراءة واحدة لمثل هذه الكلمات لا تروي ظمأ روحي. الكتابة تجسد أفكارنا وآمالنا، وتترجم أحيانا أهدافنا ونبضات قلوبنا، فنحن حين نكتب نمسك قلم القلب بمداد الروح ليخط الوجدان أعمق آلامنا وأفراحنا وأتراحنا، ويصل لذائقة الجمال ومكنوناته فينا، ويعرج إلى مخاوفنا وقلقنا، ويمر على ارتيابنا والشك الملتصق بأفكارنا، لتنبعث معاني الكلمات من داخل العقل تارة، ومن القلب تارة اخرى، ومن الروح أحيانا، فترسم وتعبر وتضع نقاطا على بعض الحروف العالقة في مكنون العالم الداخلي، عندها نشعر بالراحة والانتشاء والهدوء الذي يعقب عاصفة وضجيج دواخلنا .

يأتي الرفاعي في مقالته ليأخذ بمجامع قلوبنا، ويستحث بصيرتنا على أن المقصود بالحب الذي ينير القلب هو الحب الأخلاقي الأصيل فقط، الحب غير المشروط، حيث يقول: "الحُبّ الأخلاقي الأصيل ضربٌ من الامتنان والإكرام، مَن يحبّك يكرمك ويعبر عن امتنانه العميق لك. الحُبّ المشروط مُشبَّع بالمن لا بالامتنان، والإكراه لا الاختيار، والفرض لا التطوع، والتكلف لا المبادرة، مما يجعله ضربًا من الاستعباد…الخ".

ثم يمنحنا وصفة بليغة لتهدأت روعة قلقنا ومخاوفنا، وتقليل آثار سمومها على هدوء أيامنا، إذ يقول: "الحُبّ الأصيل يخفضُ وتيرةَ الخوف والقلق، ويحرّر الإنسانَ من الاكتئاب وفقدان المعنى. الحُبّ الأصيل مُلهِمٌ، الاستبصاراتُ الحاذقة يُلهمُها الحُبّ، استفاقةُ العقل يُلهمُها الحُبّ، العفو والغفران والرفق واللطف يُلهمُها الحُبّ. لا يتوقف فعلُ الحُبّ عند القلب والعواطف، بل يظهر أثرُه بشكل واضح في توجيهِ بوصلة التفكير وغاياته في العقل، وبناءِ رؤية جماليّة لله والإنسان والعالَم..".

ولم يقف معنا لهذا الحد، بل يستمر بإرشاد قلوبنا المتعبة إلى بر السكينة والمعنى والأمان، حين يقول: "يظلّ الحُبّ أعذبَ منابع المعنى في حياتنا. لن يتراجع الأثرُ المُلهِمُ للحب مهما تقلّبت أيامُه واختلفت. يلبث الإنسانُ حتى اللحظات الأخيرة من عمره بأمسّ الحاجة إلى كلمةِ حب صادقة".

ويستمر معنا، وهو يمدنا بالجمال والمعنى، ليمنحنا مصباحا ننير به مسارات ومتاهات دروبنا المظلمة فيقول: "ما دام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ من المعاني وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الحُبّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية.."

هنا لم يفرش لنا الرفاعي طريق الحب بالورد، بل أشار لعظمة الجهاد واهمية ترويض القلب على الحب، حتى يصير جزءً لا يتجزأ من ماهيته وسجايا روحه.

مثلت المقالة، في كل شذرة من شذراتها نكهة عطرة تلامس شغاف قلبي، وتنير بصيرة روحي، وتحفز ذهني، وتوقد تفكيري، وكأنها كتاب كبير بمعانيه وعمقه وأهميته، فرحت جدا لاقتنائه كمرجع أعود اليه بين الحين والحين، فقراءة واحدة لا تكفيني.

يختم الرفاعي مقالته بكلمة ذات دلالة عميقة، حيث يقول: "كما أنَّ أخطرَ شيءٍ على الفكرِ والأدبِ هو عبادةُ الأصنامِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، فإنَّ أخطرَ ما يفتكُ بالقلبِ هو تحويلُ المحبوبِ إلى صنم". هذه الكلمة تمثل لي توصية مهمة، لابد ان تبقى عالقة بقوة في عقلي، لأن تحويل المحبوب لصنم يفقد الحب روحه وجوهره ومعانيه، بل يتحول معه الحب إلى سمّ فتاك.

***

د. حميدة القحطاني

في المثقف اليوم