قضايا

أنور ساطع أصفري: التلوّث اللغوي

تنعكس اللغة في كلّ تصرفاتنا، وحواراتنا، وفي كلّ اللقاءات التي نتمتع بها، إن كان في المنزل أو المكتب أو في الشارع، أو في وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها وأجناسها.

وبمقدار احترامنا لهذه اللغة تكون فاعلين للسمو بأنفسنا وبمكانتنا، وبغير ذلك نكون بمثابة من يستهزىء بنفسه وبلغته أمام نفسه وأمام الآخرين، ويُعبّر عن ضحالته وحالته المتردّية

ولكي نصل إلى حالةِ الإبداع في اللغة علينا أن نمزج اللغة مع التفكير الذهني النشط، ليتكوّن لدينا نسيج لغةٍ غنيّة وواسعة.

ومع انتشار مواقع الأدباء المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي، تمّ فسح المجال أمام الجميع كي يطفو كلّ فردٍ كيفما يشاء ويروم، وأن يتواصل مع الآخرين في أي زمانٍ ومكان، متغاضياً عن أمرٍ مهم يتلخّص في أن هذا التواصل يحتاج في المقام الأول إلى اللغة.

ولعلّ إنتشار هذه المواقع ساهم بشكلٍ كبير في كشف عورات الآخرين اللغوية، وطفت على السطح الفجوة العريضة والواضحة بين مكوّنات المجتمع في التعبير اللغوي والإملائي والنحوي والكتابي، وتدنّى مستوى التعبير وتوضّحت ضآلته.

وبذلك تشكّلت في مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة واضحة المعالم من التلوّث اللغوي، حيث اتّسمت بعض النصوص بلغةٍ غير واضحةٍ، ولا تحكمها قواعد لغوية، أو نحوية أو صرفية وإملائية. والأمثلة بين أيدينا كثيرةٌ جداً.

وكثيرون لا يفقهون أو لا ينتبهون أو يتجاهلون الكلمات المنقوصة، أو الأفعال المعتلّة، أو التنوين، أو الشدّة، أو جمع المذكر السالم، أو الأفعال الخمسة، أو الأسماء الستة، أو الفعل المعتلّ. أيضاً هناك نماذج كثيرة حول هذه الأخطاء بين أيدينا.

كما إنتشرت في هذه المواقع الأدبية منها وفي وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ عام، عمليات السطو الأدبي، وتم فضح الأسماء التي تُمارس هكذا سطو، بل تمّ إنشاء مواقع متخصصة بفضح الذين يُمارسون السطو الأدبي وبالأسماء.

ولأن هذه المواقع انتشرت فيها الأخطاء اللغوية، لذا أسهمت بشكلٍ عفوي من خلال تكرار هذه الأخطاء إلى ترسيخها لدى الكثيرين الذين يستخدمون هذه المواقع، ممّا أدّى إلى إنتشار كتابات مشوّهة في حالاتٍ كثيرة، ومع الأسف هذه الكتابات المشوّهة تُقابل من أُدباء آخرين بنفس الموقع بتعليقات :

" رائع، قمة الإبداع، الله... روعة، بوحٌ رائع، يسلم اليراع، قلمكم نقش حرير المعاني ". وما إلى ذلك من عباراتٍ لا نستطيع أن نقول عنها إلاّ أنها نموذج واضح للدجل وللنفاق الثقافي والأدبي والاجتماعي، وخذلان لنقاء اللغة، ومساهمة واضحة في نشر التلوّث اللغوي وتوسيع مساحته.

كلّ هذه الأمور تختصر تاريخ طويل من الهزيمة الفعلية المُعاشة في المنطقة العربية بسبب ذاتي، وبسببٍ آخر يتمثّل بالغزو الثقافي المشبوه والشرير.

كما أن هناك كثير من الشباب الذين يتواصلون عبر مواقع التواصل الاجتماعي يستخدمون لغة ممزوجة بين العربية والاجنبية والأرقام يسمونها " فرانكو "، وإذا استخدموا اللغة العربية بمفردها لا يستطيعون بسبب الجهل باللغة العربية وبسبب الأخطاء الجسيمة التي يقعون بها. تُرى هل هذا بسبب التخبّط التربوي المعمول به في الإقليم، وترسيخ الإزدواجية اللغوية ؟.

بكل تأكيد إن مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الأخرى ليست مسؤولة عن هذا التردي، ولكن هذه المواقع بمجملها تعكس بشكلٍ واضحٍ ودقيق مدى التخلّف والجهل من خلال اللغة المستخدمة في هكذا مواقع.

وبنفس الوقت هناك مواقع تحترم نفسها، ولا تسمح بنشر أي مادة إذا لم تك سليمة لغوياً ونحوياً، لذا نرى أن عدد المواد المرفوضة عندها هي كثيرة.

وكلٌ منّا يُلا حظ في هذه الأيام أن معظم المدرسين لا يجيدون اللغة العربية، حتّى ولا يجيدون نطق الأحرف، ولا يهتمون بإخلاص في تدريس اللغة العربية لأجيال هذه الأمّة.

وإذا أحببنا أن نُعالج هذا الواقع، لا بُدّ من إعادة الإعتبار بشكلٍ جدّي للّغة العربية في كافة مراحل الدراسة بدءً من المرحلة الإبتدائية وصولاً إلى المرحلة الجامعية، وبهذه الحالة يتخرّج الطالب وهو مُلمّ بشكلٍ كامل بلغته الأم، حتّى ولو درس بعض العلوم باللغة الأجنبية، سيبقى ملمّاً ومتفوقاً في لغته لأن ذخيرته اللغوية فيها واسعة ويستوعبها بشكلٍ كامل.

أمّا الكتّاب الذين يطمحون نحو الإبداع، عليهم أن يدمجوا إسلوب قلمهم مع البلاغة، أي مع النحو والصرف، وبإسلوب أعلى لغوياً، حينها سنحصل على لغة واضحة وسليمة وبليغة، وتلج بسلاسة قلب المتلقي، الذي سيدرك تلقائياً قدرة الكاتب على تكوين كلام بليغ، وقدرته على اختيار الحرف المناسب.

نحن ندرك ونؤمن بدون أي شك، بأن لغتنا العربية عريقة وباقية، لكن مع الأسف إن سياسات مؤسساتنا الاعلامية والتربوية والثقافية قاصرة بكل معنى الكلمة لحماية لغتنا السامية على الدوام.

***

د. أنور ساطع أصفري

في المثقف اليوم