قضايا
إبراهيم برسي: المثقف العربي في متاهة الفكر الريعي

أسطورة الحرية وعبودية النظام
في وعي المجتمعات العربية، يظل المثقف ذلك الكائن الذي يُفترض به أن يتجاوز حدود الأفق الضيق، ليحمل راية التغيير والتجديد في وجه السلطة. لكن ماذا يحدث حينما يتحول هذا المثقف، الذي كان ينبغي أن يكون أداة نقد وعقلٍ يقظ، إلى جزء من النظام نفسه؟ ماذا يحدث حينما يصبح التفكير ذاته خاضعًا لمنطق الاستهلاك والريعية؟ هذا التساؤل يُشَكِّل محكًّا فلسفيًا يتطلب إعادة النظر في دور المثقف العربي المعاصر وكيفية تفاعله مع منظومة السلطة، حيث تبدو الفكرة النقدية شبه معدومة، ويغيب الفكر المستقل، ليحل محله فكر يستهلك الأفكار بدلًا من إنتاجها.
المثقف العربي في مشهدنا المعاصر لم يعد مجرد شاهد على تطور الواقع أو منفصلًا عن الهياكل التي تحكمه، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من هذه الهياكل. تحول المثقف إلى “منتج فكري”، يستهلك ما توفره له السلطة السياسية أو الاقتصادية من أفكار مريحة، يعيد إنتاجها وتكرارها في سياقات موجهة. في هذه الحالة، يصبح الفكر ذاته سلعًا تجارية، لا تخلق تغييرًا حقيقيًا، بل تكرس الواقع القائم. وهذا ما يمكن تسميته بـ “التفكير الريعي”.
الفكر الريعي لا يقتصر على اقتصادات المواد الخام أو الثروات المادية فقط، بل يمتد ليشمل الفكر نفسه. الفكرة في هذا السياق هي كما الثروة الريعية: شيء يمكن استهلاكه دون أن يُنتج من جهد حقيقي أو إرادة مستمرة لتغيير الواقع. يتحول المثقف العربي هنا إلى مجرد مستهلك للأفكار، أو بالأحرى إلى وسيط بين السلطة والجماهير. بدلاً من أن يتحدى هذه السلطة من خلال طرح أسئلة نقدية جدية، يعمل على تجميل الواقع وتبرير الوضع الراهن. يتحول إلى أداة في يد الأنظمة، لا لانتقادها، بل لاستمرارها. “الفكر الريعي” هو استهلاك للأفكار دون إعادة صوغها أو اختبارها في صراع حقيقي، وهو تكرار لما تم قبوله دون تفكير نقدي.
هذه الظاهرة ليست ظاهرة عربية بحتة، فهي تُظهر نمطًا عالميًا معاصرًا في مجتمعات العولمة، حيث يتم تحويل كل شيء إلى سلعة، بما في ذلك المعرفة. يزعم المثقف الريعي، في كل بيئة ثقافية أو سياسية، أنه يعبر عن تفكير حر ومستقل، بينما هو في الواقع يعيد إنتاج الأفكار التي تروج لها السلطة أو السوق الفكرية. وهذا يتماشى مع ما ذكره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في قوله: “السلطة لا تتمثل فقط في القمع، بل أيضًا في تحديد معايير المعرفة”. إن المثقف الذي يعيش في الفكر الريعي لا يسعى لتحرير الفكر، بل يخضعه لنظام مستمر من الاستهلاك دون أي تفكير نقدي حقيقي.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الأزمة الفكرية لا تقتصر على المثقف وحده. فالدور الريعي الذي يلعبه المثقف ينعكس بشكل مباشر على المجتمع ككل. مع غياب الفكر النقدي، يتوقف الحوار المجتمعي الجاد ويتراجع الإنتاج الثقافي الفاعل. يتعرض المجتمع لاحتكار الفكر من قبل سلطات تأمل في الحفاظ على الوضع الراهن، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة الثقافية والسياسية. إن المثقف الذي لا يتعامل مع الفكر كأداة لتحدي الواقع، بل كأداة لتجميله، يكون في الواقع أداة لتعزيز الاستهلاك الفكري، الذي لا يعيد تشكيل المجتمع، بل يعيد تدوير ذات الأفكار البالية التي لا تشبع حاجة الحرية والتغيير.
في هذا السياق، يظهر الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف في العمل على خلق فضاء ثقافي مستقل بعيد عن تأثيرات السلطة. كان من الممكن أن يكون المثقف العربي حجر الزاوية في بناء هذه المساحة، لكن الواقع يختلف. أصبح هذا الفضاء محاصرًا، والمثقف محاصرًا أيضًا في دائرة الفكر الريعي التي تستهلكه أكثر مما تتيح له الفرصة لإنتاج أفكار جديدة ومتجددة. ومن هنا، يصبح السؤال: هل يمكن للمثقف العربي أن يتحرر من هذا الفكر الريعي؟ وهل يمكنه أن يستعيد مكانه كمنارة فكرية حقيقية في وقت يحتاج فيه المجتمع إلى نقد بنّاء وإلى فكر قادر على أن يواجه التحديات بكل جرأة؟
التحرر من الفكر الريعي يتطلب جهدًا جماعيًا يعيد النظر في الأسس التي يقوم عليها الفكر العربي المعاصر. يجب أن تتحقق العودة إلى عقلية فكرية قادرة على خوض معركة حقيقية ضد الأفكار الجاهزة التي تحاول فرض نفسها على الوعي الجمعي. إن الفكر النقدي الحقيقي يمكن أن يولد من هذا التحدي. يجب أن يرتبط المثقف العربي اليوم بتفكيك الأيديولوجيات التي تروج لها الأنظمة، ويُفترض به أن يكون قادرًا على إبداع فضاءات حرة تُنتج الفكر بعيدًا عن قيود السلطة أو المال.
المثقف الذي لا يجرؤ على طرح الأسئلة الجذرية، الذي لا يفكر خارج الأطر المرسومة له، يصبح مجرد آلة لإعادة إنتاج النظام. لا يقتصر هذا على مسألة استهلاك الأفكار بل يشمل العقل ذاته الذي أصبح يستوعب المفاهيم التي تروج لها الأنظمة السياسية أو الاقتصادية من دون التحقق منها. إن التغيير الذي يحتاجه المثقف العربي يجب أن يبدأ من الداخل، من فكر جديد يقاوم الجمود ويعيد تعريف الحرية. كما قال إرنست بلوخ: “من لا يحلم لا يبدع، ومن لا يبدع لا يتحرر”. إذا كان المثقف العربي عاجزًا عن الحلم في ظل هذا النظام الفكري، فإنه سيفقد قدرته على الإبداع والتغيير.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع المثقف العربي أن يتجاوز هذا الفكر الريعي، ويستعيد دوره كأداة تحرر وإلهام؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تتوقف على المثقف وحده، بل تتعلق بالمجتمع الذي يقرع الأبواب لتغيير ما هو سائد. التحول الفكري لا يمكن أن يحدث إلا من خلال التفكير النقدي، الذي ينقض الأفكار الجاهزة ويعيد صياغتها بما يتوافق مع متطلبات الحرية والعدالة.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني